بدأت القصة حين أسست الملكة أليسار على أحد السواحل الإفريقية مدينة خلال القرن الثامن قبل الميلاد، لم تكن تعرف حينها أن هذه المدينة ستعيش عدداً من الهجمات والحروب على مدار قرون من قبل الرومان.
بعد مرور 400 سنة على تأسيس مدينة قرطاج غزا قائدها الذي كان يدعى"حنبعل" الفيالق الرومانية ودمرها، لتقوم الجيوش الرومانية بنهب وإحراق وتدمير المدينة سنة 146 قبل الميلاد، لتكون بداية ونهاية مدينة قرطاج التي عاشت 3 مخاطر وصراعاً مستمراً مع الروم.
لبنانية تُؤسس إمبراطورية بالساحل المتوسطي
قبل الميلاد بثمانية قرون، هربت الملكة الفينيقية أليسار من مدينة صور بالقرب من الساحل اللبناني، لتحط الرحال بأحد ضفاف البحر الأبيض المتوسط بإفريقيا، عند وصولها طلبت أليسار من حاكم المنطقة أن يمنحها أرضاً لتستقر بها هي ومن معها.
إلا أن الملك وعدها بأنه سيعطيها المساحة التي ستحيط بجلد الثور، في هذه الحالة قامت الملكة بتشريح الجلد إلى طبقات رفيعة كي تمكنها من الحصول على بقعة أكبر تستطيع بناء مدينتها عليها، كما ساعدتها خبرتها في الدبلوماسية والتفاوض في إنشاء إحدى أقوى المدن في العصور القديمة.
كان الفينيقيون أعظم بحّارة العصور القديمة، فرغم أن البوصلة لم تُكتشف بعد، فقد عرفوا كيفية العثور على اتجاهاتهم، حتى في الليل. وفي نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد تحولوا إلى التجارة البحرية، وبنوا مراكز ومستعمرة تجارية على البحر المتوسط، وكانت كل مستعمرة جديدة مستقلة، ولكنها تشترك مع المستعمرات الأخرى في اللغة والمعتقدات عينها.
سميت المدينة بقرطاج، وتعني المدينة الجديدة، هذه المدينة توسع نفوذها من إسبانيا إلى قبرص وأصبحت في وقت قصير إمبراطورية بحرية حقيقية واتحاداً اقتصادياً.
الصراع بين مدينة قرطاج والروم
بعد تأسيس روما في شبه الجزيرة الإيطالية، كانت بدايتها عنيفة، كما شملت العديد من الحروب المتكررة مع جيرانها. خلال القرن الثالث قبل الميلاد لم يكن هناك نقص في العداء في هذا الجزء من العالم، إذ كان عدد كبير من الشعوب والمدن والممالك في حركة دائمة، فقد ظل الإسكندر الأكبر يحوم فوق شرق البحر الأبيض المتوسط.
خلال قرون تطورت كل من روما وقرطاج؛ إذ كانت مدينة قرطاج قوة بحرية متغلغلة في إفريقيا، بينما كانت روما قوة برية ترتكز على الأرض، كما عقدت المدينتان العديد من الاتفاقيات التجارية إلى أن ذاقت روما طعم الغزو والسلطة.
حسب "britannica" خلال سنة 260 قبل الميلاد هزم الأسطول الروماني أسطول قرطاج، وشكلت تلك صدمة؛ فقد سُحق واحد من أعظم الجيوش البحرية في البحر المتوسط كله على أرضه، وكان ذلك أول انتصار بحري كبير في التاريخ العسكري الروماني، ولكنه ليس الأخير.
بعد 4 سنوات بدأت الفيالق تنزل في صقلية، ومنذ ذلك الحين بدأ الحصار تلو الآخر، وسجل كل معسكر نقاطاً خاصة، مدركاً أن الصراع سيُحسم بالسيطرة على البحر، وقد صوّت مجلس الشيوخ الروماني لبناء أسطول كبير، وجنّد بحارة يونانيين من جنوب إيطاليا، كما استعانت قرطاج بالمرتزقة، أما في صقلية فقد نجحت قوات الجنرال اللامع "حملقار برقا" بتدمير الفيالق الرومانية.
بعدما دام الصراع لسنوات وسقوط عدد كبير من الضحايا في كل من القوتين انتصر الأسطول الروماني وأنزل قوته إلى إفريقيا، أما في عام 241 قبل الميلاد، فكانت المواجهة ضخمة قبالة الجزر العقَادِية.
