حتى منتصف القرن الـ16 لم تكن البحرية البريطانية قوة ذات تأثير كبير في العالم، وبينما سيطر الأسطول الإسباني والبرتغالي على محيطات العالم، وعلى التجارة، ونقلوا البضائع والذهب من آسيا وأمريكا الجنوبية، كانت بريطانيا مجرد متفرج، أو قوة صغيرة في أحسن أحوالها.
لكن مع نهاية ذلك القرن، ظهر الأسطول البريطاني للوجود، وبدأت معه عملية تجنيد البحارة بأغرب الطرق والأساليب، واستخدام تقنيات مختلفة في بناء السفن، مكنت البحرية البريطانية خلال أربعة قرون لاحقة من بسط سيطرتها على العالم، وكانت الأساس لظهور الإمبراطورية البريطانية، بل وهزمت إسبانيا وهولندا وتفوقت على فرنسا.
وعبّر "السير والتر رالي"، الكاتب والمستكشف الإنجليزي عن أهمية السيطرة على البحار، وقال: "من يسيطر على البحر فإنه يتولى التجارة، ومن يسيطر على التجارة في العالم يسيطر على ثروات العالم، وبالتالي العالم نفسه".
ويقول المؤرخ آرثر هيرمان "إن البحرية البريطانية أعادت تشكيل العالم ليناسب الإمبراطورية البريطانية".
ولكن تضافرت عدة عوامل لتنتهي معها سيطرة البحرية البريطانية على بحار العالم، وحتى خطة تطويرها لاحقاً كانت خطوة نتائجها عكسية، أسهمت في نهاية أسطورة الأسطول البريطاني، ونهاية الإمبراطورية البريطانية.
تأسيس الأسطول البريطاني لحماية شواطئ بريطانيا
رغم كون إنجلترا دولة تحيط بها المياه تقريباً من كل جانب، لكن لم تكن لديها قوة بحرية عسكرية نظامية حقيقية، ولقرون عندما شن ملوك إنجلترا الحروب أو إطلاق حملة عسكرية عن طريق البحر، اعتمدوا على السفن الخاصة للتجار وصيّادي الأسماك. على سبيل المثال عندما حشد "إدوارد الثالث" أسطولاً بحرياً من 700 سفينة لغزو فرنسا عام 1347، كانت 30 سفينة فقط ملكاً للتاج.
لكن الملك هنري السابع قرّر تغيير هذا الأمر، وبناء الأسطول البريطاني بشكل نظامي، ليصبح قوة تستطيع حماية شواطئ إنجلترا، وحتى وقت وفاته تم بناء 5 سفن حربية جديدة فقط، لكنها كانت أكبر بكثير من السفن التجارية الاعتيادية.
تسلم هنري الثامن الحكم من بعد أبيه، وعلى خلاف أبيه كان هنري الثامن متعطشاً لبناء الإمبراطورية البريطانية، وليس فقط حماية الشواطئ، فخصص أموال الضرائب للاستثمار في أحواض بناء السفن والسفن القتالية، التي تمتعت بميزة تسليح جديدة من صفوف مزدوجة من المدافع.
بالإضافة إلى أحواض بناء السفن، كان لا بد من بناء مستودعات كبيرة، لأن السفن الجديدة كانت بحاجة إلى الكثير من الإمدادات. أنشأ هنري أيضاً مجلس البحرية، الجناح الإداري للبحرية، الذي أشرف على تسيير أمور البحرية، وبحلول الوقت الذي توفي فيه هنري الثامن عام 1547، كان عدد السفن في الأسطول البحري قد وصل إلى أكثر من 40 سفينة.
بعد السيطرة على اسكتلندا وتأسيس الإمبراطورية البريطانية، لم يعد لدى إنجلترا أي حدود برية تخشاها، ولم تعد هناك حاجة لوجود جيش بري كبير دائم، فتركز الاهتمام أكثر على بناء السفن وتقوية الأسطول البحري البريطاني.
وفي ذلك الوقت كانت المعارك البحرية لعبة أرقام، فكانت الأفضلية للقوة البحرية التي تمتلك أكبر عدد من المدافع وسفناً أكثر، وهذا ما حدث في بريطانيا، وكان له أثر جانبي آخر أسهم في تقوية بريطانيا العظمى وتقوية بحريتها.
