لا يمكن الحديث عن العهد الملكي في العراق دون ذكر الأحداث المباشرة التي سبقته، فبعد الثورة العربية الكبرى ومحاولة الشريف الحسين بن علي مساعدة القوات البريطانية على هزيمة العثمانيين، ليحاول بعد ذلك إقامة خلافة مستقلة تحت حكم عربي في البلاد العربيّة.
أعلن فيصل ابن الشريف حسين، مملكة سوريا في مارس/آذار 1920، وتشمل أراضي لبنان وفلسطين والأردن وسوريا، ولكن كان لدى قادة الدول الأوربية التي سيطرت على المنطقة في ذلك الوقت أفكارٌ وترتيباتٌ أخرى.
انهارت المملكة الجديدة في أقل من 6 أشهر، بعد أن سحقها الجيش الفرنسي، الذي كان لديه الانتداب في دمشق، فسافر فيصل إلى لندن.
وفي نفس الوقت في العراق، وبعد خسارة القوات العثمانية وسيطرة الجيش البريطاني على ما كانت تعرف بولايات العراق الثلاث: الموصل، وبغداد، والبصرة، وبعد فرض الانتداب البريطاني، شهد العراق قيام ثورة العشرين ضد القوات البريطانية، وانتفاض العديد من العشائر العراقية بتأييدٍ من رجال الدين.
تكبّد الجيش البريطاني خسائر كبيرة في المعدات، وخسائر في الأرواح تقدر بالمئات، وتعرضت الحكومة في لندن، للضغط من الصحف البريطانية التي كانت تنتقد فشل إدارة "المستعمرة العراقية".
مؤتمر القاهرة وتعيين الملك فيصل ملكاً بتوصياتٍ بريطانية
اضطرت الحكومة البريطانية بعدها لعقد مؤتمر في عام 1921 في القاهرة (التي كانت حينها مركز القيادة البريطانية في المنطقة). كان المؤتمر برئاسة "ونستون تشرشل" الذي كان حينها وزيراً للمستعمرات البريطانية، وبعد مشاورات استمرت أسبوعين وتوصياتٍ من موظفين وشخصيات بريطانية مثل "لورانس العرب" و"غيرترود بيل" المعروفة باسم "المس بيل"، وقع الاختيار على "فيصل الاول" وتتويجه ملكاً على العراق.
تقبل وجهاء الشعب العراقي الخبر بشكل جيد ووافقوا على اختيار فيصل ملكاً للعراق، لأنه حظي بقبول واسع بسبب نَسَبه للنبي محمد، ولأن العراقيين كانت لديهم آمال كبيرة للتخلص من الانتداب البريطاني.
وصل الأمير الحجازي إلى "المملكة العراقية" الوليدة في سفينة عبر ميناء البصرة، واستقل القطار بعد ذلك إلى بغداد، وفي طريقه، توقف في مدينتي الحلة والكوفة لمقابلة وجهاء المدينتين وشيوخ العشائر والقيادات الدينية.
بالإضافة إلى توقُّفه في كربلاء والنجف، وزيارة قبور ومراقد أئمة الشيعة، في محاولة لحشد الدعم من المجتمع الشيعي، بحسب المؤرخ ياسر إسماعيل ناصر.
مع تأسيس النظام الملكي في العراق، بدأ فصل جديد ومهم في تاريخ العراق الحديث، وتحولت البلاد من كيانٍ يتألَّف من ثلاث ولايات إلى دولةٍ واحدة ذات نظامٍ وطنيّ، وبدأ الملكُ فيصل الأول مشروعَ بناءِ الدولةِ من نقطة الصفر.
المملكة العراقية الاولى، التأسيس من الصفر
شهدت مرحلة الملك فيصل الأول تشكيل نواة الجيش العراقي في 6 يناير/كانون الثاني، 1921 من عشرة ضباط عراقيين ممن كانوا في "جيش الحجاز العربي"، والذين قاتلوا ضد الدولة العثمانية، وأنشئت بعدها مدرسة تدريب الضباط لتؤمن حاجة الجيش.
