في عام 796 تُوِّجَ الحَكَم بن هشام -ثالث أمراء الدولة الأموية في الأندلس- وجلس على العرش خلفاً لأبيه. ولأنه كان يحب اللهو والبذخ والشرب، وبجانب سياسته في الحدّ من نفوذ الفقهاء والعلماء الذي زاد نفوذهم في عهد أبيه هشام، ومحاولة إبعادهم عن التدخل في شؤون الدولة؛ قُوبل كل هذا من قبل الفقهاء بالسخط والتحريض عليه. كما ذكر لنا المؤرخ الكبير محمد عبدالله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس".
ولكي يُخمد الحَكَم شرارة الثورة التي تلوح في الأفق، قام بالقبض على عشرة من زعماء منطقة الرَّبَض وقام بصلبهم ما أجج الأوضاع أكثر. وفي رمضان عام 818 قامت ثورة الربض في قرطبة ضد الحَكَم بسبب قضائه على الزعماء إلى جانب فرضه الكثير من الضرائب.
أشعل حرس الحكم النار في منطقة الربض وهو ما فرَّق الثوار ليطفئوا ألسنة اللهب التي اشتعلت في منازلهم، وهنا هجم عليهم الحرس وأخذوا يُقتّلون فيهم وينهبون منازلهم، ما جعل الكثير منهم يلوذ بالفرار.
بعد ثلاثة أيام من الحرق والنهب والقتل، قام الحكم بصلب 300 من الثوار، وهدأت الأوضاع بذلك، وقضى على الثورة.
إلا أن باقي أهل الربض أصبحوا بلا مأوى، وأمر الحكم بنفيهم من قرطبة، فبدأ رحيلهم في 20 رمضان. على إثر ذلك أبحرت مجموعة كبيرة قوامها 15 ألف أندلسي إلى الإسكندرية، والتي صادف أن كان فيها حرب أهلية، فاضطر الأندلسيون لمغادرة الإسكندرية وساروا إلى جزيرة كريت (إقريطش)، بقيادة زعيمهم أبي حفص عمر بن عيسى البلوطي، وهو ما أذن بعهدٍ جديد ستعيشه الجزيرة.
تأسيس إمارة إقريطش
عندما توجَّه الأندلسيون إلى جزيرة كريت -التي تنطق باللهجة العربية الأندلسية إقريطش- في أسطول قوامه 40 سفينة، كانت الجزيرة تابعة للدولة البيزنطية في عهد الإمبراطور ميخائيل الثاني، ويقول الدكتور الشريف الحارثي في دراسة تاريخية له بعنوان "جزيرة إقريطش والفتح الإسلامي": إن أسطول الأندلسيين نزل فجأة في خليج سودا في شمال غرب الجزيرة واستطاعوا الاستيلاء عليها بقيادة زعيمهم أبي حفص البلوطي، وذلك في رمضان عام 825.
وبسبب الضرائب المفروضة على أهالي الجزيرة بجانب الشدة والقسوة التي كانت تمارسها الدولة البيزنطية على أهل الجزيرة؛ لم يتعرض أهل الجزيرة إلى الأندلسيين بل انضموا إليهم أملاً في الخلاص من الظلم، ويذكر ابن الأبار "أن الجزيرة كانت آنذاك خالية من أي قوات بيزنطية"؛ وبذلك استطاع أبو حفص العمل على تأسيس قاعدة لهم في الجزيرة؛ إذ أحاطوها بخندقٍ كبير، فعُرفت باسم مدينة الخندق والتي حُرِّفت بعد ذلك إلى اسم Candia وهو اسم المدينة الحالي.
منذ أن تمركز المسلمون في الجزيرة استأنفوا نشاطهم العسكري البحري تحت ظل الدولة العباسية، حيث أصبحت تابعةً لمصر والتي كانت تتبع بدورها الدولة العباسية في ذلك الوقت، كما عمل أبو حفص على تقسيم الجزيرة إلى 40 إقليماً، ودعوة العرب والمسلمين من المشرق والمغرب الإسلامي للمجيء إليها واستيطانها.
ويذكر الشريف الحارثي في دراسته سابقة الذكر أنّ أغلب المهاجرين الأندلسيين كانوا من الشباب، ولم يكن معهم نساءٌ للزواج، فتزوَّج الأندلسيون من أهل الجزيرة، وأُقيمت الأعراس باللغة العربية واليونانية. ولم تلبث الجزيرة منذ ذلك الوقت أن صارت قاعدة بحرية إسلامية مهمة ومستقلة، مع الاعتراف بسيادة الخليفة العباسي في بغداد.
