كانت ليلة رأس السنة عام 1926، حين دخل رجل إلى غرفة الطوارئ في مستشفى "بلفيو" في مدينة نيويورك، كان الرجل يبدو عليه الفزع وهو يلهث ويصرخ بأن "سانتا كلوز" يطارده بمضرب بيسبول ويحاول قتله.
وقبل أن يستطيع الطاقم الطبي تقديم أي مساعدة كان الرجل قد مات، وبمرور ساعات دخل المستشفى أكثر من 60 شخصاً أصيبوا بنفس الأعراض من الهلوسات المخيفة، وتوفي منهم 8 أشخاص في نفس الليلة، وفي غضون اليومين التاليين، مات 41 شخصاً آخر في المدينة بنفس الأعراض الغريبة.
أدرك الطاقم الطبي حينها أن أعراض الهلوسة كانت بسبب شرب الكحول المغشوش، وهي حالة كانت متكررة في زمن تم فيه حظر الكحول في الولايات المتحدة لعدة سنوات؛ لذا كان يلجأ الناس لشراء المشروبات الكحولية المهربة والتي كان معظمها مجهول المصدر، والتي غالباً ما تكون ملوثة بالمعادن والشوائب.
لكن السبب هذه المرة لم يكن بسبب تلوث الكحول بالشوائب أو المعادن، ولكن بسبب وجود مواد سامة في الكحول، أضافها مسؤولون في الحكومة الأمريكية، ضمن برنامج يهدف لإخافة الناس من شرب الكحول وإجبارهم على الالتزام بقانون الحظر.
ولم يكن أولئك الأشخاص في مستشفى نيويورك هم الضحايا الوحيدين، بحلول الوقت الذي انتهى فيه حظر الكحول في عام 1933، قتل برنامج "التسمم الفيدرالي"، وفقاً لبعض التقديرات، ما لا يقل عن 10 الآف شخص.
من أجل مجتمع "أخلاقي".. "حركات الاعتدال" وبداية القصة
في عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، اجتاحت الولايات المتحدة موجة من الإحياء الديني، ودعوات للإصلاح الأخلاقي وظهرت معها حركة اجتماعية أُطلق عليها "حركة الاعتدال"، دعت إلى تقليل أو حظر استهلاك الكحول.
في عام 1838، أصدرت ولاية ماساتشوستس قانوناً "للاعتدال" يحظر بيع المشروبات الروحية بكميات معينة، وعلى الرغم من إلغاء القانون بعد عامين، فإنه شكل سابقة لمثل هذا التشريع. أقرت ولاية ماين أول قوانين حظر حكومية في عام 1846، تلاها قانون أكثر صرامة في عام 1851، وتبعها عدد من الولايات الأخرى مع بداية الحرب الأهلية في عام 1861.
بحلول مطلع القرن العشرين، كانت "حركات الاعتدال" عنصراً أساسياً في المجتمعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ولعبت النساء دوراً قوياً في تلك الحركات، حيث كان يُنظر إلى الكحول على أنه قوة مدمرة في العائلات والزيجات.
في عام 1906، بدأت موجة جديدة من الهجمات على بيع الخمور، بقيادة رابطة "مكافحة الحانات"، فضلاً عن صعود البروتستانتية الإنجيلية ونظرتها لثقافة الحانات، باعتبارها مصدراً للفساد والشر، بالإضافة إلى أصحاب المصانع الذين أيد الكثير منهم دعوات حظر الكحول، لرغبتهم في منع الحوادث وزيادة كفاءة عمالهم في عصر زيادة الإنتاج الصناعي وزيادة ساعات العمل.
الحرب العالمية الأولى وحظر مؤقت تحوّل لتعديل دستوري
في عام 1917، وبعد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، فرض الرئيس "وودرو ويلسون" حظراً مؤقتاً على الخمور في زمن الحرب، من أجل توفير الحبوب التي تُصنع منها الخمور لإنتاج الغذاء. وفي نفس العام، قدم الكونغرس مقترح "التعديل الثامن عشر"، والذي بموجبه يتم حظر تصنيع ونقل وبيع المشروبات الكحولية.
تم التصديق على "التعديل الثامن عشر" في 16 يناير/كانون الثاني 1919، وصدر قانون "الحظر الوطني"، ودخل حيز التنفيذ عام 1920، وفي ذلك الوقت كان ما لا يقل عن 33 ولاية قد سنت بالفعل تشريعات الحظر الخاصة بها.
نجاح مبكر لحل مشكلة الكحول ظهرت معه مشاكل أكبر بلا حل
على الرغم من علامات النجاح المبكرة للغاية لقانون حظر الكحول، بما في ذلك انخفاض الاعتقالات بسبب السكر وانخفاض بنسبة 30% في استهلاك الكحول، وجد أولئك الذين أرادوا الاستمرار في الشرب طرقاً أكثر ابتكاراً للقيام بذلك.
