في الوقت الذي كان يريد فيه القائد العسكري العثماني أنور باشا (وزير الحربية) استعادة الأراضي التي احتلها الروس شرقي الأناضول، عن طريق معركة شارك فيها أكثر من 70 ألف جندي عثماني، لم يكن يعلم أن قراره هذا سيُنهي حياة أغلب جنود هذا الجيش، ليس بسبب الحرب مع الجيش الروسي، وإنما بسبب البرد القارس الذي عرفه موقع المعركة.
بسبب الأخطاء العسكرية، وسوء إدارة الجيش، انهزم العثمانيون أمام الجيش الروسي خلال المعركة التي أطلق عليها اسم "صاري قامش"، نسبةً للمنطقة التي وقعت فيها الأحداث، التابعة حالياً لولاية قارص التركية.
وعلى مر السنين، وبعد استعادة الأراضي التي حارب من أجلها العثمانيون خلال هذه المعركة بداية الحرب العالمية الأولى، أصبح الأتراك حريصين على إحياء ذكرى وفاة جنودهم، من خلال صنع "تماثيل لهم من الثلج" في ولاية قارص.
معركة "صاري قامش" لاسترداد الأراضي العثمانية من الروس
خلال "حرب 93″، التي دارت بين الدولة العثمانية، والإمبراطورية الروسية، في منطقتي البلقان والقوقاز، سنتي 1877، و 1878، فقدت الدولة العثمانية، التي كانت تحت قيادة السلطان عبد الحميد الثاني في سنوات حكمه الأولى، جزءاً من أراضيها وهي: باتومي، وقارص، وأردهان، صاري قامش.
إذ تم الإعلان عن انضمام هذه الأراضي إلى روسيا، بعد أن كانت تحت الحكم العثماني من سنة 1396، إلى غاية 1878.
وإبان الحرب العالمية الأولى، قرر الجيش العثماني، بقيادة القائد العسكري أنور باشا، الذي كان قد شارك في الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908، استعادة الأراضي التي كانت تحت الحكم العثماني لمئات السنين، وأصبحت محتلة من طرف الروس.
حيث قرر التحرك بعد هجوم روسيا على الدولة العثمانية من جديد، في الثاني من شهر نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 1914، رغبة منها في احتلال أراضٍ أخرى بالقرب من ولاية قارص.
جاء قرار أنور باشا في شن الحرب على الجيش الروسي، ابتداء من 22 ديسمبر/كانون الأول 1914، بعد الهزيمة التي تعرض لها الروس أمام الألمان، في معارك ماسوريان وتاننبرغ على الجبهة الشرقية الأوروبية، مما جعل الإمبراطورية الروسية غير قادرة على إمداد جيشها في شرقي الأناضول.
وبالرغم من الجو البارد الذي عرفته المناطق المحتلة من طرف الروس، وتساقط الثلوج، إلا أن أنور باشا قرر عدم التراجع في قراره، وبدأ المعركة، التي شارك فيها عشرات الآلاف من الجنود العثمانيين.
عاصفة ثلجية تقلب موازين المعركة لصالح الجيش الروسي
مرت معركة "صاري قامش" بشكل جيد بالنسبة للجيش العثماني، خلال اليومين الأولين، لكن الأمور بدأت تنقلب إلى الأسوأ في الأيام الأخرى، وتحولت لصالح الجيش الروسي، الذي سرعان ما شن هجومه بشكلٍ عنيف.
وخلال يومي 3 و4 يناير/كانون الثاني من سنة 1915، اشتدت العاصفة في صاري قامش، وبينما كان المعتاد في طقس هذه المنطقة أن يكون أقل من 8 درجات، إلا أنّها وصلت إلى أقل من 30 درجة تحت الصفر في وقت المعركة، ما تسبب في تدمير خيام الجيش العثماني، وإغلاق جميع الطرق والمنافذ الممكنة من حولهم.
خصوصاً أن أنور باشا كان قد قرر حينها مواجهة الجيش الروسي عبر عبور جبل "الله أكبر"، الذي يعتبر من بين أكثر الجبال ارتفاعاً في بعض الجهات، في منطقة صاري قامش.
وفي نفس الوقت، هاجمت البحرية الروسية السفن التي كانت متوجهة إلى الجيش العثماني، عبر البحر الأسود من أجل إمدادهم بالطعام، والملبس، خصوصاً أن أغلبية أفراد الجيش كانوا يرتدون ملابس غير مناسبة لدرجة الحرارة المنخفضة جداً هناك، الأمر الذي زاد سوء أوضاع الجيش العثماني، وأثر سلباً على حركتهم ضد الروس.
عشرات الآلاف من الجيش العثماني ماتوا بسبب البرد
بعد أن اشتد البرد على الجنود العثمانيين، لم يتمكن عدد كبير منهم من الصمود، إذ ذكرت بعض المصادر أن 40 ألفاً منهم ماتوا متجمدين في مكان المعركة، بسبب العاصفة الثلجية، فيما أشارت مصادر أخرى إلى أن العدد الإجمالي للذين قضوا برداً قد وصل إلى 60 ألف جندي.
أما فيما يخص الجيش الروسي، فقد تم إعلان وفاة ما يقارب 32 ألف جندي، وهم الذين كانوا مستمرين في الحرب بقيادة رئيس قيادة أركان قوات القوقاز الجنرال نيكولاي يودينتش، الذي قرر الاستمرار في المعركة، بالرغم من قرار قائد قوات القوقاز الروسية إخلاء صاري قاميش.
وبسبب الأجواء المناخية الصعبة على الجيش العثماني، والتي تسببت في موت الأغلبية منهم، تمكن الجيش الروسي من احتجاز ما يزيد عن 7 آلاف جندي و200 ضابط، بعد أن قام بقطع طرقهم، لتنتهي المعركة بخسارة العثمانيين المعركة في 17 يناير/كانون الثاني 1915.
إحياء ذكرى الجنود العثمانيين في قارص
يشار إلى أنه تمت استعادة مدينة قارص بشكل نهائي، وانضمامها إلى أراضي الدولة التركية الحديثة، خلال فترة حروب الاستقلال في الفترة ما بين 1919 و1923، بقيادة مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.
فيما أصبح سكان المدينة يشاركون سنوياً في إحياء ذكرى الجنود الذين ماتوا من البرد القارس، في معركة "صاري قامش"، عن طريق تشكيل منحوتات لهم من الثلج، بالقرب من الأماكن التي وقعت فيها المعركة.