في النصف الأول من القرن السابع عشر سيطر البحارة المسلمون أو حملات "الجهاد البحري"، كما يسميها المسلمون، أو "البحارة البربر"، أو "القراصنة البربر" كما يسميهم الأوروبيون على مناطق ساحل شمال إفريقيا، ومعظم البحر الأبيض المتوسط.
ونشأ الجهاد البحري في شمال إفريقيا رداً على هجوم السفن الأوروبية على سواحل شمال إفريقيا، ووصلت سفن البحارة البربر إلى شواطئ بريطانيا وفرنسا.
بحسب السجلات البريطانية فقد استطاع البحارة المسلمون الاستيلاء على ما لا يقل عن 466 سفينة بريطانية بين 1609 و1616، و27 سفينة أخرى في عام 1625، وليس السفن فقط، ولكن حتى البحارة الذين كانوا على متنها، والذين كان يتم بيعهم عبيداً بطبيعة الحال، أو كانوا يُستخدمون عمالاً في أساطيل "البحارة المسلمين".
بالنسبة للروايات الأوروبية كان نشاط "البحارة المسلمين" عملاً عدائياً وقرصنة، فأطلق الغربيون عليهم اسم "القراصنة البربر"، بينما في الحقيقة كان نشاط "البحارة البربر" والجهاد البحري نشاطاً أملته الظروف التاريخية، وحرب السيطرة والتنافس على المتوسط.
الجهاد البحري لمقاومة الهجوم الإسباني
في عام 1492 بسط تحالف الممالك الإسبانية ليون وقشتالة وأرغون سيطرته على مدينة قرطبة، وهزموا آخر دولة إسلامية في شبه الجزيرة الأيبيرية، مدينة غرناطة.
وبدأت الممالك الإسبانية في محاكمة المسلمين الأندلسيين، وطردتهم هم واليهود من شبه الجزيرة الأيبيريّة، فانتقل عدد كبير من السكان المسلمين الأندلسيين إلى شمال إفريقيا، لكنّ القوات الإسبانية والبرتغالية ظلت تطاردهم.
في عام 1505 كان الإسبان والبرتغاليون يتطلعون إلى تحقيق توسُّع إقليمي في شمال إفريقيا، فشنوا هجمات على المدن الساحلية للمنطقة.
فكانت أسباب "الجهاد البحري" تعود بالأساس إلى العدوان الإسباني والبرتغالي على سواحل الجزائر، وفي ذلك الوقت كان البحارة العثمانيون، بقيادة "خير الدين بربروس" وأخيه "عروج" يعطِّلون حركة الملاحة الإسبانية والبرتغالية في غرب البحر المتوسط، بتوجيهات من كوركود، نجل السلطان العثماني "بايزيد الثاني".
ولكن بعد موت بايزيد الثاني عام 1512، دبَّ صراعٌ بين ولديه سليم الأوّل وأحمد، ومع هزيمة أحمد تدفق أنصاره إلى شمال إفريقيا، وفي ذلك الوقت أعدم السلطان سليم أخاه "كوركود"، فهرب الشقيقان بربروس إلى شمال إفريقيا، وانضمَّا إلى جهود تلك المنطقة في مقاومة النفوذ الإسباني.
وخلال السنوات الثلاث التالية برز اسم الشقيقين بربروس في الحملات البحرية المناوئة للإسبان والبرتغاليين في غرب المتوسط، فدعمت الدولة العثمانية جهودهما، وتحالفت مع حاكم الجزائر لمقاومة الغزو الإسباني والأوروبي.
وتفيد بعض المصادر بأن العثمانيين لم يكونوا مهتمين بالسيطرة على أراضي المسيحيين على الشواطئ المقابلة للبحر المتوسط، وإنما كان همهم الوحيد هو استرجاع الموانئ المحتلة من قِبل الإسبان خاصة.
