حتى بعد انهيار الدولة الأموية وظهور ملوك الطوائف في الأندلس التي قسمت إلى 22 دويلة اتسمت غالباً بالضعف والتناحر فيما بينها، لم يكن سهلاً على الإسبان إنهاء الحكم الإسلامي في المنطقة، فقد استغرق سقوط الأندلس بالكامل ما يزيد عن 4 قرون بدأت بانهيار طليطلة وانتهت بتسليم غرناطة التي صمدت وحيدة 10 أعوام أمام حملات الإسبان المتتالية.
سقوط الأندلس.. القصة من البداية
بالرغم من أن سقوط طليطلة عام 1085 كان بداية الانهيار الحقيقي للحكم الإسلامي في الأندلس، فإن بعض المؤرخين يشيرون إلى معركة "مغارة دونجا" على أنها أولى محاولات ما يسمى "حروب الاسترداد".
كان ذلك عام 718، أي بعد 7 أعوام من الفتح الإسلامي للأندلس على يد طارق بن زياد، في ذلك الوقت كانت الأمور مستتبة في الأندلس التي أصبحت ولاية تابعة للخلافة الأموية، وكانت أنظار المسلمين متوجهة نحو استكمال الفتوحات والتوغل في أوروبا.
استغل أحد نبلاء القوط، ويدعى " بيلايو"، انشغال المسلمين بحملاتهم على أربونة (في فرنسا) وبلاد الغال، وقاد تمرداً على الدولة الأموية في منطقة أستورياس (شمال غرب إسبانيا)، وقد بدأ تمرده ذاك برفض دفع الجزية وأنهاه بالاعتداء على الحامية الأموية وطرد الحاكم المسلم من المنطقة.
وبالرغم من إرسال الأمويين جيشاً بقيادة علقمة اللخمي لقمع التمرد، فإن جيش اللخمي فشل في مهمته ومُني بهزيمة في معركة أطلق عليها اسم معركة كوفادونجا أو معركة " مغارة دونجا" التي نجم عنها تأسيس مملكة أستورياس في جليقية، والتي تعتبر أولى الإمارات الفرنجية في شمال أيبيريا بعد الفتح الإسلامي.
لم تهدأ المناوشات بين الإسبان والمسلمين بعد تأسيس مملكة أستورياس، واستطاع الإسبان الاستيلاء على بعض المناطق في فترات متفاوتة من الحكم الإسلامي، إذ استولوا على بامبلونا عام 748 ثم برشلونة وسنتياغو وليون.
أعوام من التماسك انتهت بنهاية الدولة العامرية
استمر التواجد الإسلامي في الأندلس قرابة 800 عام، ويمكن تقسيم هذه الفترة إلى جزأين: الأول امتد منذ بداية الفتح الإسلامي حتى سقوط الدولة العامرية وتميز بكونه عهداً ذهبياً استطاع فيه الأمويون الحفاظ على وحدة الأندلس أو تماسكها، أما الجزء الثاني فكان مع بداية نشوء ملوك الطوائف الذين حكموا دويلات متفرقة أضعفها التناحر فيما بينها حتى سقطت جميعها بيد الإسبان.
بدأت قصة المسلمين في الأندلس عام 711، عندما شن طارق بن زياد، في عهد الخليفة الوليد بن عبدالملك، حرباً ضد مملكة القوط الغربيين الذين حكموا شبه جزيرة إيبيريا، ومنذ ذلك الحين أصبحت تلك المنطقة ولاية تابعة للخلافة الأموية في دمشق وأطلق عليها اسم "الأندلس".
وبقي الأمر على ذلك الحال حتى سقوط الدولة الأموية على يد بني العباس الذين بدؤوا بملاحقة أمراء بني أمية فقُتل منهم مَن قُتل ونجا منهم من نجا.. وكان من بين الناجين عبدالرحمن بن معاوية الملقب بـ"صقر قريش" أو عبدالرحمن الداخل، والذي تمكن من الوصول إلى الأندلس لتأسيس خلافة أموية مستقلة هناك عام 756، حيث بقيت الأندلس كياناً قوياً واحداً إلى أن سقطت الدولة العامرية التي كانت تدين بالولاء ظاهرياً للأمويين.
مع انتهاء الخلافة الأموية في الأندلس، شهدت المنطقة حقبة جديدة اتسمت بالتفرقة والضعف وعرفت باسم مرحلة "ملوك الطوائف" حيث قسمت الأندلس إلى قرابة 22 دويلة، منها غرناطة وإشبيلية، والمرية وبلنسية، وطليطلة وسرقسطة.
وقد وصل ملوك الطوائف إلى مرحلة من الضعف باتوا فيها يدفعون الجزية لألفونسو السادس ملك قشتالة، ويستعينون به أثناء تناحرهم مع بعضهم البعض مقابل إمداده بالأموال أو التنازل له عن القلاع والحصون والأراضي.
ضعف ملوك الطوائف كان سبباً في انهيار الحكم الإسلامي في الأندلس، ومع ذلك فقد كان انهياراً بطيئاً للغاية استمر 407 أعوام وبدأ بسقوط طليطلة.
