بناها فرعون مصري قديم لمعاقبة المجرمين، عن أسطورة رينوكولورا.. بلدة “مجدوعي الأنوف”

بناها الفرعون حورمحب لمعاقبة المجرمين، لكنّهم بنوا مدينةً من أقوى وأعظم المدن في مصر القديمة

عربي بوست
تم النشر: 2021/07/14 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/07/14 الساعة 11:59 بتوقيت غرينتش
أبو الهول وأهرامات الجيزة/IStock

عجائب وغرائب التاريخ لا تنتهي، وربما من يشاهد بعض المسلسلات أو الأفلام الفانتازية يستغرب من بعض الأحداث، لكنّ الكثير من هذه الأحداث ينتمي للتاريخ الإنساني. إحدى هذه الغرائب التي سنتناولها في هذا التقرير حدث في مصر الفرعونية. بالقرب من مدينة غزة حالياً، تحديداً قرب مدينة العريش المصرية، وقبل نحو 3 آلاف عام، بُنِيَت مدينة لم يكن لها مثيلٌ في العالم كله.

أطلق عليها الإغريق اسم "رينوكولورا"، وسُمِّيت بهذا الاسم نسبة إلى "الوجوه الغريبة لقاطنيها". نعم، فقد كان جميع قاطني هذه المدينة مجدوعي الأنوف.

كان هؤلاء الرجال مجرمين، وكانت مدينة رينوكولورا سجنهم ومنفاهم والمكان الذي يعيشون فيه للأبد.

أقام هذه المدينة أحد ملوك مصر الفرعونية وجعلها منفى يُعاقب اللصوص بإرسالهم إليه. وقد كان قاطنو المدينة هم هؤلاء الرجال الذين قُبِضَ عليهم وهم يسرقون. كانت أنوفهم تُجْدَع ويُحكَم عليهم بالعيش منفيين في هذه المدينة الواقعة في أقاصي الصحراء المصرية.

في مسلسل Vikings كان هناك "الموسومون" المطرودون من مدينة الملك. كان هؤلاء الموسومون يوشمون في رؤوسهم بوشمٍ معيّن يعرف منه الناس أنّهم "مطاريد". لم يكن الناس العاديون يزوّجون هؤلاء المطاريد من بناتهم، وكان محظوراً عليهم التعامل أو التجارة معهم.

التاريخ
تمثال فرعوني في مدخل المتحف المصري بالقاهرة/IStock

ربما كانت هذه التفاصيل من خيال كاتب المسلسل أو المخرج، أو ربما كانت أحد التقاليد القديمة في مجتمعات الفايكنغ. لكنّ هذه القصة تتشابه بشكلٍ كبير مع هذه المدينة التي بناها فرعون مصري لمعاقبة المنفيين. وبدلاً من وشمهم في رؤوسهم أو وجوههم، كانوا يجدعون أنوفهم.

"مطاريد" لا يستطيعون العودة لحياتهم مرةً أخرى

لم يكن بمقدور هؤلاء الرجال الذين كانت مدينة رينوكولورا موطنهم أن يعودوا إلى أهلهم مرةً أخرى. ومن كان ينجح منهم في الهرب من فوق أسوار المدينة الشاهقة، كان أنفه المجدوع يكشفه ويُعلنه مجرماً لأي شخص يراه. 

من ثَم كان الخيار الوحيد لدى هؤلاء الرجال هو "اختراع" نوع من أنواع الحياة لأنفسهم داخل أسوار هذه المدينة الكئيبة. باختصار: كان عليهم التصالح مع ما هم عليه. 

كانت الحياة في مدينة رينوكولورا قاسيةً وشاقة بالطبع، فهي عبارة عن سجنٍ كبير من المجرمين مجدوعي الأنوف. لم توحّد المدينة هؤلاء "المجرمين" معاً، ويمكنكم مشاهدة أحد أفلام السجون لتتخيّلوا كيف كان شكل الحياة في هذه المدينة.

كان من الصعوبة بمكان أن توجد "قطرة ماء" صالحة للشرب في هذه المدينة العجيبة. وكان المصدر الوحيد والرئيسي للمياه لديهم هي آبار مياه آسنة تقع عميقاً في غور الأرض. 

مع ذلك، يبدو أنّ الإنسان ينجو بطريقةٍ أو بأخرى رغم الظروف الصعبة. فقد نجا الناس في المدينة بطريقة ما. كانوا يصطادون الأسماك من البحر بشباك القصب، ثم يستخدمونها طُعماً لاصطياد طيور السمان.

رينوكولورا.. بُنيت في مصر الفرعونية عام 1300 قبل الميلاد

كانت مدينة رينوكولورا من زمن آخر تماماً، من زمن ما قبل الميلاد. كانت شريعة هذه المدينة هي تعميم الذنب والعقاب على المجرمين. وفي زمنها، كانت تلك المدينة القاسية التي كان يكافح فيها الرجال مجدوعو الأنوف من أجل البقاء على قيد الحياة، يُنظر إليها على أنها عملٌ دافِعُه الرحمة وحفظ مصالح العباد (غير المجرمين) من حاكمٍ متسامح.

وبسبب أنّ مدينة رينوكولورا مكانٌ غريب للغاية، فقد اعتقد البعض أنّها أسطورةٌ مختلقة لا أكثر. لكنّ آخرين يؤكدون أنّ مدينة رينوكولورا كانت حقيقية. وأتى على مصر الفرعونية وقتٌ كانت تُجدع فيه أنوف المجرمين ويُنفون في الأرض مُجبرين على القتال من أجل حياتهم في مجاهل الصحاري الوحشية.

