من بين كل الجماعات التي غزت الإمبراطورية الرومانية، لم يكن هناك من هم أكثر مهابةً وإثارة للخوف من شعب الهون الذين تسببت أساليبهم القتالية ووحشيتهم في فرار الآلاف إلى الغرب، خصوصاً مع وصول قائدهم الأشهر أتيلا الهوني للحكم.
يمكننا اعتبار الهون مثل الفايكنغ، ولكن بينما جاء الفايكنغ من الدول الاسكندنافية في الشمال الأوروبي، جاء الهون من آسيا.
بعدما أعلن قسطنطين الأوّل انتقال العاصمة الرومانية من روما إلى القسطنطينية، المدينة التي بنيت على اسمه، حصل انقسامٌ فأصبح هناك الإمبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما، والإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية.
عانت الإمبراطورية الرومانية الغربية كثيراً وانهارت في القرن الخامس الميلادي بسبب الضغط الهائل للغزوات البربرية المتعددة والمتكررة عليها. ويطلق المؤرخون الغربيون عادةً لفظ البربريون على أي قبائل لم تخرج من الإطار الهمجي ولم تؤسس دولة حديثة في وقتها مثل الدولة الرومانية.
لكنّ العديد من قبائل النهب تلك كانت تنتقل إلى غرب الإمبراطورية لتتجنَّب مواجهة المحاربين الأشرس والأكثر إثارةً للرعب على الإطلاق: شعب الهون.
وكما كانت قصص الفايكنغ كانت قصص شعب الهون. قبل وصول الهون إلى غرب الإمبراطورية بوقتٍ طويل، كان ترديد اسمهم فقط يحاكي القصص المرعبة.
عندما وصل الهون إلى غرب أوروبا، استغلّ قائدهم الأشرس ذلك الخوف الذي زرعوه في قلوب الجميع لابتزاز وتهديد الرومان حتى جنى من وراء ذلك ثروةً طائلة له ولشعبه. وكما الفايكنغ، لم يكن هذا النهب له غرضٌ آخر غير "النهب والثروة". ليس مثلاً عندما يكون الصراع بين دولتين، وتسعى كل منهما للقضاء على الأخرى لتوسيع رقعة حكمها والتخلُّص من المنافسين.
الإمبراطورية الرومانية الغربية تعاني.. والهون يصلون!
مثل الصين وغيرها من الإمبراطوريات الكبرى، عانت الإمبراطورية الرومانية طوال تاريخها تقريباً من امتداد حدودها الشمالية على مسافةٍ طويلة جداً، وكانت شعوب الشمال المتجولة تُغير عليها وتسبب لها قلقاً كبيراً.
وهكذا، كانت كثيراً ما تعبر القبائل المتجولة نهري الراين والدانوب، ويغيرون أحياناً على المقاطعات الرومانية بدافع الانتهازية واليأس ليسلبوا وينهبوا كل ما يجدونه في طريقهم. وقد شنّ كثير من الأباطرة الرومان حملاتٍ طويلة لتأمين تلك المنطقة الحدودية.
وعبر قرون من الهجرة والإغارة ظهرت العديد من القبائل والشعوب المتجولة على أعتاب روما في القرن الرابع الميلادي. وقد كان أغلبهم من أصولٍ ألمانية، متطلِّعين إلى الاستقرار على الأراضي الرومانية، إلا أن ذلك أدّى في النهاية إلى تدمير الإمبراطورية الرومانية نفسها.
ولا تزال أسباب هجرة الكثير من هذه القبائل المتجولة محل بحثٍ وتدقيق. يعزو بعض المؤرخين هذا الانتقال الجماعي إلى عوامل متعددة، تتضمن البحث عن الأراضي الصالحة للزراعة، والصراعات الداخلية، والتغيرات المناخية. إلا أن هناك سبباً رئيسياً معروفاً لهجرة هذه الشعوب: شعب الهون.
كان شعب القوط (جرمانيين) أول قبيلة تصل بالآلاف إلى حدود العاصمة روما في عام 376م، زاعمين وجود قبيلةٍ غامضة ووحشية أجبرتهم على مغادرة أراضيهم.
