شهد عام 1942م الذي تحولت فيه ديناميكية الحرب العالمية الثانية لصالح قوات الحلفاء، لحظتين محوريتين في مسار تلك الحرب، فقد نجح البريطانيون في قلب مجرى المواجهة ضد ألمانيا النازية في شمال إفريقيا، عندما هزمت القوات البريطانية، بقيادة المشير برنارد مونتغمري، القوات الألمانية التي كانت تحت قيادة الجنرال إروين رومل في معركة العلمين بمصر، والتي جرت وقائعها ما بين شهري أكتوبر/تشرين الأول، ونوفمبر/تشرين الثاني 1942.
كما استطاعت الولايات المتحدة الانتصار في معركة ميدواي ضد اليابان في يونيو/حزيران من العام ذاته، لكن لا العلمين ولا ميدواي يحملان الصدى نفسه الذي خلفته معركة ستالينغراد بين قوات الجيش الأحمر السوفييتي وقوات الفيرماخت الألمانية، فقد كانت هذه المعركة من أضخم وأقوى المعارك التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، كما مثّل انتصار السوفييت في ستالينغراد نقطة الانعطاف الحقيقية في مسار الحرب.
بعد الفشل في موسكو، هتلر يستهدف ستالينغراد
عند انتصاف الحرب العالمية الثانية في ربيع 1942م، كانت ألمانيا النازية قد احتلت معظم أراضي أوكرانيا وبلاروسيا الحالية، وكانت تضع بين عينيها هدفاً استراتيجياً هو احتلال عاصمة الاتحاد السوفييتي، "موسكو"، فقرّرت قوات الفيرماخت الألمانية شنّ هجوم على جنوب روسيا في صيف ذلك العام بحسب history.
قبل ذلك، نجحت القوات السوفييتية بقيادة رئيسها الجنرال جوزيف ستالين، خلال شتاء 1941 و1942م، في صد هجوم ألماني على الجزء الغربي من البلاد، كان هدفه النهائي هو الاستيلاء على موسكو، كلّف ذلك الهجوم الاتحاد السوفييتي خسائر كبيرة، سواء من حيث القوة البشرية أو الأسلحة، وزاد من أمل الألمان بأنّ لحظة انتهاء صمود السوفييت قد اقتربت.
كان توقع ستالين وجنرالاته، بمن فيهم زعيم الاتحاد السوفييتي المستقبلي نيكيتا خروتشوف، أنّ هناك هجوماً نازياً آخر على موسكو، وأن تركيز الألمان سيبقى منصبّاً نحو العاصمة السوفييتية، لكن كان لدى هتلر وقوات الفيرماخت رأي آخر.
فقد وضع هتلر أنظاره على مدينة ستالينغراد، لأن المدينة كانت بمثابة مركز صناعي للاتحاد السوفييتي،حيث كانت تزود الجيش الأحمر السوفييتي بذخائر المدفعية، ومن جهة أخرى، كان نهر الفولجا الذي يشقّ المدينة، طريقاً ملاحياً مهماً يربط الجزء الغربي من البلاد بمناطقه الشرقية البعيدة.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي نشبت فيها معركة ضارية للسيطرة على هذه المدينة، فخلال الثورة البلشفية، خاضت القوات الروسية صراعاً لمدة عامين للسيطرة على المدينة، التي صارت تسمى بـ"ستالين غراد" على اسم الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين بعد نهاية الثورة البلشفية.
في النهاية، أراد أدولف هتلر أن يحتل الفيرماخت ستالينغراد، من أجل قيمتها الدعائية، نظراً لأنها تحمل اسم ستالين كما سبق ذكره، ولأسباب مماثلة، شعر الروس السوفييت بضرورةِ خاصة لحمايتها.
كان كل شيء يوحي بأنّ معركة ستالينغراد ستكون أكثر المعارك فتكاً في تاريخ الحرب العالمية الثانية، فعندما أعلن هتلر أنه عند الاستيلاء على ستالينغراد، سيتم قتل جميع سكان المدينة الذكور وترحيل نسائها، أمر ستالين جميع الروس السوفييت القادرين على حمل بندقية، بحمل السلاح دفاعاً عن المدينة التي تحمل اسمه.
هتلر يختار فصل الصيف لهجومه على ستالينغراد
صعّب الشتاء القاسي من مخططات الزعيم الألماني الرامية لإخضاع الجبهة الشرقية، ومع دخول فصل الصيف المعتدل في الأجواء السوفييتية، قرّر هتلر استئناف هجومه على الاتحاد السوفييتي.
كانت مدينة ستالينغراد مدينة صناعية واقعة على نهر الفولغا، لا تنتج فقط الإمدادات العسكرية، بل كانت تمثِّل أيضاً محوراً استراتيجياً رئيسياً في غزو روسيا، ومن شأن السيطرة عليها أن تؤمِّن الجناح الأيسر للجيش الألماني في طريق تقدّمه إلى منطقة القوقاز الغنية بالنفط، فكان الهدف الألماني الرئيسي للهجوم على ستالينغراد، هو قطع الوقود عن الجيش الأحمر السوفييتي.