ثم بدأ تسجيل المتطوعين وتشكيل الفوج الأول من الجيش العراقي، وتشكيل كتيبة الخيالة الأولى والتي كان من بين تشكيلاتها الحرس الملكي، حتى ضمت تشكيلات الجيش حوالي 4 الاف متطوع، موزعين على 3 حاميات عسكرية للجيش العراقي هي الموصل، وبغداد، والحلة، ثم ألحقت بكل منها مفرزة أطباء عسكريين.
أسس فيصل جامعة "أهل البيت" في حي الأعظمية ببغداد، والتي بقيت تحت اسم الجامعة العربية، وشجع السوريين في المنفى على العمل أطبّاء ومعلِّمين في العراق.
وفي عام 1930، وقع العراق وبريطانيا معاهدة لمنح العراق درجة من الاستقلال السياسي، خففت من السيطرة البريطانية لكنها أعطتها أيضاً حقوق التمركز وتحريك القوات العسكرية في العراق، بالإضافة إلى السيطرة الكاملة على موارد النفط العراقية.
بعد ذلك بعامين، انتهى الانتداب البريطاني وحصل العراق على الاستقلال، وأصبح العضو السابع والخمسين في عصبة الأمم، وهو إنجاز يحسب للملك فيصل الذي يعتبره البعض سياسياً ماهراً أجَادَ التعامل مع البريطانيين.
وفي 8 سبتمبر/أيلول 1933 توفي فيصل الأول جراء أزمة قلبية عندما كان موجوداً في مدينة بيرن بسويسرا.
الملك غازي الأول، وشبهة اغتيال
من بعد وفاة والده فيصل توج ولي العهد "غازي" ملكاً على العراق عام 1933 وهو شاب يبلغ من العمر 23 عاماً، كان الملك غازي ذا ميول وحدوية عربية ومناهضاً للنفوذ البريطاني في العراق، واعتبره عقبة في طريق بناء الدولة العراقية الفتية وتنميتها، واعتبر النفوذ البريطاني في العراق هو المسؤول عن نهب ثرواته النفطية والآثارية المكتشفة حديثاً.
أُنشئت في عهد الملك غازي مشاريع كثيرة منها السدود والجسور وغير ذلك، وكذلك أوقف التعامل بالروبية الهندية التي فرضتها بريطانيا على العراق عملةً رسمية بدلاً من الليرة العثمانية، واستبدلها الملك بالعملة العراقية، وكذلك كان البث الأول للإذاعة العراقية في عهده.
لم يدم حكم غازي طويلاً وتوفي في حادث سيارة غامض مساء يوم 4 أبريل/نيسان عام 1939م، عندما كان يقود سيارته بنفسه، فاصطدمت بأحد الأعمدة الكهربائية التي سقطت على رأسه، اعتبر البعض أنه مدبر، ولكن لم يتم إثبات أي شيء من هذا القبيل. وبحسب شهادة صائب شوكت طبيب الملك غازي الخاص، وأول مَن قام بمعاينته بعد الحادث مباشرة، يقول ذلك الطبيب:
"كنت أول مَن فحص الملك غازي بناء على طلب السيدين "نوري السعيد" و"رستم حيدر" أحد الوزراء لمعرفة درجة الخطر الذي يحيق بحياته، وأن نوري السعيد طلب إليّ أن أقول في تقريري إن الحادث كان نتيجة اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء، وأنا أعتقد أنه قد قُتل نتيجة ضربة على رأسه بقضيب حديدي بشدة، وربما استُخدم شقيق الخادم الذي قُتل في القصر (قبل وفاة غازي بمدة قليلة)، والذي كان معه في السيارة لتنفيذ عملية الاغتيال، فقد جِيء بالخادم فور وقوع العملية إليّ وكان مصاباً بخلع في ذراعه، وقمتُ بإعادة الذراع إلى وضعه الطبيعي، ثم اختفى الخادم ومعه عامل اللاسلكي منذ ذلك اليوم وإلى الأبد، ولا أحد يعرف عن مصيرهما حتى اليوم".