وتذهب الاحتمالات إلى أن هذه المدينة قد بُنيت حوالي عام 1300 قبل الميلاد على وجه التقريب. وبطبيعة الحال تندر الشواهد اليوم عليها. ومن ثم، يأتي معظم ما نعرفه اليوم عن هذه المدينة من أشخاصٍ عاشوا بعد ألف عام من بنائها.

وقد أجمعت مصادر يونانية ورومانية قديمة على ذكر هذه المدينة، لكنّ لبعد الزمان بين هذه المصادر والمدينة، فقد كانت المدينة في ذلك الزمن مدينة عادية يعيش بها أناسٌ عاديون.

وكما يحدث عادةً، فالمسافة الزمنيّة جعلت هذه المدينة مادةً خصبة لاختلاق الأساطير بين الناس، بل إنّ بعض المؤرخين رجّح أنّ ملكاً إثيوبياً قد هزم أحد ملوك الفراعنة وبنى هذه المدينة بالتقريب عام 500 ق.م. لكنّ المكتشفات الأثرية تنقض هذه الرواية.

مصر
مدخل متحف أبو سمبل في مصر/IStock

وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر، وجد عالم آثار لأول مرة دليلاً على وجود مدينة كان يُنفى إليها المجرمون مجدوعو الأنوف. وتبيَّن من هذه الاكتشافات أن ما كان يُتداول من أساطير منذ عام 30 ق.م كان له أصلٌ حقيقي.

ماذا يقول هذا الاكتشاف الأثري إذن؟

هذا الاكتشاف كان عبارة عن لوحٍ حجريٍّ ينصُّ على قوانين الفرعون الذي حكم البلاد بين عامي 1321 و1293 ق.م. 

في بداية هذا اللوح يأتي تحذيرٌ للرعية من سرقة أيِّ شخصٍ يعمل في خدمة الفرعون، مشدِّداً على أن "هذا خطأ يعاقب عليه الفرعون بقوانينه الحكيمة". وتتماشى هذه القوانين الحكيمة تماماً مع القصص الشائعة عن رينوكولورا: "من يفعل ذلك، تُجدع أنفه، ويُنفى إلى مدينة رينوكولورا".

يعتقد البعض أنّ آخر فراعنة الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة حورمحب هو الذي بنى هذه المدينة. لكنّ تقاليد جدع الأنوف والعقاب بها عاش بعده لزمنٍ طويل فيما يبدو.

وترد أحد الشواهد على ذلك بعدها بقرابة 150 عاماً، إذ بعد أن ذبحت زوجة رمسيس الثالث زوجها في أثناء نومه، حُكم على المتآمرين معها بجدعِ أنوفهم. وجاء في المصادر أنهم "عوقبوا بجدع أنوفهم وقطع آذانهم".

ومع ذلك، لا تكشف المصادر عما إذا كان هؤلاء الأشخاص قد تمّ نفيهم بعد ذلك إلى مدينة رينوكولورا، لكنَّها توضِّح رعبهم من المصير الذي ينتظرهم. ويكفي القول إنَّ أحدهم انتحر بمجرد أن تُرك وحيداً. كان انتحاره تدليلاً على مدى بشاعة مصير من يُرسل إلى تلك المدينة: فقد آثر الموت على العيش بوصمة الإجرام الأبدية على وجهه.

كانت الحياة في مدينة رينوكولورا وحشية وقاسية جداً، ولا بد أنها بدت للمنفيين إليها حُكماً بالإعدام البطيء.

وعلى الرغم من مشقَّة وصعوبة وقسوة الحياة في هذه المدينة، فإنّه يبدو أنّ المجرمين حوّلوا حياتهم هناك لشيء ما نافع. وجد علماء الآثار مؤخراً آثاراً عن إحدى أعظم المدن في تاريخ مصر القديمة.

كانت مدينة رينوكولورا حصناً هائلاً يحوطه جدار بطول 500 متر، ويحرس هذا الحصن الهائل أبراجٌ يبلغ ارتفاعها 20 متراً. وفي ذلك الوقت، كانت مدينة لا تقهر. ولطالما حاول الملوك غزوها، لكنّ أحداً لم يتمكن من اقتحامها.

وقد بُنيت هذه الجدران منذ نحو 3 آلاف عام، في نفس الوقت تقريباً الذي بدأ فيه الفرعون حورمحب في نفي المجرمين إلى هناك. وربما لم يكن هذا من قبيل المصادفة أبداً. فقد ذكر الكاتب والمؤرخ اليوناني هيرودوت أنّ أحد الفراعنة القدماء، يُعتقد أنه مؤسس رينوكولورا، وقد حكمَ هذا الفرعون على المجرمين ببناء جدرانٍ شاهقة الارتفاع. ولما كانت أسوار مدينة رينوكولورا من بين الأسوار الأطول ارتفاعاً في مصر قاطبةً، فإنه يحتمل جداً أنها كانت المدينة التي بناها هؤلاء المجرمون المنفيون.

وهكذا، دخل هؤلاء الرجال المجرمون المنفيون التاريخ من أوسع أبوابه، إذ يبدو أنّهم من بنوا مدينة ظلّت آثارها لآلاف السنين من بعدهم.

تحميل المزيد