وسرعان ما وافق الرومان على مساعدة القوط، وشعروا أنَّه لا خيار لديهم إلا محاولة دمج هذا العدد الهائل من قبيلة القوط المحاربه داخل أراضيهم. لكن لم يمر وقت طويل قبل أن يسيء الرومان معاملة زوَّارهم القوط، لتنفجر الأوضاع، ويخرج القوط عن السيطرة، ويهب القوط الغربيون بشكلٍ خاص لسلب ونهب وتدمير مدينة روما عام 410.
وبينما كان القوط يتغوَّلون في المقاطعات الرومانية، كان شعب الهون يقترب من الحدود أكثر فأكثر.
خلال العقد الأول من القرن الخامس الميلادي، استغلت المزيد من القبائل تلك الاضطرابات التي تشهدها روما لعبور الحدود الشمالية إلى داخل الأراضي الرومانية بحثاً عن أراضٍ جديدة، ومن بينهم قبائل الوندال، والألان، والسويبيين، والإفرنج، والبرغنديين.
كان الخوف والرعب من الهون ينتقل مثل النار في الهشيم من قبيلةٍ إلى أخرى، مما يدفع المزيد من القبائل الجديدة إلى دخول الأراضي الرومانية. وكان لذلك تأثير مدمّر على الإمبراطورية الرومانية نفسها وتصدّعها، حتى قبل وصول الهون إليهم.
موجات الهجرة والنهب من آسيا إلى أوروبا
شكّل شعب الهون كابوساً بالنسبة للقبائل الأخرى التي هاجرت إلى الإمبراطورية الرومانية بسببها. والعديد من المؤرخين مختلفون حول أصل قبائل الهون ومن أين جاؤوا.
تشير بعض المصادر إلى أنّ الهون كانوا مختلفين جسدياً عن أيٍّ من الشعوب الأخرى التي واجهها الرومان من قبل، مما زاد من تأثير الخوف الذي غرسوه في قلوب خصومهم. حتى إنّ بعض الهون لجأوا إلى ذلك الإجراء الطبي الذي ينطوي على ربط جمجمة الأطفال الصغار لتصبح أطول من المعتاد. ومن هنا كان شكلهم مختلفاً عن غيرهم.
وتشير تحليلات العدد القليل المعروف من كلمات شعب الهون إلى أنّهم استخدموا إحدى اللغات القديمة جداً لشعوب الترك، وقد انتشرت تلك العائلة اللغوية في أنحاء آسيا، من هضبة منغوليا إلى منطقة سهول آسيا الوسطى.
وتشير العديد من النظريات إلى أن أصول الهون ترجع إلى المنطقة المحيطة بدولة كازاخستان، إلا أن البعض يشكون في أنهم جاؤوا من الشرق الأقصى.
عانت الصين القديمة من هجمات شعوب الشيونغنو من الشمال، ولقرون كانوا كابوساً للأباطرة الصينيين المتتالين، ما جعل أسرة تشين تبدأ تدشين سور الصين العظيم، كذا هذا في القرن الثالث قبل الميلاد.
عبر قرونٍ من الصراع، استطاعت الصين في القرن الثاني الميلادي إيقاع العديد من الهزائم بشعوب الشيونغنو، فهربت هذه الشعوب والقبائل إلى الغرب.
في الحقيقة فإنّ كلمة "شيونغنو" في اللغة الصينية القديمة عندما تُنطق تكون شبيهة بكلمة "هونو". وهكذا ربط بعض الباحثين بين شعوب الشينوغو شعوب الهون.
اتسمت شعوب شيونغنو بالترحال، وبدا أن نمط معيشتهم يتشابه كثيراً مع شعب الهون. لهذا يرجّح بعض الباحثين أنّ أصل شعب الهون هو شعوب الشيونغنو، وقد ارتحلوا بعد هزيمتهم من الصين من أقصى الشرق إلى أوروبا بحثاً عن الغنائم ووطنٍ جديد.