المملكة العراقية "الثانية".. عرش العراق تحت الوصاية
بعد وفاة الملك غازي توج ابنه الملك فيصل ملكاً على العراق، وكان لا يزال عمره 3 سنوات، تحت وصاية خاله الأمير "عبد الإله بن علي بن الحسين"، أنهى الصبي تعليمه في مدرسة "هارو" الداخلية البريطانية، حيث درس جنباً إلى جنب مع ابن عمه الملك حسين ملك الأردن، والد الملك الأردني الحالي، الملك عبد الله.
وسميت هذه المرحلة بالمملكة العراقية الثانية، لأنها كانت مرحلة جديدة في تاريخ العراق، بعد خروج القوات البريطانية من العراق.
اعتلى الملك فيصل الثاني عرش المملكة العراقية في سن الثامنة عشرة عام 1953، وعُلقت آمال كبيرة على الملك الشاب للبناء على إرث والده وجده.
كانت هناك شخصية رئيسية أخرى في العهد الملكي العراقي، هي شخصية "نوري باشا السعيد" الذي تولى رئاسة الوزراء 14 مرة، وكان أهم ما يحسب له هو إنشاء "مجلس الإعمار العراقي"، الذي كان وراء إنجاز أكبر المشاريع التنموية والبنى التحتية في العراق في ذلك الوقت والتي لا يزال الكثير منها موجوداً حتى اليوم.
مجلس الإعمار في العهد الملكي في العراق و"أسابيع الإنجاز"
بعد تأسيس مجلس الإعمار، وُضِعَت خطة تنموية لإصلاح الأوضاع في المملكة العراقية، من خلال اتباع سياسة عمرانية واقتصادية جديدة، خاصة بعد تحسن إيرادات العراق النفطية والتي بلغت حينها 50 مليون دينار عراقي في عام 1953.
وعقد نوري السعيد اتفاقية بموجبها يتم تقاسم الأرباح مناصفة مع الشركات الأجنبية العاملة في نفط العراق، وتميز مجلس الإعمار بتنفيذ عدة مشاريع، ثم افتتاح المشاريع المنجزة دفعة واحدة، خلال فترة سميت "أسبوع الإعمار".
أسبوع الإعمار الأول في المملكة العراقية
ابتدأ أسبوع الإعمار الأول في الأسبوع الأول من شهر أبريل/نيسان 1956، وافتتح الملك فيصل الثاني عدة مشاريع مهمة، مثل مشروع "بحيرة الثرثار" الذي أنقذ مدينة بغداد من خطر الفيضانات المستمرة، التي حدثت عدة مرات سابقاً كان آخرها فيضان 1954.
ومشروع الحبانية في مدينة الرمادي والهدف منه القضاء كلياً على خطر الفيضان. ومن ثم افتتح رئيس الوزراء آنذاك نوري السعيد، جسري الحلة والهندية، وطريق الحلة، الكوفة، النجف.
أسبوع الإعمار الثاني
كان أسبوع الإعمار الثاني في شهر مارس/آذار 1957، وفيه افتتح الملك فيصل الثاني جسر الملكة عالية (الذي أصبح اسمه جسر الجمهورية) وافتتح جسر الأئمة الرابط بين الكاظمية والأعظمية، وتم افتتاح معمل الألبان في أبو غريب وافتتح الملك فيصل الثاني معمل النسيج القطني في الموصل، وبعدها سافر الملك إلى السليمانية وافتتح معمل الإسمنت الحكومي في سرجنار.
وتفقد مشروع سد وخزان دوكان العملاق في مدينة السليمانية، الذي كان تحت الإنشاء في وقتها، والذي بدأ العمل فيه عام 1954 واكتمل بناؤه سنة 1959.
كما شهد العهد الملكي في العراق إنشاء العديد من المشاريع الضخمة الأخرى:
1- وضع الملك فيصل الثاني حجر الأساس لمشروع إسكان غربي بغداد المتضمن بناء 25 ألف بيت لغاية عام 1960، وهذا المشروع مقترح من قبل شركة دوكسيادس البولندية، والمكلفة من قبل الحكومة العراقية بوضع خطة لحل مشكلة السكن في العراق. وتقضي الخطة ببناء 400 ألف دار بحلول عام 1980 في عموم العراق، وتم افتتاح 120 داراً ضمن هذا المشروع في منطقة الوشاش، وألف دار في منطقة الشالجية لعمال السكك.
