ربما لا يعرف الكثير منّا أنّ الجامع الأزهر كما هو الآن منارة للمذهب السنّي، كان سابقاً منارةً للمذهب الشيعي، بل إنّ تأسيسه أصلًا جاء لينشر المذهب الشيعي في مصر والعالم الإسلامي، كما أنّ الجامع الأزهر عمره يزيد على ألف عام، وهو ثاني أقدم جامعة في العالم، والبعض يعتبره أوّل جامعة في العالم من حيث تنظيم الدراسة والتخصصات العلميّة. في هذه المادة نصحبكم في مادة عبر التاريخ لنحكي لكم قصّة إنشاء الجامع الأزهر.
الفاطميون يؤسسون القاهرة وجامعها
تأسّست الخلافة الفاطمية في شمال إفريقيا، في تونس وأجزاء من ليبيا وأجزاء من الجزائر. تأسّست في بدايات القرن العاشر الميلادي، لكنّها ظلّت دولةً نائية عن مركز الأحداث في المشرق الإسلامي. فقد كان الخليفة العباسي في بغداد هو مركز الحكم الإسلامي.
زحف الفاطميون إلى مصر، فمنها يمكنهم أن ينافسوا الخليفة العباسيّ في بغداد. كانت مصر تحت حكم كافور الإخشيدي، وعند وفاته دخلت الدولة في مصر في طورٍ من أطوار الضعف وعدم التماسك والانهيار. وعندما جاء القائد الفاطمي جوهر الصقلِّي إلى مصر وجدها زهرةً تنتظر من يقطفها.
دخل جوهر الصقلي لمصر عام 969، وثبّت أركان الدولة لسيده الخليفة الفاطميّ المعزّ لدين الله، الذي كان لا يزال في شمال إفريقيا، وما إن استتبّ له الأمر حتّى بنى عاصمةً لسيده لتكون مقرّه عندما يأتي إليها، فبنى مدينة القاهرة، وأثناء بنائها بدأ في بناء جامعٍ كبير يكون هو الجامع المركزيّ فيها، الذي تُخطب فيه الجمعة، ويُصلِّي فيه الخليفة.
بدأ بناء جامع القاهرة عام 970، وظلّ التشييد طيلة 27 شهراً، حتّى تمّ الافتتاح في رمضان بتاريخ 22 يونيو/حزيران عام 972.
كان الجامع الأزهر يعرف حينها باسم "جامع القاهرة"، ثمّ سمِّي لاحقاً "الجامع الأزهر" نسبةً إلى السيدة فاطمة الزهراء، التي ينتمي إليها الفاطميون بالنسب، وهذا وفق أبرز الروايات الشائعة، ولكنّ تسمية "الأزهر" لم تلتصق بالجامع إلا بعد سنواتٍ عديدة، وتعني كلمة الأزهر "المضيء".
ورغم أنّ الجامع الأزهر الحالي قد دخلت عليه العديد من التحسينات والإنشاءات والتطويرات التي غيّرت حالته الأولى، فإنّه يُعتبر أقدم أثر فاطمي في مصر، فعمر الجامع الأزهر حتّى تاريخ كتابة هذه المادة 1050 عاماً.
الجامع الأزهر.. منارة لنشر المذهب الشيعي لمدة قرنين ونصف من الزمان
ربما تكون هذه الحقيقة التاريخية غريبة بعض الشيء، فجميعنا يعرف الجامع الأزهر باعتباره منارةً للمذهب السني في العالم الإسلامي، لكنّ الحقيقة التاريخية تقول إنّ إنشاءه كان بالأساس ليكون قاعدةً لنشر المذهب الشيعي الإسماعيلي في مصر والعالم الإسلامي.
عندما وصل المعزّ لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة عام 972 سرعان ما استخدم الجامع الأزهر وحوّله لمركز تعليم، كما كانت تخرج منه التصريحات الرسمية وتعقد به جلسات المحاكم. وربما كانت أول مرة تصبح تعاليم المذهب الإسماعيلي الشيعي متاحةً أمام العامّة من الناس في الجامع الأزهر.
وهكذا أصبح الجامع الأزهر مركزاً رئيسياً للتعليم، وربما كانت فكرة تحويل الجامع الأزهر لما يشبه "الجامعة" فكرة حملها الفاطميون معهم من المغرب، خصوصاً أنّ جامع وجامعة القيروان كانت في تونس، حيث الحكم الفاطمي الممتد منذ سنواتٍ طويلة. وهكذا أصبح الجامع الأزهر ثاني جامعة في العالم. بينما يعتبره الموقع الرسمي للأزهر "أقدم جامعة عالمية متكاملة".
للقراءة أكثر عن جامع وجامعة القيروان، يمكنك قراءة هذه المادة من (هنا).