يقول المؤرخ آرثر هيرمان: "إن الاعتماد على البحرية بدلاً من الجيش كفل أيضاً أن تصبح إنجلترا دولة ليبرالية نسبية، ويصبح للبرلمان سلطة أكبر، بدلاً من ديكتاتورية عسكرية. وأصبحت البحرية، من خلال توسيع التجارة وإيرادات الدولة، تعتمد على نفسها تقريباً. وكان هذا سبباً لزرع الثقة في البحرية البريطانية.
وأصبح الشعب البريطاني يؤمن بشدة بأن أفضل وسيلة للدفاع عن بلادهم، وأضمن طريقة لكسب المال، تكمن في البحر. فتم توفير الأموال لصيانة السفن والأحواض الجافة والموانئ والمسابك وإنشاء تمويل حكومي لهذه العملية.
بينما تذبذبت القوات البحرية الأوروبية الأخرى، حيث تشهد صعودها عندما يتولى العرش ملك متحمس للقوة البحرية، وما تلبث أن تفقد تمويلها عند تولي ملك متشكك بجدوى القوة البحرية للسلطة، أو تركيز ذلك الملك على قضايا أخرى لتمويلها، بينما في بريطانيا بقيت البحرية مركز اهتمام الحياة العامة.
زيادة أفراد البحرية البريطانية بطرق ملتوية أحياناً
مع بداية الحرب مع فرنسا عام 1793، أصدر البرلمان البريطاني مرسوماً يقضي بزيادة القوى العاملة في البحرية البريطانية، وتم استخدام 3 طرق لتوفير الأعداد المطلوبة: "عصابات الإبهار"، والمتطوعون، وقوانين الحصص.
1- "عصابات التجنيد"
خلال الحروب مع فرنسا ظهرت مكاتب التجنيد، وكان دورها إقناع المواطنين للتطوع في البحرية البريطانية، مقابل وعود الحصول على "المجد" والأموال، وكان العاملون في تلك المكاتب يحصلون على مكافأة عن كل شخص يقنعونه بالتطوع في البحرية.
وكانوا في العادة يتواجدون في كل ميناء كبير في إنجلترا، لضمان حصولهم على أشخاص يعملون على السفن ولديهم خبرة في البحر، لاحقاً وطمعاً في المال استأجر العاملون في مكاتب التجنيد رجالاً من أصحاب السوابق والعصابات، وأصبحوا يُعرفون بـ"عصابات التجنيد"، وهؤلاء كانوا يجوبون المدن والقرى لإجبار الرجال على التطوع في البحرية البريطانية.
لم يكن أحد في مأمن منهم، وكان طريق الهروب الوحيد منهم هو محاولة رشوة العصابة بمبلغ أكبر من الذي كانوا سيحصلون عليه من مكاتب التجنيد.
2- المتطوعون
كان المال دافعاً جيداً، ليصبح العديد من البريطانيين بحارة في الأسطول البريطاني، خاصة أن البحرية البريطانية كانت تدفع رواتب شهرين مقدماً مع مكافأة لكل من يتطوع، كما وفرت الحماية للأشخاص المدينين والمحكوم عليهم بالسجن بسبب الديون مقابل تطوعهم، كما وفر لهم الراتب فرصة لتسديد الديون، ووفرت لهم البحرية ضماناً بعدم دخول السجن.
وكان المتطوعون موضع تقدير كبير، وعادة ما يكونون أفضل أفراد الطاقم، حيث كان التعبير السائد وقتها "أفضل متطوع واحد من ثلاثة رجال مجندين (ويقصد بهم الذين جلبتهم عصابات التجنيد)"
3- الحصص المفروضة وقانون الكوتا
في عام 1795، أصدر البرلمان البريطاني "قانون الكوتا"، والذي فرض على كل مقاطعة إنجليزية عدداً معيناً من الرجال، ليصبحو أفراداً في الأسطول البريطاني، واختلفت الأعداد بحسب التعداد السكاني لتلك المدن.
ورغم المكافآت التي تُمنح للمتطوعين تقدم عدد أقل من المطلوب، فكان الحل منح المجرمين فرصة تجنب العقوبة في السجن، مقابل التطوع في البحرية البريطانية، وفضل الكثيرون التطوع على السجن.
