كان القرن الماضي مليئاً بالغرائب المرتبطة بوحشية وعنف غير مبرّرين، كان لهذه الغرائب الوحشية عدّة عناوين، أحدها كان هتلر بالطبع، لكنّ ستالين أيضاً، الزعيم الأشهر للاتحاد السوفييتي حظي برصيدٍ كبير من هذه الغرائب والوحشية والعنف.
كان أحد هذه الغرائب تلك الفكرة العجيبة التي طرأت على ذهنه؛ أن يحفر قناةً تُنافس قناةَ بنما التي تصل بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، وكذلك تُنافس قناة السويس، التي تصل بين البحر الأحمر ومن خلفه المحيط الهندي والبحر المتوسّط. لكنّ هذه القناة كانت تصل بين البحر الأبيض في أقصى شمال روسيا مروراً بالغابات الكثيرة على شواطئ بحيرة أونيغا، لتصبّ في النهاية في خليج فنلندا على بحر البلطيق.
كان طول هذا الممر المائي 227 كيلومتراً، وهو دليلٌ على عبقرية الهندسة السوفييتية بلا شكّ، لكنّه أيضاً دليل على وحشية ستالين والنظام السوفييتي.
نفّذ هذا المشروع من خلال معسكرات الاعتقال والعمل القسري السوفييتية، التي عُرفت باسم "الغولاغ" وحصدت ملايين الأرواح التي راحت فداءً للأحلام السوفييتية، ولم يكن مشروع حفر الممر المائي (المعروف أيضاً باسم قناة بيلومور) هو الوحيد الذي يعتمد على عمالة "الغولاغ"، لقد كان الأوّل فقط.
وقد أُنجز مشروع قناة البحر الأبيض- بحر البلطيق، في وقتٍ قياسيّ للغاية، وكان يُنظر إليها في البداية باعتبارها نموذجاً لإظهار تفوُّق الشيوعية السوفييتية، لكنّ التكلفة البشرية لإظهار هذا التفوّق كانت مهولة.
قناة الاتحاد السوفييتي التي ستنافس قناة بنما وقناة السويس
نظرياً، ترتبط فكرة حفر القناة بالجغرافيا الروسية. روسيا بلا مطلّات على أيّ مياه دافئة، ما يجعلها محدودة القدرة البحرية، ويجعلها دائماً في موقف ضعف مع الدول ذات المطلّات على المياه الدافئة، مثل تركيا على سبيل المثال، وهذا هو سبب الصراع التاريخي بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية.
وقد كانت فكرة حفر قناة من مياه المحيط الشمالي المتجمدة إلى الموانئ الأكثر دفئاً في بحر البلطيق فكرةً قديمة بالأساس. ظهرت لأول مرة في عهد القيصر بطرس الأكبر في القرن الـ17 وهو أحد أعظم من حكموا روسيا في التاريخ. وقد قوبلت خطط إنشاء ممر مائي يربط بين البحرين بالرفض مراراً وتكراراً وأعيد طرحها ورفضها عدة مرات أيضاً طوال القرن الـ19.
وقد ناقش ضبّاط البحرية الروسية خلال الحرب العالمية الأولى المسارات المحتملة لشق هذه القناة. وقد كان مستثمرو القطاع الخاص يعتبرون هذا المشروع مخاطرة كبيرة للغاية، وكانت أموال الحكومة أقل كثيراً من أن تدعم بناء مثل هذا المشروع، وهكذا ظلّ المشروع يُطرح ويرفض أو يتأجّل طوال قرنين حتّى جاء ستالين.
عادت فكرة إنشاء قناة تصل البحر الأبيض الشمالي ببحر البلطيق في وقتٍ مبكر من عام 1918، لكن حالت الحرب الأهلية الروسية دون إحراز أي تقدم حتى جاء عام 1929. وكان جوزيف ستالين قد بدأ لتوّه خطته الخمسية الأولى للنهوض بالاتحاد السوفييتي من خلال تعزيز التنمية الاقتصادية والصناعية على نطاق واسع.
ستالين.. كلمة السرّ
أحبّ ستالين فكرة إنشاء ممر مائي ضخم يصلح لمنافسة قناة بنما وقناة السويس. وعلى الرغم من ضخامة التكلفة المتوقعة للمشروع كان ستالين يمتلك مورداً ضخماً تحت تصرفه: سجناء معسكرات الغولاغ. التي تشير التقديرات إلى استخدام ما يصل إلى 100 ألف معتقل في بناء تلك القناة.
وهكذا بدأ العمل في حفر القناة في فبراير/شباط 1931، ولكن بدأ العمل بطريقةٍ عجيبة جداً: فقد بدأ جهاز الشرطة السرية للاتحاد السوفييتي في اعتقال كبار المهندسين والمعماريين في البلاد!