وفي السنوات الأولى لتحوُّل الجامع الأزهر بهذا الشكل لمركز رئيسي لتعليم القانون الإسلامي، تمّ توظيف 45 عالماً لإعطاء الدروس، وهكذا تحوّل الجامع إلى جامعة حقيقية. كان الجامع الأزهر هو المسجد "الجامع" في مدينة القاهرة، وفيه تُخطب الجمعة، وفيه يخطب الخليفة للناس. حتّى جاء الحاكم بأمر الله الذي بنى جامعاً باسمه فأصبح هو الذي تقام فيه الجمعة ويخطب الحاكم فيه، لكن سرعان ما عاد إلى الجامع الأزهر مركزيته بعد وفاة الحاكم. وقد أنشئت مكتبة ضخمة تابعة للأزهر.
وللقراءة حول الحاكم بأمر الله، ذلك الحاكم غريب الأطوار يمكنك قراءة هذه المادة من (هنا).
صلاح الدين الأيوبي والجامع الأزهر
بعد حوالي مئتي عام من الحكم الفاطمي الشيعي في القاهرة، أنهى صلاح الدين الخلافة الفاطمية للأبد عام 1171، عندما أصبح وزيراً لآخر الخلفاء الفاطميين العاضد لدين الله، والذي توفي صغيراً في سنّ العشرين. ومع وفاته وعدم وجود ولي عهد تولّى صلاح الدين حكم مصر، وألحقها بالخليفة العباسي الذي كان تابعاً له.
ومع الوقت اتّخذ صلاح الدين قراراً بإغلاق الجامع الأزهر، تلك المؤسسة الفاطمية التي كان دورها تعليم ونشر المذهب الشيعي الإسماعيلي، وهكذا حُظِرَت الصلاة في الجامع الأزهر، وأهمل تماماً خلال فترة حكم الأيوبيين. ولم يعد الجامع الأزهر مركزاً تعليمياً كما كان في العهد الفاطمي، لكنّ مكانته استردّت بعد ذلك بحوالي مئة عام على يد السلطان الظاهر بيبرس، أقوى سلاطين الدولة المملوكية في مصر والشام.
ومنذ ذلك الحين والجامع الأزهر يتمتّع بمركزيةٍ علميّة، ليس فقط في مصر وإنما في العالم الإسلامي باعتباره المنارة الأبرز لتعاليم المذهب السني بفروعه.
اهتمّ المماليك بتوسعة وترميم الجامع الأزهر، وأصبح من التقاليد الراسخة التي ظلّت قروناً طويلة في الجامع الأزهر تقليد "الأروقة"، فلكلّ أهل إقليم من الأقاليم الإسلامية رواق في الجامع الأزهر، يفدون إليه من بلادهم ويقيمون فيه إقامة دائمة مجانية طوال فترة الدراسة.
ومن أبرز هذه الأروقة رواق الأتراك، وهو مخصص لأبناء العرق التركي الوافدين إلى مصر للتعلُّم في الجامع الأزهر، وهناك رواق الشوام لأهل الشام، ورواق الأكراد، ورواق المغاربة، ورواق لأهل البغدادية لأهل العراق، ورواق الجاوة للوافدين من إندونيسيا وماليزيا والفلبين، ورواق البرابرة، ورواق الجبرت للقادمين من إثيوبيا وسواحل البحر الأحمر وغيرها من الأروقة.
كما كانت هناك أروقة للمصريين كذلك، فهناك رواق الصعايدة لأهل الصعيد، ورواق الشراقوة نسبة لأهل محافظة الشرقية، ورواق البحاروة لأهل البحيرة، وغيرها من الأروقة.
وقد كان للجامع الأزهر دور أكبر من كونه منارةً للعلم فقط، فقد كان للعلماء شأن كبير في العالم الإسلامي عموماً، وهكذا كان من الطبيعي أن يتمتّع علماء الجامع الأزهر بنفوذٍ كبير لدى السلطات، وشعبيةٍ كبيرة لدى الناس، ولهذا برز دورهم في مقاومة الفرنسيين أثناء الغزو الفرنسي لمصر.
عندما وصل نابليون إلى مصر عام 1798 أسّس ديواناً كان أغلبه من علماء الأزهر ليكون مجلساً استشارياً له، وقد كانت هذه الخطوة ليمتصّ الغضب الشعبي من الوجود الفرنسي في مصر، لكنّ ثورة القاهرة الأولى التي قامت ضده بعد شهور من الوجود الفرنسي في مصر كان يقودها رجال الأزهر، ويمولها التجار المصريون.
واجه نابليون ثورة القاهرة الأولى بعنفٍ وقسوة، وقصفت مدافعه أحياء القاهرة والجامع الأزهر، ودخل جنوده للجامع الأزهر ودنّسوه بدوابّهم.
لم تنجح ثورة القاهرة الأولى، وكانت نتائجها إعدام 6 من شيوخ الأزهر، وفي هذا دلالة كبيرة، فقد كان الجامع الأزهر هو المركز الديني والرمز الثقافي، وشيوخه كلمتهم مسموعة وذات شأن.