خلال القرن السابع عشر، توحَّد البحارة الجزائريون والتونسيون والمغاربة، في حملات "الجهاد البحري"، وبحلول عام 1650 تم سجن أكثر من 30 ألف أسير أوروبي، في الجزائر العاصمة وحدها.
الجهاد البحري ليس للدفاع فقط، والهجوم أيضاً على السواحل الأوروبية
لم يكتفِ البحارة المسلمون بالدفاع ومهاجمة السُّفن والبحارة الأوروبيين، فقد أغاروا أيضاً في بعض الأحيان على المستوطنات الساحلية الأوروبية. وعلى سبيل المثال تم أسر جميع سكان قرية "بالتيمور" في أيرلندا، في عام 1631، وشُنت هجمات أخرى على القرى الساحلية جنوب غربي إنجلترا.
في كتابه "تاريخ ملوك الجزائر"، يقول "دييغو دي هايدو"، الذي كان رئيس دير إسباني، وعالماً ومؤرخاً، وكان أسيراً في الجزائر العاصمة من 1578 إلى 1581، واصفاً البحارة هناك: "يُبحرون شتاءً وربيعاً دون خوف، ويجوبون البحر المتوسط من شرقه إلى غربه، دون أن يعيروا أي اهتمام لمراكبنا، مستهزئين ببحارتنا الذين يستأنسون بملاهي الموانئ المسيحية".
وأضاف: "يُخيل للمرء أنهم- أي البحارة الجزائريين- يخرجون لصيد الأرانب البرية، فيقتلون واحداً هنا والآخر هناك".
فيما يقول المؤرخ المغربي علي بن محمد التمكروتي، واصفاً البحارة الجزائريين أثناء إقامته بالجزائر، أواخر القرن الـ16 وبداية القرن الـ17: "رياس الجزائر موصوفون بالشجاعة وقوة البأس ونفاذ البصيرة في البحر، ويقهرون النصارى في بلادهم".
حتى السفراء الأجانب أبدوا إعجابهم وانبهارهم بالأسطول البحري الجزائري، فقد جاء على لسان أحد سفراء إنجلترا: "قوة وجرأة بحارة شمال إفريقيا الآن على هذا النحو من الضخامة، سواء في البحر المتوسط أو المحيط الأطلسي، وأشهد أنني لم أعرف في حياتي شيئاً قد جلب إلى البلاد الإسبانية الأسى العميق والخراب الكثير غير هؤلاء".
مليون أسير أوروبي تحول بعضهم للإسلام وانضموا للجهاد البحري
بحسب التقديرات الغربية، كان عدد الذين تم أسرهم من الأوروبيين على مدار 250 عاماً، بين 1530 و1780، حوالي أكثر من مليون شخص.
كان بعض هؤلاء الأسرى يتم دفع فدية لإطلاق سراحهم، أما الذين بقوا في المدن الإسلامية فقد تم بيعهم عبيداً. واختلفت معاملتهم وعملهم بحسب من يشتريهم، فقد تم الاعتناء ببعضهم جيداً، وأصبحوا رفقاء لـ"مالكيهم". بينما عمل آخرون في العمل الزراعي، أو أعمال البناء، أو بيع المياه أو غيرها من السلع نيابة عن "مالكيهم".
وكان من المتوقع أن يدفعوا نسبة من أرباحهم لـ"مالكيهم"، والبعض الآخر كان يعتنق الإسلام، بل وينضم بعضهم بعد ذلك لحملات "الجهاد البحري"، ويُسهم مساهمةً كبيرة في تلك الحملات، مثل "علي بتشين"، الأسير الإيطالي الذي أسلم وأصبح لاحقاً قائد الأسطول الجزائري.وبين الأعوام من 1580 وحتى 1680، كان هناك حوالي 15 ألفاً من الأسرى السابقين اعتنقوا الإسلام، واختاروا البقاء بين المسلمين، بما في ذلك حوالي نصف قادة البحارة في "الجهاد البحري"، وأصبحوا بمنصب "ريس" أو قائد السفينة، وحتى بعضهم أصبحوا يحملون لقب الباشا.