كيف أسهمت الثورة الفرنسية في صعود الأسطول البريطاني
بالنسبة لفرنسا، كانت البحرية تعاني للحفاظ على تفوقها البحري، ومع الثورة الفرنسية التي أسقطت النظام الملكي، تم إعدام الكثير من القادة والضباط في البحرية الفرنسية باعتبارهم موالين للملك، الأمر الذي تسبب بهروب الكثير من المتبقين خوفاً على حياتهم، بل وخدم بعضهم أحياناً في أساطيل الدول الأخرى.
ومن بين جميع ضباط البحرية الفرنسية في عام 1790، بقي 25% فقط في الخدمة عام 1791، وبعد عدة معارك مع الأسطول البريطاني، وفي عام 1801، كان هناك حوالي 70 ألف أسير من البحرية الفرنسية في أيدي البريطانيين، بسبب التخبط في القيادة الفرنسية البحرية.
حققت البحرية البريطانية الانتصارات المتتالية، لأنها كانت أفضل تنظيماً وأفضل تمويلاً وأفضل تجهيزاً من أعدائها. واكتسبت البحرية البريطانية ميزة واضحة في عصر السفن الشراعية، مع ترتيب مدافعها، وعندما غطت قعر سفنها بالنحاس، ما جعلها أسرع وأكثر قدرة على المناورة وأكثر متانة.
القرن الإمبراطوري البريطاني "pax britannica"
كلمة (Pax Britannica) كلمة لاتينية تعني "السلام البريطاني"، وهي تسمية القرن بين عام 1815 وبداية الحرب العالمية الأولى عام 1914، وهي فترة ذروة قوة الإمبراطورية البريطانية والبحرية البريطانية.
فمع الهزيمة النهائية لفرنسا عام 1815، أصبح الأسطول البريطاني بدون منافس حقيقي في البحار. وخرجت البحرية الملكية البريطانية منتصرة من الحروب مع نابليون، كأكبر قوة بحرية في العالم، ما سمح لبريطانيا بالسيطرة على طرق التجارة البحرية بلا منازع لبقية القرن.
وبعد هزيمة فرنسا، اكتسبت بريطانيا المستعمرات الفرنسية السابقة، بما في ذلك مالطا ورأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا وسريلانكا، وبالتالي سيطرت على أهم الطرق البحرية حينها.
ونما نفوذ بريطانيا في آسيا مع ضمها سريلانكا، وسيطرت بريطانيا أيضاً على التجارة مع العديد من البلدان مثل الصين وتايلاند والأرجنتين، وساحل عمان، وأسهمت البحرية البريطانية في الاحتلال البريطاني للهند في عام 1858، وبالتالي سرقة ثروات تلك البلاد بمختلف الطرق، وتوفير المزيد من الجنود، لاحتلال المزيد من البلدان.
سيطرت بريطانيا أيضاً على مصر في عام 1883، ما سمح للإمبراطورية البريطانية بتأمين ممر للتجارة عبر البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط عبر قناة السويس. واستمر النفوذ البريطاني على مصر الخاضعة للحكم العثماني لمدة 70 عاماً.
بعد كل هذه الشبكة البحرية الكبيرة، وسرقة ثروات المستعمرات البريطانية، أصبحت مستعمرات بريطانيا ورشة عمل الكوكب، وتهيمن على العالم في مجالات الصناعة والتجارة والتمويل والشحن. وأنتجت ثلثي فحم العالم، ونصف الحديد، وحوالي 70% من الفولاذ، ونصف كميات القماش.
كانت بريطانيا بلا منازع في أي من هذه المجالات، وتمكنت من بناء إمبراطورية بحلول نهاية القرن، أكبر إمبراطورية شهدها العالم على الإطلاق، وشكلت البحرية الملكية وحركة التجارة معاً أساس النجاح الاستثنائي لبريطانيا في السنوات ما بين 1815 و1914.
وفي عام 1905 أعلن الأدميرال لورد فيشر: "أن الإمبراطورية البريطانية هي قوة بحرية واستعمارية عظيمة، وأن الإمبراطورية البريطانية (تطفو) على بحريتها".