اتهموهم ببساطة أنّهم يخططون لتخريب البنية التحتية والصناعة السوفييتية، ولكن في الحقيقة فقد وضعوا قيد الإقامة الجبرية ليبدأوا في التصميم والتخطيط لحفر القناة.
أُنشئ معسكرٌ جديد للاعتقال والعمل القسري خاص بالقناة فقط ونُقلت إليه أول مجموعة من السجناء. وتقرر استخدام المواد المتوفرة على طول المسار المرسوم لحفر القناة لإبقاء التكاليف منخفضة قدر الإمكان، فجاء الخشب من أشجار الغابات على الحدود الفنلندية والطين والمعادن مستخرجين يدوياً من الأرض.
ظروف لا إنسانية
أُجبر أكثر من 170 ألف سجين مدانين في جرائم سياسية وجنائيّة على تحريك أطنان لا حصر لها من التربة والحجارة باستخدام الفؤوس والمجارف والمناشير اليدوية. كتب أحد السجناء بعد سنوات لاحقة: "لم تكن هناك أي تقنية على الإطلاق، حتى السيارات العادية كانت نادرة، فعلنا كل شيء بأدواتٍ يدوية، وأحياناً بمساعدة الخيول وعربات النقل اليدوية، لقد حفرنا الأرض بأيدينا، ونقلنا الحجارة بأيدينا".
تولَّى حُرّاس مسلحون من المديرية السياسية المشتركة للدولة الإشراف على سير العمل تحت قيادة بعض من أكثر الرجال وحشية في الشرطة السرية السوفييتية، وعلى رأسهم: نفتالي فرنكل، وهو ضابط غامض (وسجين سابق في معسكرات الغولاغ) تمتّع بحماية ستالين شخصياً.
ابتكر فرنكل نظاماً وحشياً لتخصيص الموارد يربط الأداء في العمل بالطعام. إذا أنجز العامل المطلوب منه على الوجه الأمثل فإنَّه يتلقّى حصةً غذائيةً أقلَّ من 900 غرام من الخبز وحوالي 90 غراماً من اللحم يومياً.
كان السجناء المرضى يتلقُّون نصف هذه الكمية في حين أولئك الذين فشلوا في إرضاء رؤسائهم كانوا يحصلون على أقل من ذلك.
برّر القادة السوفييت المسؤولون عن المشروع هذا التقليص بأنَّه وسيلة لترشيد استهلاك الموارد في هذه المعسكرات، لكن يبدو أنّ الهدف الحقيقي من كل ذلك هو التخلّص من المعتقلين المرضى والضعفاء، قبل ضم مزيد من المعتقلين الأقوياء بدلاً عنهم.
وهكذا، كان هؤلاء العمال ينقلون ما معدّله 3 أطنان من التربة والحجارة يومياً طوال العام وفي جميع حالات الطقس.
بدأ السجناء يسقطون مثل الذباب بعد وقت قصير للغاية من بدء العمل، وحاول آلاف منهم الهروب من هذا المشروع الوحشي في الأشهر اللاحقة.
وفق التقديرات، فقد مات أكثر من 25 ألف شخص أثناء العمل ودُفنوا في مقابر جماعية في أعماق الغابات الممتدة على جانبي القناة، وهذا غير عدد الذين ماتوا بسبب الإصابات أو المرض.
أما الذين كانوا يتقاعسون عن العمل أو يبدون مقاومةً لرؤسائهم فقد شمل عقابهم تقليل حصصهم الغذائية كما ذكرنا، أو الضرب أو "التعذيب بالبعوض". فقد كان يتم تجريدهم من ملابسهم وتركهم في الغابة فريسة للبعوض في فصل الصيف.
افتتحت القناة أخيراً في 20 يونيو/حزيران 1933 بعد 20 شهراً من بدء العمل فيها. وهو إنجاز، ولكن في الحقيقة كان المسؤولون يريدون الانتهاء من بناء القناة في مهلة العامين التي حدَّدها ستالين لهم، وقد انعكس هذا على القناة بالطبع، فعندما افتتح ستالين "الإنجاز المهيب" ذاك كانت القناة ضحلة وضيقة، ومقارنةً بالأهداف الموضوعة يعتبر هذا المشروع فاشلاً.
كان عمق القناة وقت افتتاحها حوالي 3.5 متر فقط، وهو عمقٌ ضئيل للغاية لا يسمح بمرور السفن الكبرى التي تجوب المحيطات.
نُفذت عدة عمليات توسعة للقناة وتعميقها، وهو ما أدّى إلى تحسين جدواها الاقتصادية وتحفيز نمو بلدات رئيسية كبرى على طول مسارها في ستينيات وسبعينيات القرن الـ20، لكن هل كان هذا يستحقّ التكلفة الخرافية التي دُفعت؟ يبدو أنّها لا تستحق أبداً.