حملات بيزنطية متكررة وفاشلة
مع وصول المسلمين إلى الجزيرة، أدرك الإمبراطور ميخائيل الثاني التهديد الذي قد تشكّله هذه القوة على الدولة البيزنطية، فعين الإمبراطور القائد فوتينوس على جزيرة كريت، ليصل الجزيرة بعد بضعة شهورٍ من تمركز الأندلسيين فيها، وتبين له أن عدد قواته لا يكفي لمهاجمة الجزيرة، فأرسل الإمبراطور مدداً تحت قيادة قائد آخر يدعى دميانوس، إلا أن قوات إمارة إقريطش هجمت عليهم فأصيب دميانوس بجروح بالغة وهرب فوتينوس إلى جزيرةٍ قريبة.
بعد فشل تلك الحملة، وجَّه الإمبراطور حملة ثانية تحت قيادة جنرال يدعى كيبريوتس، وبعد قتالٍ عنيف استطاع أن ينزل عساكره إلى برّ الجزيرة، غير أن المسلمين قتلوا منهم عدداً كبيراً ولم يسلم قائدهم من القتل، وفر الباقي.
بعد هذه الحملة استتب الأمر للمسلمين في الجزيرة، وبدأوا في الإغارة ليس فقط على الجزر المحيطة بل امتد نشاطهم وهجماتهم إلى شاطئ بحر الأرخبيل وهو مكان واقع في بحر إيجة بين اليونان وآسيا الصغرى.
مع وفاة الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني عام 829م وتولي ابنه ثيوفيلوس الحكم، توقفت الحملات ضد مسلمي إمارة إقريطش، إذ أدَّى الفشل المتلاحق الذي مُنيت به الحملات البيزنطية على الجزيرة إلى تخلِّي ثيوفيلوس عن فكرة استردادها بالقوة العسكرية، إلا أنّ المسلمين هاجموا الأسطول البيزنطي بالقرب من جزيرة تاسوس – في قلب بحر إيجة – في عام 829 وأحرزوا انتصاراً كبيراً، ثم أتبعوها بمهاجمة سواحل الأناضول البيزنطية آنذاك.
من أجل ذلك، حاول الإمبراطور استمالة عبدالرحمن الأوسط أمير الأندلس وإثارته ضد أهل إقريطش بتذكيره بثورة الربض التي قاموا بها على أبيه، وأنهم أصبحوا تابعين لأعدائه العباسيين، إلا أن الأمير اعتذر، وتعلل بأنهم غير خاضعين لسلطانه حتى يملي عليهم أوامره.
عند وفاة ثيوفيلوس، تولى ابنه ميخائيل الثالث الحكم عام 843، وجهَّز حملةً ضخمة وجعلها تحت قيادة الوزير ثيوكتستوس.
لم يجد ثيوكتستوس صعوبة في الوصول للجزيرة ونزول الجند إليها، وكان ميخائيل الثالث في ذلك الوقت تحت وصاية أمه ثيودورا، وما إن نزلت القوات البيزنطية إلى الجزيرة، حتى استطاع مسلمو إقريطش إشاعة خبر أن الإمبراطورة جعلت أحد منافسي ميخائيل الثالث مشاركاً له في الحكم، فلم يسع القائد ثيوكتستوس إلا أن عاد إلى القسطنطينية – عاصمة الدولة البيزنطية – مخلفاً وراءه عدداً كبيراً من جنوده في الجزيرة، والذين تعرضوا لهزيمة ساحقة، كما وصفها الحارثي.
بفشل هذه الحملة دخلت جزيرة إقريطش إلى هدوء دام قرابة عشرين عاماً حتى عام 866 العام الذي دخل فيه أسطول إمارة إقريطش إلى جزيرة نيون، واتخذوا منها قاعدة شنوا منها العديد من الغارات على الدولة البيزنطية.
جعل ذلك الإمبراطور ميخائيل الثالث يجهز لحملة بيزنطية كبيرة لمهاجمة إمارة إقريطش (كريت)، إلا أن القائد باسيل، الذي كان ذراع الإمبراطور اليمنى ثمّ انقلب عليه ونصَّب من نفسه إمبراطوراً فيما بعد، قضى على الحملة بتدبير مؤمراتٍ لإفشالها، وهو ما أوقف سير الحملة وتراجعت، وقُتل ميخائيل الثالث على يد باسيل في النهاية واستولى على الحكم في عام 867.
وعن أكبر حملة وجَّهتها الدولة البيزنطية للاستيلاء على إمارة إقريطش، يقول الحارثي إنه في سنة 911 في عهد ليون السادس خليفة باسيل، قاد القائد البيزنطي هميريوس أكبر حملة بيزنطية لمهاجمة إقريطش، إذ تألفت من 7 آلاف فارس، و34 ألف مقاتل، و700 مرتزق روسي.