وصف المؤرخ الروماني أميانوس مارسيليانوس شعوب الهون بقوله: "عتادهم خفيف يجعل حركتهم سريعة، وأعمالهم غير متوقعة، ينقسمون فجأة إلى مجموعات متفرقة ويهاجمون، ويثيرون الاضطراب هنا وهناك، ويتسببون في مذابح بشعة…"
أتقن الهون أسلوب الغارات السريعة، وكانوا قادرين على التحرك في مجموعاتٍ من الجنود، يطلقون مئات الأسهم (وهم يقودون الخيول) ثم التراجع، دون الاشتباك مع أعدائهم من نطاق قريب. وعندما يدنون من الجنود الآخرين، كانوا يستخدمون الحِبال لإسقاط أعدائهم أرضاً، ثم يقطعونهم إلى أشلاء بالسيوف. كانت طريقة قتالهم أشبه بحروب العصابات عندما تواجه جيوشاً نظاميّة.
كما طوّر الهون أيضاً معدّات حصارٍ قوية، وقد أصبح الهون مع الوقت "خبراء في إسقاط المُدن" باستخدام أبراج الحصار ومدقّ رأس الكبش الشهير، الذي هو عبارة عن آلة تشبه رأس الكبش ويستخدم لضرب الجدران وبوابات المدن لشقّها.
شنّ الهون أولى غاراتهم على المقاطعات الرومانية عام 395، وتمكنوا من سلب وإحراق مساحات شاسعة من شرق الإمبراطورية الرومانية في منطقة البلقان. وقد تدّمرت منطقة البلقان بشكل خاص، وخضعت أراضي الحدود الرومانية الشرقية لقبائل الهون تماماً.
وقد استقر الهون في شرق الإمبراطورية الرومانية لفترة طويلة. لكنّ حياة البدو الرُحّل التي تجعلهم يرتحلون بشكلٍ مستمرّ سلبهم إحساس الراحة والاستقرار. وأخيراً قرر ملوك الهون التوقف وتأسيس إمبراطورية على حدود روما.
تمركزت مملكة الهون حول ما يُعرف الآن بالمجر ولا يزال حجمها محل خلاف بين الباحثين، لكن يبدو أنها غطت مساحات شاسعة من وسط وشرق أوروبا. بحلول مُنتصف القرن الخامس، كان أتيلا الهوني وهو أشهر قادة شعوب الهون على الإطلاق، كان قد أنشأ إمبراطوريةً امتدَّت من دول البلطيق (نواحي ليتوانيا ولاتفيا) إلى منطقة البلقان (ألبانيا وصربيا وشمال تركيا)، ومن نهر الراين في النمسا إلى البحر الأسود في أوكرانيا.
لكنّ هذه الإمبراطورية لم تكن متماسكةً بحال، فلم تكن أكثر من "ائتلافٍ مُخلخل" من القبائل التي ارتبطت سوياً بفضل شخصية أتيلا الهوني وسيطرته وبراعته العسكرية.
ورغم سيطرة شعوب الهون على شرق أوروبا، وتكليفهم خسائر فادحة للإمبراطورية الرومانية، فإنّهم اختاروا عدم الدخول في صراعٍ متكامل مع الإمبراطورية العجوز، وإنما بدلاً عن ذلك قرروا شنّ غارتٍ محدودة لسلب ونهب أراضي الإمبراطورية على فتراتٍ متباعدة.
أتيلا الهوني.. لعنة الربّ الذي تلاعب بالأباطرة!
وُلد أتيلا الهوني الذي يوصف بـ"لعنة الربّ" والذي "جاء إلى هذا العالم لزعزعة الأمم"، ولد لعائلةٍ من الطبقة الحاكمة في شعوب الهون، وقد حاز الحكم هو وأخيه الأكبر عام 434، ولكنّ أخاه قد توفي بشكلٍ مفاجئ عام 445، ويلمّح بعض المؤرخين أنّ أتيلا الهوني قد تخلص من أخيه ليحكم وحده.
لكنّ هذه الإمبراطورية ظلّت في أوجها لثماني سنوات فقط، وتلاشت فجأةً بعد وفاة أتيلا عام 453.