في 23 أغسطس/آب 1942، وصل الجنود الألمان إلى شمال ستالينغراد، وفي اليوم نفسه بدأ النازيون الهجوم على المدينة أولاً عبر الجو، فقصفوا نهر الفولغا ثم مدينة ستالينغراد، وهو ما حوَّل نسبة كبيرة من المدينة إلى خراب ودمار.
كان حجم الدمار والقصف العنيف والعشوائي للقوات الألمانية على مدينة ستالينغراد، أول خطأ وقع فيه الألمان خلال المعركة.
وذلك حسب المؤرخ الفرنسي فرانسوا كيرسودي، مؤلف كتاب "ستالينغراد نقطة تحوّل الحرب"، الذي يرى أنّ: "الدفاع عن مدينة مدمرة أسهل بكثير من الدفاع عن المدينة التي لا تزال فيها جميع المباني قائمة، فقد وجد الألمان صعوبة متزايدة في طرد السوفييت من مواقعهم في هذا المشهد من الأنقاض".
أمام الدمار الهائل الذي خلّفه القصف الألماني الكثيف، طلب جوزيف ستالين مِن جميع مَن يقوى على رفع السلاح بالتوجه إلى ستالينغراد والدفاع عنها. قامت النساء السوفييتيات بحفر الخنادق على خطوط الجبهة، بينما تولى العمال القتال.
كان ستالين يريد من قواته الصمود حتى النهاية، ففي 28 يوليو/تموز، أعلن ستالين "الأمر رقم 277" الشهير، الذي حظر على القوات مغادرة المدينة وإلاّ واجهوا المحاكمة العسكرية وربما الإعدام.
في المرحلة الأولى من المعركة، تمكنت القوات البرية الألمانية من الزحف إلى داخل ستالينغراد، فقد سيطرت قوات الفيرماخت على 90% من المدينة، ولم يتبق للسوفييت سوى منطقة ستالينغراد الصناعية في الشمال، بحسب ما ورد في تقرير موقع france24.
في 10% مما تبقى من ستالينغراد، كان على الألمان الدخول في تكتيك عسكري لم يألفوه من قبل، وهو حرب المدن، إذ لم تقاتل القوات الألمانية في المدن من قبل.
في هذا الصدد، يشير المؤرخ الفرنسي كيرسودي في كتابه السابق، إلى أنّ الألمان اعتادوا على المناورات الكبيرة في الأراضي المفتوحة، وقد واجهوا مشكلتين كبيرتين خلال المعركة، بحيث إنّ الجيش الأحمر السوفييتي كان بإمكانه الهجوم على القوات الألمانية من خلال الأنفاق والمجاري الصحية، كما استمر السوفييت في قصف المواقع الألمانية بالمدفعية من الجانب الآخر من نهر الفولغا، والتي لم تتمكن قوات الفيرماخت من عبوره.
مع أقل من 20 ألف جندي في المدينة وأقل من 100 دبابة، بدأ جنرالات ستالين أخيراً في إرسال تعزيزات إلى المدينة والمناطق المحيطة بها. احتدم القتال في شوارع ستالينغراد، حيث استخدم كلا الجانبين قناصة على أسطح مباني المدينة.
في الخريف، انضم الجنرالان جورجي جوكوف وألكسندر فاسيليفسكي إلى قيادة القوات السوفييتية في شمال وغرب ستالينغراد، ومن هناك شنوا هجوماً مضاداً، عُرف باسم عملية أورانوس، بحسب الموسوعة البريطانية.
على الرغم من تكبدهم خسائر كبيرة مرة أخرى، إلّا أن القوات السوفييتية تمكنت من تشكيل حلقة دفاعية حول المدينة بحلول أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1942، محاصرة ما يقرب من 300 ألف جندي ألماني.
الشتاء القاسي يحسم معركة ستالينغراد لصالح السوفييت
حين حلَّ الشتاء السوفييتي القاسي، واجهت القوات الألمانية مشكلة أخرى، فقد كان السوفييت يخنقون خطوط الإمداد ويهاجمونها من منازلهم، بل وحتى من نظام الصرف الصحي. لكنَّ هتلر رفض الاستسلام وإيقاف هجومه على ستالينغراد، حتى حين كان رجاله يتضورون جوعاً.
وبحلول شهر فبراير/شباط 1943، كانت القوات السوفييتية قد أسرت 100 ألف جندي ألماني وسيطرت على ستالينغراد، على الرغم من أن جيوب المقاومة الألمانية استمرت في القتال في المدينة حتى مطلع شهر مارس /آذار.
مات معظم الأسرى الألمان في معسكرات الاعتقال الروسية، إما نتيجة المرض أو الجوع. وكانت تلك ستالينغراد، أبرز المعارك الحاسمة التي غيَّرت مجرى الحرب لصالح الحلفاء.
كان استرجاع السوفييت لمدينتهم ستالينغراد، أول فشل علني يُقِرُّ به هتلر، وقد قُتِلَ خلال تلك المعركة أكثر من مليون و100 ألف من القوات السوفييتية وقرابة 40 ألف مدني. وتُقدَّر أعداد ضحايا قوات المحور بقيادة الألمان بنحو 800 ألف، وقد صنفها موقع Army Technology واحدة من ضمن أكثر 10 معارك دموية في القرن العشرين.