في نفس عام فتح الأندلس عام 711م، فُتحت "أندلس" أخرى في أقصى شرق الدولة الإسلامية آنذاك، حيث قاد محمد بن القاسم الثقفي، في عهد الخليفة الوليد بن عبدالملك جيشَه نحو بلاد السند (باكستان)، التي استطاع أن يهزم ملِكَها "داهر"، والتي انتهت بفتح بلاد السند كلها وجنوب البنجاب، وعمره آنذاك 17 عاماً فقط! وظلت هذه البلاد تابعة للخلافة الأموية، وعن طريقها انتشر الإسلام رويداً رويداً في المناطق الهندية المجاورة. للقراءة أكثر حول محمد بن القاسم، يمكنك الاطِّلاع على هذه المادة.
وفي زمن الخلافة العباسية، في حوالي عام 1000، أسّس محمود بن سبكتكين -المعروف بمحمود الغزنوي- الدولة الغزنوية، واعترف الخليفة العباسي "القادر" بمحمود الغزنوي والياً، ولقّبه بـ"أمين الملك".
شملت الدولة الغزنوية شمال الهند وأفغانستان وجزءاً كبيراً من بلاد فارس، وخلال فترة حكمه غزا الغزنوي بلاد الهند 27 مرة، استطاع خلالها أن يقيم ملكاً واسعاً في معظم بلاد الهند، وهو ما جعل الكثير من أهل بلاد الهند يعتنقون الإسلام بعد ذلك.
نشأة ظهير الدين بابر.. ملك عمره 11 عاماً
مع حلول القرن السادس عشر، بدأ في الهند العصر الذهبي للإسلام، والذي تأسَّست فيه دولة المغول المسلمين، والتي استمرَّت ثلاثة قرون، ومؤسسها هو ظهير الدين بابر. ولكن قبل التطرُّق إلى نشأة هذه الدولة سنرجع إلى القرن الخامس عشر، لنسرد قصة نشأة مؤسس تلك الدولة.
كان والده "عمر شيخ ميرزا" حاكماً لإقليم فرغانة، وهو أحد أجزاء الإمبراطورية المغولية التيمورية في وسط آسيا. وُلد ظهير الدين محمد، الملقب بــــ"بابر" -أي النمر- عام 1483، والذي عندما بلغ الحادية عشرة من عمره توفي والده، ليخلفه على ملكه.
ويروي الدكتور جمال الدين الشيال في كتابه "تاريخ دولة أباطرة المغول الإسلامية في الهند" أنه رغم حداثة سن بابر، فإنه تقدم من فرغانة ليستولي على سمرقند بعد أن مات عمه أحمد ميرزا، الذي كان يحكمها.
لكنّ بابر أصيب بمرض أدّى لضياع فرغانة وسمرقند من تحت يديه، ليدخل في معركةٍ عنيفة عُرفت باسم أرشيان عام 1501 وعمره 18 عاماً، مع خصومه الأزبك الذين وضعوا أيديهم على ملكه. هُزم بابر ونجا بحياته بصعوبةٍ شديدة، وبذلك فقد ملكه كلياً.
ودَّع بابر مسقط رأسه كلياً، وبدأ في التفكير في تكوين ملكٍ جديدٍ له وراء جبال هندكوش الممتدة على الأراضي الأفغانية والباكستانية حالياً. دخل بابر في معركةٍ طاحنة مع الأفغان، استطاع من خلالها الاستيلاء على مدينة كابل، وذلك في عام 1504.
بالسيطرة على كابل فقد أسّس بابر قاعدةً جديدة لملكه، وهو في الحادية والعشرين من عمره.
توطيد ملكه وفتح بلاد الهند
ما إن استقرّ بابر في كابل حتّى وسّع ملكه، ففي عام 1505 ضمّ مدينة غزنة واصلاً بحدود دولته إلى بلاد السند (باكستان الحالية)، وفي السنة التالية توغَّل داخل حدود الهند بفتوحاته، لكنه عاد سريعاً إلى عاصمته كابل، وذلك بعد هجوم أعدائه القدامى الأزبك عليها.
صدّ بابر غارتهم على كابل، وهو ما استدعى وقف حركة فتح الهند، إذ إن بابر أدرك أن فتح الهند لن يكون في متناول يده دون تأمين الجبهة الخلفية لبلاده وتقوية قاعدة ملكه فيها، ولهذا ضمّ على مدينة قندهار لتعضيد ملكه في بلاد الأفغان، وأخذ يعد المدينة لتصبح مركزاً لانطلاق فتوحاته نحو الهند.
لم يكتفِ بابر بفتح قندهار، بل ظلَّ على مدار سنواتٍ يبسط سلطانه خطوةً خطوة على خراسان وما حولها، وكانت كل هذه التحركات تمهيداً لغزوه المرتقب للهند، في الوقت التي كانت فيه الهند تسودها الانقسامات والاضطرابات بعد وفاة حاكمها إسكندر لودي عام 1517.