كانت استراتيجية أتيلا الهوني مختلفةً عن القادة السابقين، فقد قرّر ألا يدخل في صراعٍ شامل مع الإمبراطورية الرومانية الغربية ولا البيزنطية (الرومانية الشرقية)، فقد وجد طريقاً آخر: ابتزاز الأباطرة بتهديدهم ليدفعوا أكثر.
وخلال القرن الخامس الميلادي كان الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الثاني يدفع للهون 158 كغم من الذهب سنوياً ليحمي نفسه من هجماتهم.
وفي عام 442 زادت هذه الكمية الضخمة أصلاً إلى 453 كغم ذهباً خالصاً. وفي عام 447 رفض الإمبراطور الدفع، فجاء انتقام أتيلا: قاد جيشه عبر بلاد البلقان وبدأ في حرق المدن واحدةً تلو الأخرى. استسلم الإمبراطور ووافق فوراً على تسوية المتأخرات واستئناف الدفع، لكنّ أتيلا جعله يدفع 952 كغم سنوياً هذه المرة.
أصبحت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تحت سيطرة أتيلا بدفعها هذا المبلغ السنوي من الذهب. فوجّه أتيلا الهوني نظره ناحية الإمبراطورية الغربية.
تحرّك أتيلا نحو الغرب بحجّة مسلية، بل ومضحكة. فقد أرسلت له هونوريا وهي أخت الإمبراطور فالنتينيان الثالث رسالةً له.
كانت هونوريا بلا سلطة، ودخلت في علاقاتٍ عاطفية كثيرة، إحداها كانت مع أمين الخزانة. وما إن اكتشف الإمبراطور تلك العلاقة حتّى أعدم أمين الخزانة وخطب هونوريا لقنصلٍ رومانيٍّ ثري.
أرسلت هونوريا أحد خدمها إلى أتيلا الهوني برسالة طالبةً منه أن ينقذها من زيجتها من هذا القنصل. وهكذا تحرّك أتيلا الهوني قائلاً إنّه جاء من أجل تخليص عروسته هونوريا من معاناتها، وإن مهرها هو الإمبراطورية الغربية نفسها.
سرعان ما هاجم أتيلا الهوني العديد من المدن الضخمة. وبحلول عام 451 جمع الجنرال الروماني أيتيوس جيشاً ميدانياً ضخماً من شعوب القوط والإفرنج والساكسون والبرغنديين وغيرهم من القبائل، وتحالفوا جميعاً على هدفٍ مشترك: حماية أراضيهم الغربية الجديدة ضد الهون.
بدأت معركة ضخمة في منطقة شمبانيا الفرنسية، في منطقة كانت تعرف آنذاك بسهول كاتالونيان، حيث هُزم أتيلا المهيب أخيراً في معركةٍ ضارية. وقد سجّل المؤرخون 160 ألف قتيل من الجانبين في هذه المعركة.
كُسرت شوكة الهون، لكن الهزيمة لم تدمرهم تماماً، إذ توجّهوا إلى إيطاليا لنهب مدنها قبل العودة إلى مملكتهم. وفي العام القادم عاد أتيلا بجيشه لمهاجمة روما. استولى أتيلا الهوني على الكثير من المدن لكنّ المرض والمجاعة تسبباً في إيقاف الغزو.
لجأ الطرفان للدبلوماسية، فوافق الإمبراطور الروماني على طلبات أتيلا ووعد بتزويجه هونوريا على أن يقدم لها مهراً من الذهب. وقد غادر أتيلا إيطاليا بعد مغامرة غزو روما التي كانت آخر غارات الهون على الإمبراطورية الرومانية.
مات أتيلا بعد ذلك بفترة وجيزة في ليلة زفافه عام 453 بسبب نزيفٍ داخليّ على أشهر الروايات، ولكنّ مملكته لم تدم بعده كثيراً. فقد بدأت الصراعات الداخلية، كما هزم الهون مراتٍ عديدة على أيدي الرومان وشعوب القوط.
انهارت إمبراطورية الهون المرعبة التي لم تستمرّ طويلاً، وانتهت صفحةٌ من صفحات التاريخ المرعب بالنسبة للشعوب الأوروبية التي كان نصيبها أن تواجه شعب الهون العجيب.