كانت الحرب مكلفة وخطيرة، وقد اختار مجلس الشيوخ بمدينة قرطاج الخروج من هذا الصراع باستخدام المال والدبلوماسية، واتخذت المدينة خياراً عملياً بتجنيد المرتزقة لإنقاذ مواردها البشرية المحدودة، وهكذا لم تكن الجيوش القرطاجية دائمة، فقد افتقرت إلى التماسك.
شكّل الليبيون والنوميديون والأيبريون والسلتيون المشاة والخيالة، واعتمد الجنرالات القرطاجيون أيضاً على دبابات ذلك العصر، وهي فيلة الحرب التي دُرّبت على مهاجمة صفوف العدو، وكسر صفوفه الأولى، ونشر الذعر بدهسها للجنود.
مدركاً ضعف أسطوله، قرر "حَنبَعل" مباغتة الرومان والسفر براً لبلوغ إيطاليا عبر الحاجز الطبيعي لجبال الألب، وهدفه تحريض حلفاء روما وهزيمة الفيالق الرومانية، وعندما علم أعضاء مجلس الشيوخ الروماني بإنجاز "حَنبَعل" أصيبوا بالذعر، وأرسلوا جيشاً على الفور لمواجهته، ثم جيشاً آخر، وهكذا، وقد هُزمت هذه الجيوش كلها.
المعركة الأخيرة وتدمير قرطاج
بعدما هزم حنبعل الجيوش الرومانية كانت هذه هي النقطة الفاصلة في تاريخ قرطاج؛ إذ كان عليه التقدم إلى "روما"، والاستيلاء على المدينة، والقضاء على الطموح الروماني في مهده. لو أنه فعل ذلك، لكنا اليوم نعيش في عالم لم يعرف أبداً الإمبراطورية الرومانية، ولحدثت نتائج كثيرة وخطيرة كانت ستغير وجه العالم.
إلا أنه لم يقم بذلك بعدما هبطت القوات الرومانية إلى إفريقيا عبر الجنرال "سيبيو" الذي تحالف مع إحدى الإمارات الإفريقية، وهنا أصبحت قرطاج مهددة بالاستيلاء عليها. هذه الخطة قلبت الموازين وتسببت في خسارة الحرب أمام الجيوش الرومانية رغم الإمكانيات الجيدة التي كان يمتلكها أسطول المدينة، إلا أن المدينة كانت مضطرة لتسليم أسطولها بالإضافة إلى فيلة الحرب.
وفي عام 146 قبل الميلاد، وبعد حصار طويل دام ثلاث سنوات، كانت المعركة الأخيرة في هذه الحرب القديمة، فدخلت القوات الرومانية المدينة المحترقة، ودار القتال بين البيوت فيما امتلأت الشوارع بالجثث.
كان القرطاجيون المحاصرون يعرفون أنهم يقاتلون من أجل البقاء، لكن بلا جدوى، فخلال 6 أيام غرقت المدينة في النيران واستسلمت للنهب، وأُخضع الناجون للعبودية، وأُعلنت الأرض أنها "ساسير"، أي ملعونة، وُمنع منعاً باتاً على أي شخص الاستقرار هناك.
نهاية قصة أعظم الإمبراطوريات قبل الميلاد
لقد دُمرت قرطاج في العام عينه بشكل كلي وحقيقي، وخضعت اليونان للفيالق الرومانية إلى الأبد، وسرعان ما امتد نفوذ روما على البحر الأبيض المتوسط كله، ومع ذلك فإن هذا التوسع والتدفق للثروة سيغيران تماماً استقرار دولة المدينة الأصلية.
تعرف اليوم هذه الحروب الثلاث المتتالية التي أدت إلى تدميرها بـ"الحروب البونيقية"، وهي كلمة لاتينية وليست قرطاجية، تكشف أن المنتصرين هم من يصنعون التاريخ.
روما هي التي نجت من قرن الحروب، بفضل تركيبتها السكانية القوية التي أظهرت مرونة لا تنكسر، وقدرة هائلة على التعامل مع الضربات المروعة دون الاستسلام أبداً، ورغم تدمير جيوشها واستعداد "حَنبَعل" لتوجيه ضربة قاضية، فقد رفضت روما الاستسلام واستعدت للانتقام، وخلال تاريخها الطويل، يبدو أن روما ظلت ترفض التفاوض من دون ضمان النصر أولاً.