خلف لودي على عرش دلهي ابنه إبراهيم، ولكن كانت سياسته محطّ بُغض الأمراء، فبدأوا يحيكون له المكائد، وبدأت الولايات الهندية تنفرط من تحت يديه، خاصة الولايات الموجودة على أطراف مملكته، كما أُعلنت راية العصيان في بعض الولايات الشرقية.
في خضم هذا الانقسام والتشرذم أرسل علاء الدين لودي -عم إبراهيم لودي- ودولت خان لودي حاكم البنجاب يستنجدان بابر لتخليص الهند من حكم إبراهيم لها، فلم يجد بابر أفضل من هذه الفرصة لفتح الهند، حيث كان قد استتب حكمه وقويت شوكته في أفغانستان، في الوقت التي كانت فيه الهند ضعيفة ومفككة.
وهكذا خرج بابر بحملته الثانية نحو الهند في عام 1524، وعمره آنذاك حوالي 40 عاماً. إلا أنه وجد دولت خان لودي قد تراجع عن دعوته له وانضم إلى إبراهيم لودي من جديد، فقفل بابر راجعاً إلى كابل.
وفي سنة 1525 هاجم بابر دولت خان واستولى على إقليم البنجاب، ثم تقدَّم نحو عاصمة الهند دلهي، عند ذلك جمع إبراهيم لودي جيوشه، وخرج لملاقاة بابر، وفي سهل بانيبات في شهر أبريل/نيسان عام 1526 التقى الجيشان في معركةٍ هائلة.
وبينما كان عدد جيش ظهير الدين بابر لا يتجاوز 12 ألف جندي، كان جيش إبراهيم لودي قد بلغ 100 ألف وفق بعض المؤرخين، إلا أن النصر سرعان ما كان حليفاً لبابر، إذ كان بابر يمتلك فرقة مدفعية مميزة حسمت الصراع سريعاً.
نتيجةً لهذا النصر الكبير استولى بابر على العاصمة دلهي، ورحَّب به أهل العاصمة باعتباره "إمبراطور الهند". كما يصف لنا جمال الدين الشيال في كتابه. وفي يوم الجمعة الموافق 22 أبريل/نيسان من عام 1526، خُطب باسمه على المنبر في المسجد الجامع في العاصمة دلهي، وهكذا وضعت معركة بانيبات الأولى حداً لحكم الأفغان في الهند، وإيذاناً بالحكم المغولي لها.
موقعة خانواه.. توطيد حكم ظهير الدين بابر في الهند
بعد انتصار بابر الحاسم في معركة بانيبات الأولى لم يخضع الأمراء الأفغان (بقايا الدولة السابقة) له بالكامل، إذ ظل بعضهم يناوئون سلطانه، كما كان المناخ الحار في الهند عقبةً أمام ظهير الدين بابر، فقد بدأ الكثير من أتباعه يتململون ويلتمسون العودة لوطنهم في كابل، وذلك بسبب عدم تحملهم مناخ الهند الحار.
لكنّ كلّ ذلك لم يُضعف ظهير الدين، إذ كان هدفه من الهند واضحاً، فهو لم يضمها لملكه لتكون ملحقاً وامتداداً لمملكته، بل فتحها ليجعلها مقرّه، ولهذا ألقى في الجند خطاباً حماسياً يشجّعهم على البقاء في الهند، وأعلن أنه قد عزم عزماً أكيداً على البقاء فيها.
كان لهذا الخطاب أثره؛ فتوقَّف جند وقادة بابر عن طلب العودة إلى أوطانهم، كما كان لهذا الخطاب نتيجة أكبر، وهي علم الأفغان بأنّ بابر سيُؤكد حكمه في الهند ما يجعله أكبر حاكم في هذه المنطقة كلها، ولهذا ما لبثوا أن وضعوا أنفسهم تحت خدمته.
ما إن استتب الوضع لبابر وقادته في الهند حتى بدأ ظهير الدين بابر يرسم خططه لفتح بقيّة الهند، ونجح في فتح أقاليم كثيرة من بينها بياناه وجواليور وجونبور، ودولبور.
مع وصول بابر إلى إقليم راجبوتانا واستيلائه على بعض أجزائه قام رانا سانغا وهو أحد كبار أمراء الراجبوت، والذي كان قد استنجد ببابر أيام حكم إبراهيم لودي لها ظاناً منه أنه سيأتي ويغنم من الهند كما كان يفعل الحكام من قبله ثم يعود إلى كابُل، لكن عندما وجده يتخذ من الهند مركز حكمه، أخذ رانا سانغا يعد العدة لمقاومة بابر.
وفي عام 1527، أي بعد شهور من وصوله للهند، تقدم ظهير الدين بابر إلى مدينة أجرا لمقابلة رانا سانغا وجيشه، وصمد الراجبوت وصدوا قوات بابر صداً منيعاً في المعركة، ما جعل بعضاً من جنود بابر يهربون، وهو ما أثار الرعب والفوضى في جيشه، لكنّ بابر ألقى فيهم خطبةً حماسية، ما أثار شعور جنده ليكملوا المعركة.
