كثيراً ما قال المفكرون إن التاريخ يعيد نفسه، أو على الأقل يتشابه بشكلٍ كبير؛ وهو ما نشهده الآن مع القوة العظمى الأولى في العالم. ففي الوقت الذي تخرج فيه أمريكا من أفغانستان- وهي الحرب الأطول في تاريخ أمريكا- فاشلةً في تحقيق أيٍّ من أهدافها التي دخلت بسببها هذه الحرب، يقفز للمخيلة ثاني أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة بعد أفغانستان، والتي توجد بينها وبين هذه الحرب في أفغانستان الكثير من التشابهات.
ففي عام 1961، أرسل الرئيس الأمريكي جون كينيدي أوَّل قوة عسكرية إلى فيتنام الجنوبية، والتي كانت تقودها حكومة موالية للولايات المتحدة، وذلك لتعزيزها ضد فيتنام الشمالية التي كان يحكمها نظامٌ شيوعي، وذلك بعد أن قدمت الولايات المتحدة المساعدة العسكرية غير المباشرة للقوات الحليفة لها في فيتنام منذ عام 1954.
بعد ثلاث سنوات، ورغم إرسال القوات الأمريكية، انهارت الحكومة الفيتنامية الجنوبية، ليتخذ الرئيس ليندون جونسون سياسةً تصعيديةً بشأن حرب فيتنام؛ إذ أمر بشنِّ غاراتٍ على فيتنام الشمالية، وأذن الكونغرس بذلك كي لا تقع فيتنام الجنوبية تحت قبضة فيتنام الشمالية وتصطبغ كامل فيتنام بـ"اللون الأحمر الشيوعي". كلّ هذا في ظلّ الصراع الكبير بين أمريكا والاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة.
ظلت الهجمات الشمالية على الجنوب مستمرة رغم الغارات التي تشنها الولايات المتحدة عليها. وبحلول عام 1965 تركت الهجمات الفيتنامية الشمالية الرئيس الأمريكي جونسون أمام خيارين: تصعيد الحرب بالتدخل العسكري الأمريكي بشكلٍ أكبر، أو الانسحاب.
قرّر جونسون البقاء في فيتنام، وسرعان ما قفزت أعداد القوات الأمريكية إلى أكثر من 300 ألف جندي، حيث بدأت القوات الجوية الأمريكية أكبر حملة قصف في تاريخها.
حرب فيتنام.. فشل وجرائم حرب وهزيمة عسكرية
خلال السنوات القليلة التالية، خسرت القوات الأمريكية الكثير من جنودها، وساعد على ذلك طول فترة الحرب، كما تورَّطت الولايات المتحدة بفضائح أظهرت أنها قامت بجرائم حرب في فيتنام، مثل مذبحة ماي لاي التي قام بها الجنود الأمريكيون بحق الشعب الفيتنامي في عام 1968 والتي راح ضحيتها حوالي 500 مدني، وهو ما عمل على تحويل رأي الكثيرين من مواطني أمريكا ليصبحوا ضدّ حرب فيتنام، وأثار كذلك موجة استنكار عالمية.
رداً على ذلك، أعلن الرئيس الأمريكي جونسون في مارس/آذار 1968 أنه لن يسعى إلى إعادة انتخابه، مستشهداً بما اعتبره مسؤوليته في خلق انقسامٍ وطنيٍّ محفوفٍ بالمخاطر بشأن فيتنام. كما أذن ببدء محادثات السلام في فيتنام.
ومع قدوم ريتشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي الجديد آنذاك، بدأ في سحب القوات الأمريكية لكنّه في المقابل كثَّف القصف لتخويف الاتحاد السوفييتي وفيتنام الشمالية من ضرب القوات الأمريكية أثناء الانسحاب أو الهجوم على فيتنام الجنوبية.
لم يكن هذا الانسحاب فيما يبدو إلا مناورة، فقد استمرت عمليات سحب القوات في أوائل السبعينيات في الوقت الذي كان يقوم فيه الرئيس نيكسون بتوسيع العمليات الجوية والبرية في كمبوديا ولاوس في محاولاتٍ لإغلاق طرق إمداد العدو على طول حدود فيتنام.
أدى هذا التوسع في الحرب إلى موجاتٍ جديدة من الاحتجاجات في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم؛ مما اضطر الولايات المتحدة إلى توقيع اتفاقية سلام بينها وبين ممثلي فيتنام الشمالية والجنوبية معاً، وذلك في باريس في يناير/كانون الثاني 1973، معلنة بذلك انتهاء التدخل العسكري الأمريكي رسمياً في فيتنام.
تضمَّنت بنود الاتفاقية وقف إطلاق النار في جميع أنحاء فيتنام، وانسحاب القوات الأمريكية، وإطلاق سراح أسرى الحرب، وإعادة توحيد فيتنام الشمالية والجنوبية، لكن في الواقع لم تكن الاتفاقية أكثر من مجرد لفتة لحفظ ماء وجه حكومة الولايات المتحدة.
وقبل مغادرة آخر القوات الأمريكية في 29 مارس/آذار 1974، قام الشيوعيون بشنّ هجومٍ واسع على الجنوب، ما أعاد الحرب من جديد بين الشمال والجنوب. وفي هذا السياق، ذكرت السلطات الفيتنامية الجنوبية أن 80 ألفاً من جنودها ومن المدنيين قُتلوا خلال هذا العام؛ مما جعل هذا العام هو الأكثر تكلفة في حرب فيتنام.