فظهر التصنيع غير القانوني للخمور وبيعه وتهريبه عبر الولايات، جنباً إلى جنب مع النوادي الليلية التي تبيع الكحول سراً، وظهر معها لأول مرة في الولايات المتحدة ما يعرف بـ"الجريمة المنظمة"، وعصابات تهريب الكحول ونوادي القمار، ومعها ظهرت حرب العصابات للسيطرة على تلك التجارة بملايين الدولارات.
إحدى طرق تصنيع الكحول غير القانونية، كانت العصابات التي تسرق الكحول الصناعي والذي كان يعتبر قانونياً، والذي كان يستخدم في صناعة الطلاء وبعض المواد الكيميائية الصناعية، وقدرت وزارة الخزانة الأمريكية، المكلفة بالإشراف على إنفاذ قوانين حظر الكحول، أنه بحلول منتصف عشرينيات القرن الماضي، سُرق حوالي 250 مليون لتر من الكحول الصناعي سنوياً، لصناعة الكحول غير القانوني في البلاد.
حل حكومي لمواجهة سرقة الكحول الصناعي أدى لكارثة
طلبت الحكومة من مصنعي الكحول الصناعي إضافة ملوثات إلى منتجاتهم، لجعلها غير صالحة لصناعة المشروبات الكحولية، لكن عصابات الجريمة المنظمة كانت توظف كيميائيين لعزل تلك المواد وجعل الكحول صالحاً للاستخدام البشري.
قررت الحكومة الأمريكية حينها اللجوء إلى إجراء متطرف أكثر، وقررو جعل الكحول الصناعي ساماً لدرجة مخيفة جداً، بحيث لا يجرؤ الناس على المخاطرة وشربه، حتى إذا تعرض للسرقة ومعالجته كيميائياً من قبل العصابات، وهو حل لم يكن يبدو ناجحاً، خصوصاً أن الناس يشربون الكحول الملوث مجهول المصدر غير الآمن، والذي كان تصنعه العصابات وتبيعه سراً.
بحلول منتصف عام 1927، أمرت الحكومة مصنعي الكحول الصناعي بإضافة جميع أنواع المواد السامة إلى منتجاتهم، ومنها الكيروسين والبروسين، والبنزين، والكادميوم، واليود، والزنك، وأملاح الزئبق، والكلوروفورم، كما طالبت وزارة الخزانة بإضافة المزيد من كحول الميثيل بنسبة 10% من إجمالي المنتج، وكانت هذه المادة صاحبة التأثير الأكثر دموية.
كانت تلك المرحلة مثل الحرب الكيميائية، يحاول الكيميائيون التابعون للعصابات إخراج تلك المواد، والكيميائيون الحكوميون يحاولون إيجاد طريقة لإبقائها في الكحول، ورغم تحذيرات الأطباء مسبقاً للحكومة استمرت بفعل ذلك، وأضافت مواد أقلها تأثيراً كانت تسبب الهلوسة وبعضها يسبب السكتة القلبية والموت.
بؤس الكساد الاقتصادي ينهي الحظر
استمر السياسيون والأثرياء في شرب الخمور ذات الجودة العالية دون المخاطرة بالتسمم، حتى السياسيون الذين أيدوا الحظر في الأماكن العامة، استمروا في شرب الكحول في السر، على سبيل المثال، قام الرئيس "وارن ج. هاردينغ" بتزويد البيت الأبيض بالويسكي في ليالي لعبة البوكر، بينما كان وزير التجارة هربرت هوفر يحب التوقف لتناول مشروب في السفارة البلجيكية، حيث لا ينطبق القانون الأمريكي من الناحية الفنية.
تدريجياً بدأ السخط يزداد، والأصوات المعارضة لقرار الحظر بدأت تتعالى، من خلال القول إن البلاد بحاجة إلى الوظائف والإيرادات الضريبية التي ستوفرها المشروبات الكحولية إذا أصبحت التجارة قانونية.
مع انهيار الاقتصاد وخلال فترة الكساد الكبير، الذي استمر من عام 1929 إلى عام 1939، ترشح الديمقراطي "فرانكلين دي روزفلت" للرئاسة عام 1933 وكانت حملته الانتخابية قائمة على الدعوة إلى إلغاء الحظر، وفاز بسهولة على الرئيس حينها "هربرت هوفر" .
كان انتصار روزفلت يعني نهاية الحظر، وفي فبراير/شباط 1933 تبنى الكونغرس قراراً يقترح التعديل الحادي والعشرين للدستور الذي من شأنه إلغاء التعديل الثامن عشر الذي فرض الحظر، وفي ديسمبر/كانون الأول 1933 حصل التعديل الجديد على التصويت اللازم للتصديق، لتنتهي معه فترة الحظر.
ورغم الآلاف من الوفيات بسبب التسمم لم تتحمل الحكومة الأمريكية المسؤولية القانونية عن وفاتهم؛ بل جادل بعض المسؤولين الحكوميين في ذلك الوقت بشكل أساسي: "حسناً، أنت منتهك للقانون وإذا تعرضت للتسمم، فهذه مشكلتك".