سقوط طليطلة.. أولى ممالك الطوائف الزائلة
فيما اقتسم الأمراء دويلات الأندلس، كانت طليطلة من نصيب بني ذي النون الذين تعود أصولهم إلى البربر.
ومقارنة بباقي ملوك الطوائف، كان بنو ذي النون الأضعف على الإطلاق، إذ لم يستطيعوا أن يحافظوا على دويلتهم فترة طويلة وسرعان ما سقطت لقمة سائغة في أيدي الإسبان.
كان لطليطلة تحديداً أهمية بالغة لدى الإسبان، فقد كانت عاصمة القوط قبل دخول الإسلام إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، كما أنها متاخمة لحدود الممالك الإسبانية مما يجعل منها بوابة عبور باتجاه باقي دويلات ملوك الطوائف.
عدا عن ذلك فقد دخل مسلمو طليطلة وسرقسطة في صراع مع بعضهم البعض، واستعان الطرفان بالملوك الإسبان لنجدتهم ضد إخوانهم.
وفي الوقت الذي شهدت فيه الولايات المسلمة ضعفاً وفرقة وتناحراً، كان الإسبان يعملون على توحيد رايتهم، وخاصة الملك ألفونسو السادس الذي استطاع ضم مملكتي قشتالة وليون تحت رايته.
كل هذه العوامل ساهمت في إغراء ألفونسو للاستيلاء على طليطلة، فحاصرها حتى استسلم أهلها عام 1085، واتخذ منها عاصمة لمملكته.
وما كانت طليطلة إلا البداية فقط بالنسبة لألفونسو الذي بدأ بإرسال رسائله لبقية ملوك الطوائف داعياً إياهم للاستسلام أو الاستعداد لمواجهة مصير طليطلة.
المرابطون الذين أخّروا سقوط الأندلس 4 قرون
من بعد طليطلة، وجَّه ألفونسو أنظاره نحو إشبيلية التي كان يحكمها المعتمد بن عباد آنذاك، وكانت واحدة من أقوى ممالك الأندلس؛ إذ ضمت قرمونة وولبة والجزيرة الخضراء إضافةً إلى قرطبة، عاصمة الخلافة الأموية السابقة.
وبالرغم من ذلك لم تمتلك إشبيلية من القوة ما يجعلها تصمد أمام جيوش ألفونسو، فما كان أمام ابن عباد من خيار سوى الاستعانة بـ"يوسف بن تاشفين"، أمير دولة المرابطين في المغرب.
ركب ابن تاشفين البحر مع جيشه وصولاً إلى الأندلس، واجتمع مع جيش الأندلسيين بقيادة ابن عباد لمواجهة ألفونسو السادس في معركة الزلاقة عام 1086.
مُني الإسبان بخسارة مدمرة في هذه المعركة وأصيب ألفونسو السادس إصابة في فخذه تسببت في عرجه طوال حياته، ويشار إليها إلى أنها المعركة التي أخَّرت خروج المسلمين من الأندلس 4 قرون أخرى.
وبعد مرور بضعة أعوام على هذه المعركة، قرر المرابطون ضم ملوك الطوائف إلى ملكهم وكان من السهل على جيوشهم القوية اختراق دفاعات دويلات الأندلس الضعيفة، فاستولوا على غرناطة ثم على طائفة المرية عام 1090، وعلى إشبيلية عام 1091، وعلى طائفة بطليوس عام 1094 وعلى طائفة سرقسطة عام 1110.
سقوط غرناطة
استمر حكم المرابطين في الأندلس فترة طويلة من الزمن، إلى أن انهار أخيراً على يد الموحدين عام 1147 الذين حكموا بدورهم حتى عام 1212 حيث تمت هزيمتهم من قِبل قوات ألفونسو الثامن في موقعة "العقاب".
مع ذلك لم ينتهِ الوجود الإسلامي في الأندلس مع نهاية الموحدين، على الرغم من استمرار توسع الإسبان وإسقاطهم للمدن والحصون المسلمة واحدة تلو الأخرى. ولم يستطِع الإسبان من السيطرة على الأراضي الأندلسية بالكامل حتى عام 1492 حين سقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس.
عدا عن عزلة غرناطة التي بقيت في النهاية تحارب وحدها، ساهمت العديد من العوامل الأخرى في سقوطها، وكان أبرزها استخدام الإسبان الفعال للمدفعية لإخضاع المدن التي طال حصارها، وتوحد الممالك الإسبانية فقد كانت الحرب على غرناطة مشروعاً مشتركاً بين إيزابيلا الأولى ملكة قشتالة وليون و فرديناند الثاني ملك أراغون.
مع ذلك لم يكن سقوط غرناطة سهلاً، فقد صمدت المدينة 10 أعوام أمام الحملات العسكرية المتتالية التي أنهكت المدينة، حتى قام أميرها أبو عبدالله الصغير بتسليمها في نهاية المطاف إلى الإسبان لتصبح جزءاً من قشتالة ولينتهي بسقوطها حكم إسلامي دام قرابة 8 قرون.