نهاية الأسطول البريطاني والإمبراطورية البريطانية
سيطرت بريطانيا على البحار جزئياً، لأنه لم تحاول أي دولة أخرى منافستها، لأن بقية الدول لم تكن لديها الإمكانات، أو تحت ضغوط اضطرابات داخلية كثيرة، لكن ومع اقتراب نهاية القرن بدأت الدول الأخرى في اللحاق بالريادة الصناعية لبريطانيا، بل وتجاوزتها أحياناً، في تطوير أساطيل بحرية وإن كانت صغيرة لكنها فعالة.
وعندما وجّهت روسيا وأمريكا وألمانيا اهتمامها إلى البحر في بداية القرن العشرين، لاحت معالم قوى بحرية متعددة الأقطاب، من النوع الذي شوهد في القرن السابع عشر.
خلال الحربين العالميتين، لعبت البحرية البريطانية دوراً كبيراً في تزويد بريطانيا العظمى بالطعام والأسلحة والمواد الخام، وفي الوقت نفسه هزيمة الحملات الألمانية البحرية التي استخدمت الغواصات في المحيط الأطلسي.
وخاضت البحرية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى العديد من المعارك، كما كانت البحرية البريطانية متورطة بشدة في حملة الدردنيل ضد الإمبراطورية العثمانية، وخلال تلك المعارك، وإن حقق بعضها أهدافها، لكنها تسببت بخسائر مادية وبشرية كبيرة للأسطول البريطاني.
لاحقاً، في فترة ما بين الحربين العالميتين، جُردت البحرية البريطانية من الكثير من قوتها. بعد توقيع معاهدة واشنطن البحرية لعام 1922، والمعروفة أيضاً باسم "معاهدة القوى الخمس" بين الدول الكبرى التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى، وهي دول بريطانيا وأمريكا وفرنسا وإيطاليا واليابان.
وبموجب تلك المعاهدة وافقت تلك الدول على منع سباق التسلح، عن طريق الحد من تطوير القوى البحرية. وتقييد بناء البارجات وطرادات المعارك وحاملات الطائرات في الدول الموقعة.
أسهمت تلك المعاهدة والكساد الاقتصادي بعد الحرب العالمية في تناقص أعداد السفن الكبرى في البحرية البريطانية.
وكانت الإضافات الجديدة إلى الأسطول البريطاني ضئيلة للغاية خلال عشرينيات القرن الماضي، لكن بريطانيا حاولت أن تصلح خطأها بتطوير البحرية البريطانية، وتعويض ما فاتها، ولكنها كانت تُسهم في تراجع قوتها البحرية من حيث لا تدري.
بحلول عام 1938 أصبحت المعاهدة لاغية، وكانت إعادة تسليح وتطوير البحرية البريطانية جارية على قدم وساق، فتم بناء سفن كبيرة ومدمرات وطرّادات، وأُجريت العديد من التغييرات على السفن القديمة، نتيجة لذلك دخلت البحرية الملكية الحرب العالمية الثانية كقوة غير متجانسة، مؤلفة من سفن حربية محدودة بسبب التقيد بالمعاهدة.
ومع ذلك فقد ظلت قوة لها وزنها نوعاً ما، لكنها أصغر حجماً مما كانت عليه خلال الحرب العالمية الأولى.
وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية كان من الواضح أن حاملات الطائرات والغواصات كانت السلاح المهيمن الجديد في الحروب البحرية، وأن التفوق البحري السابق لبريطانيا بسبب السفن الحربية فقط أصبح لاغياً.
وخلال تلك الحروب أُعيد توزيع الأسطول البريطاني، والتخلي جزئياً عن سياسة استخدام الأسطول لدعم التجارة من أجل إعطاء الأولوية للدفاع عن بريطانيا. وتغيرت تركيبة البحرية البريطانية وتوزيعها ودورها تماماً عما كانت عليه خلال "pax britannica". فبعد أن كان دورها محاصرة منافسيها الأوروبيين وتدمير قدراتهم البحرية، أصبح التركيز بعد الحرب العالمية الثانية على بناء سفن يكون مقرها قرب سواحل بريطانيا.
ومع حصول معظم مستعمرات بريطانيا على استقلالها، انتهت البحرية البريطانية كقوة عظمى، وانتهت معها أسطورة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.