2- افتتح نوري السعيد أيضاً المكتبة الذرية التي أهدتها الحكومة الأمريكية للعراق، تزامناً مع إنشاء العراق المختبر المركزي لبحوث الذرة المرتبط باللجنة الذرية في مجلس الإعمار لمواكبة التقدم العالمي الحاصل في هذا المجال.
3- افتتاح مشروع مزارع المسيب الكبير، الذي يتضمن إنشاء مزارع حديثة للفلاحين، وقد تجاوزت تكلفة المشاريع المنجزة في أسبوع الإعمار الثاني 27 مليون دينار عراقي.
وكانت هناك عدة مشاريع قيد الإنشاء اكملت بعد نهاية العهد الملكي ومقتل العائلة المالكة بعد قيام "ثورة 14 يوليو/تموز"، مثل بناية البرلمان العراقي، ومدينة الطب، إضافة الى الكليات المجاورة لها، ومستشفيات الكرخ والكاظمية، وبناية جامعة بغداد وسدود ومشاريع إروائية ومصانع كثيرة.
النهاية المأساوية للعائلة المالكة في قصر الرحاب
في صبيحة يوم 14 يوليو/تموز عام 1958، استيقظ الملك فيصل الثاني والعائلة المالكة على أصوات تبادل النار في حديقة القصر بين مجموعة من الجنود والحرس الملكي، قبل أن يدخل مجموعة من الضباط إلى القصر، وطلبوا من الحرس الاستسلام، فاستجابوا للطلب.
جمع الجنود العائلة المالكة، بما فيهم الملك فيصل، وخاله الوصي "الأمير عبد الإله" وأطلقوا عليهم النار، وقاموا بعد ذلك بالتمثيل بجثثهم وسحل جثة الأمير عبد الإله وحرقها، وكذلك فعلوا مع رئيس الوزراء "نوري السعيد" في اليوم التالي بعد أن قبضوا عليه متخفياً في أحد البيوت. لتنتهي بذلك المملكة العراقية والعهد الملكي وتُعلن الجمهورية العراقية.
الحكم الملكي في العراق.. الوجه الآخر
رغم كل ما يذكر من إنجازات العهد الملكي العراقي، كانت هناك بعض الإخفاقات والمشاكل الكبيرة على مستوى البلاد، نذكر بعضها:
1- مع نهاية الحكم الملكي كانت نسبة الأميّة لا تزال مرتفعة وتصل إلى 80% بحسب بعض المصادر.
2- ارتكاب الجيش العراقي مذبحة سميل بحق أبناء الأقلية الآشورية في شمال العراق في عهد الملك فيصل الأول ومقتل حوالي 600 شخص من المدنيين، وبحسب بعض المصادر كان الضحايا 3 آلاف.
2- التباين الطبقي الكبير واستئثار بعض العوائل المقربة من العائلة الملكية بالامتيازات والمناصب العالية.
3-استيلاء الإقطاعيين والمسؤولين في الحكومة على آلاف الدونمات من الأراضي.
في النهاية يبقى الحكم على فترة العهد الملكي في العراق صعباً، بسبب كون تلك المرحلة كانت بداية تجربة لإنشاء الدولة العراقية الحديثة وسط ظروف دولية معقدة.
وكذلك من الصعب الخروج بتصور واضح، بسبب تحيز الكثير من المصادر التاريخية التي تتحدث عن العهد المكي في العراق ما بين مؤيد يحن إلى عصر مستقر نوعاً ما. ومقارنة تلك الحقبة بعصر الانقلابات العسكرية التي توالت بعد ذلك حتى وصول صدام حسين للحكم ومن ثم سقوط نظامه واحتلال العراق عام 2003.
وبين مؤيد لثورة 14 تموز/تموز التي أطاحت بالحكم الملكي في العراق وتخلصت- بحسب رأيهم- من نظام حكم طبقي عيّنه الاستعمار.