احتدم القتال بين الفريقين مرةً أخرى وحمي وطيس المعركة، ولم تكد الشمس تغيب حتى كانت الهزيمة قد لحقت بالراجبوت وقائدهم رانا سانغا، وكانت الخسائر فادحة في قوات الراجبوت، إذ قُتل عدد كبير من قادتهم.
سمّيت تلك الموقعة باسم معركة خانواه، وقد كانت من المواقع الحاسمة الفاصلة في تاريخ الهند، والتي وضعت حداً لسلطان الراجبوت، أحد أهم قوى الهند قبل قدوم بابر للهند، وكانت هذه الموقعة إيذاناً ببدء إمبراطورية المغول، والتي جلس على إثرها ظهير الدين بابر على عرش الهند، ومنذ تلك اللحظة نقل بابر ملكه من كابل إلى بلاد الهند.
إخماد الثورات واتساع إمبراطورية المغول المسلمين
تجمَّعت فلول الراجبوت تحت قيادة ماديني راو مرةً أخرى للثأر من ظهير الدين بابر، ولاستعادة سلطانهم، وقد حاول بابر في أول الأمر أن يستميل ماديني إليه بالطرق السلمية، فعرض أن يمنحه إقطاعاً تحت حكمه فرفض ماديني العرض، فخرج بابر لقتاله في الوقت الذي وصلته أخبار أن جيشه قد هُزم وانسحب أمام قوات الأفغان من لكناو، منتهزين فرصة انشغال بابر بمحاربة ماديني.
التزم بابر الصبر ولم تزعزعه هذه الأخبار، واستكمل خطته بتشديد الحصار على ماديني حتى هزمه، وانهار حلف الراجبوت الأخير في الهند، وهنا عمل بابر على إخضاع الأفغان، واستطاع إخماد الثائرين، إلا أنهم عادوا تحت قيادة محمود لودي أخي إبراهيم (السلطان الذي هزمه بابر أولاً) للثورة على حكم بابر؛ فأسرع بابر إليهم، وما إن اقترب منهم حتى هربوا. ثمّ تلقى بابر أنباءً تفيد بإذعان وخضوع أمراء الأفغان خضوعاً تاماً تحت سلطانه فتوقف عن مهاجمتهم.
وفي طريقه عائداً إلى الهند عقد بابر معاهدةً مع نصرت شاه حاكم إقليم البنغال تنصّ على ألا يحاول واحد منهما الإغارة على مُلك الآخر.
لكن لم يلتزم نصرت شاه بالمعاهدة واستولى على ولاية ساسرام، ولم يكتفِ بذلك، بل آوى الأمير الأفغاني الهارب محمود لودي، وبذلك هاجم بابر إقليم البنغال وضمّها لحكمه.
كان لكل هذه الانتصارات التي أحرزها ظهير الدين بابر دوي كبير، فهو أولاً هزم الأفغان وأخضع بقاياهم، هذا إلى جانب تحطيم سلطان الراجبوت في الهند وإنهائه، ما جعل ظهير الدين في نهاية الأمر سيداً مطلقاً للأجزاء الشمالية من الهند، كما جعله واضع أساس الإمبراطورية المغولية المسلمة في الهند.
أصبحت مملكة بابر تضمّ إلى جانب كابل: أقاليم البنجاب والبنغال، وبهار، وأود، وجزءاً كبيراً من راجبوتانا. وكانت إمبراطوريته تمتد من جبال الهملايا في الشمال إلى جواليور في الجنوب، ومن البنجاب في الغرب إلى حدود البنغال في الشرق، وكان في خطة بابر الاستيلاء على كامل الهند، إلا أن الموت قد وصله قبل تحقيق كامل حلمه، لكنّ أحلامه لن تلبث أن تحقّقت على يد سلالته، التي أحكمت قبضتها على الهند وما حولها طيلة 3 قرون من الزمن.
في صيف عام 1530 شديد الحرارة، سقط همايون بن بابر مريضاً معتلاً من شدة الحرارة. أخذ والده يتضرع إلى الله أن ينقل إليه هو المرض بدلاً عن ابنه، وينقل لنا الدكتور جمال الدين الشيال في كتابه "تاريخ دولة أباطرة المغول الإسلامية في الهند" روايةً تحكي أن ظهير الدين بابر قد صاح في أحد الأيام وهو يقول "لقد حملته عنه" أي حمل المرض عن ابنه.
أصيب بابر منذ ذلك الوقت بالوهن والضعف، واعتلّت صحته حتى وافته المنية عام 1530، وعمره 47 عاماً فقط، في الوقت الذي أخذ همايون ابنه يتماثل للشفاء، ويصبح الحاكم التالي للهند من السلالة المغولية الإسلامية.