وفي 30 أبريل/نيسان 1975، مع نقل آخر دفعة من الجنود الأمريكيين، سقطت سايجون- عاصمة البلاد- في أيدي القوات الشيوعية الشمالية، والتي قال قائدها الكولونيل الفيتنامي الشمالي بوي تين: "بين الفيتناميين لا منتصر ولا مهزوم. إنما هُزم الأمريكيون فقط".
كانت حرب فيتنام هي الحرب الأطول في تاريخ حروب الولايات المتحدة، إلى أن جاءت حرب أفغانستان لتصبح الحرب الأطول والأكثر تكلفةً والتي خرجت منها الولايات المتحدة كما خرجت من فيتنام.
أرقام وأحداث وتشابهات بين حرب فيتنام وحرب أفغانستان
لفت مشهد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان انتباه الكثير من المراقبين وذكَّرهم بمشهد انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام، فكثيرة هي التشابهات بين حرب فيتنام وأفغانستان والتي يأتي على رأسها الأرقام.
فبدايةً تمثل الحربان أطول حربين قامت بهما الولايات المتحدة في تاريخها حتى الآن، حيث استمرت حرب فيتنام حوالي 20 عاماً (منذ بداية الدعم للجنوبيين عام 1954 وحتّى عام 1975) والتي استمرت في عهد 5 رؤساء أمريكيين، في حين استمرت الحرب في أفغانستان 20 عاماً أيضاً (منذ 2001 عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول إلى وقتنا هذا 2021) طوال عهد 4 رؤساء تعاقبوا على البيت الأبيض.
وبينما أنفقت الولايات المتحدة على حرب فيتنام 168 مليار دولار، أي ما يعادل تريليون دولار في الوقت الحالي طبقاً لتقديرات موقع The Balance الأمريكي. وفي الخسائر البشرية، قُتل في حرب فيتنام أكثر من 58 ألف جندي أمريكي، في حين كانت التكلفة البشرية في أفغانستان أقل والتي تُقدر بحوالي 2500 جندي أمريكي.
وتقدر صحيفة نيويورك تايمز تكلفة الحرب في أفغانستان بـ2 تريليون دولار. في حين شاركت الولايات المتحدة في ذروة الحرب في فيتنام بأكثر من 300 ألف جندي وفقاً لموقع History، وفي أفغانستان شاركت في ذروة الحرب بـ 100 ألف جندي.
أما في أثناء كلٍ من الحربين، فقد استعانت الولايات المتحدة بحلفائها لإرسال قوات عسكرية من أجل حسم المعركة لصالحها، إلا أن تلك القوات لم تستطع تغيير أي شيء في المعادلة على أرض الواقع، بل تكبدت خسائر جعلتها تنسحب قبل خروج الولايات المتحدة من هاتين الحربين.
حربان مختلفتان والنتيجة واحدة
دخلت الولايات المتحدة فيتنام من أجل القضاء على الزحف الشيوعي من الشمال على الجنوب، في حين كان هدف دخولها في أفغانستان القضاء على طالبان ومنعها من تقديم الدعم للقاعدة، وفي كلٍّ من الحربين، لم يتمثَّل الفشل الأمريكي في عدم القدرة على القضاء على المد الشيوعي أو طالبان فقط، بل تعدى لتستحوذ تلك القوى على السلطة في تلك البلاد.
فمع دخول قوات فيتنام الشمالية عاصمة البلاد في الجنوب، انتهى الانقسام بين البلدين وأُعيد توحيد كلٍّ منهما، وباتت السلطة في يد النظام الشيوعي الذي كان يحكم فيتنام الشمالية، أما في أفغانستان فقد تكرر نفس المشهد، حيث استطاعت طالبان- وقبل مغادرة القوات الأمريكية كما حدث في فيتنام- الاستيلاء على العاصمة كابول وفرض السيطرة على أرجاء البلاد، بعد أن كانت مستهدفة من قبل القوات الأمريكية والناتو على مدار 20 عاماً.
وفي كلٍّ من الحالتين، تركت الولايات المتحدة وراءها القوات المتحالفة معها- قوات فيتنام الجنوبية، والجيش والسياسيين الأفغانيين الموالين للولايات المتحدة- ليواجهوا مصيرهم، بعد أن تسلَّم خصومهم سدة الحكم، متخلية بذلك عن أصدقائها في كل من التجربتين.
وفي مشهدٍ يجسِّد الحالة الأمريكية، وفي مكانين مختلفين، تكرر نفس المشهد؛ حيث تحلق طائرة أمريكية فوق السفارة الأمريكية لإجلاء موظفيها. وهذا المشهد يُسيء بلا شكّ كثيراً للقوة العظمى الأولى في العالم ويشوِّه صورتها.
إن انتهاء أطول حربين في تاريخ الولايات المتحدة بهذا الشكل أظهر تصرفاً متكرراً من أمريكا بالتخلٍّي عن حلفائها في اللحظات الحرجة. ومن ناحية أخرى يظهر الفشل في الانسحاب بشكل يحافظ على سلامة حلفائها وبشكل يحافظ على صورتها.