ومع ذلك انسحب الأسطول البيزنطي بعد قتالٍ دامٍ فشل الأسطول في تحقيق النصر خلاله.
واستكمالاً للحديث عن الحملات البيزنطية الفاشلة لاستعادة إقريطش، يذكر الحارثي أنه في سنة 949، أعدّ الإمبراطور قسطنطين السابع أسطولاً ضخماً يتألف من 137 سفينة كبيرة احتوت على 9700 بحار، و4743 جندياً، من بينهم خيرة الجند في الحرس الإمبراطوري، وجعل على رأس ذلك الأسطول قسطنطين جنجل من كبار الحكومة البيزنطية، وما إن نزل الجنود الجزيرة حتى انقض عليهم المسلمون وأمعنوا فيهم القتل، وكاد قسطنطين يقع في أيديهم، لكنَّه نجا وقام بالهرب، وهو ما كان سبباً في هزيمتهم وتعرض سواحل الإمبراطورية البيزنطية لغارات المسلمين.
استعدادات خارجية وخيانات داخلية
لما وصلت السلطة إلى رومانوس الثاني، صبّ كامل اهتمامه للاستيلاء على إمارة إقريطش، فبذل مجهوداً كبيراً للإعداد لحملة كبيرة عيّن على رأسها نقفور فوكاس، وهو ابن الإمبراطور قسطنطين السابع، كما أنه ذو مكانة مرموقة عسكرياً ودينياً ومن أكفأ القادة البيزنطيين، والذي سيصبح إمبراطوراً بعد رومانوس. وقد فصّلت الدكتور منى القحطاني أحداث تلك المعركة الهامة في بحثها المعنون بـ"الهجرة العربية الأندلسية إلى جزيرة إقريطش".
تحكي لنا الدكتور منى القحطاني أن القوات البرية والبحرية كانت متحالفة من عدة جنسيات كالصقالبة، والأرمن، والروس، والبنجاك والخزر حتى وصلت الأعداد لقرابة 72 ألف جندي؛ قد اجتمعوا وأعدوا المؤن الضخمة استعداداً للحرب، وانطلقت الحملة من ميناء بوكوليون بتوديعٍ رسميّ حَضَرَه الإمبراطور، ووصلت الحملة البيزنطية إلى الجزيرة في 960م، وفرضت الحصار على الجزيرة قرابة 10 أشهر من أجل التضييق على الأهالي، ولمنع وصول أي مساعدات خارجية.
كان هناك مجموعة من المسيحيين الناقمين على المسلمين يعيشون داخل الجزيرة فعملوا ضدهم، وقاموا بأعمال تخريبية من إتلاف للمحاصيل الزراعية، وقطع الأشجار المثمرة، كما عملوا على بث الإشاعات المغرضة، التي تدعو إلى الاستسلام، وعدم المواجهة مما كان لها الأثر الكبير في زعزعة الثقة في نفوس المسلمين على أرض الجزيرة وانهيار معنوياتهم.
ومع تزايد الضغط وطول فترة الحصار، وجّه الأمير عبدالعزيز بن شعيب بن أبي حفص نداءات استغاثة عديدة، وطلب النجدة من القوى الإسلامية في بلاد المغرب والمشرق الإسلامي، ولكن لم يجد أي تجاوب معه؛ فالعباسيون كانت أوضاعهم الداخلية في أسوأ حالاتها، أما الأمويون في الأندلس فكانت في موقف المتردد حيث لم يشأ عبدالرحمن الناصر الخوض في حربٍ لا يعلم عواقبها.
إلا أن المعز لدين الله الفاطمي -وكان لا يزال في المغرب- لبَّى نداءه، وذلك لاتفاق المصالح بينهما، إذ إن الأمير عبدالعزيز بن شعيب عرض عليه أن تكون جزيرة إقريطش تابعة له في حال قَدَّم لهم العون والمساعدة، وبالتالي فهي خطوة واسعة في سبيل تحقيق حلم المعزّ: أن تكون له السيطرة على العالم الإسلامي. وربما فكّر في فتح القسطنطينية عن طريق جزيرة إقريطش القريبة منها، وبذلك بدأ المعز في تجهيز حملته العسكرية.
كان المعز قد أرسل رسالتين؛ الأولى للإمبراطور البيزنطي، يطلب منه التوقف عن محاربة المسلمين ومحاصرتهم، وفي حال عدم استجابته لذلك فلا عهد بينهما، والرسالة الثانية أرسلها إلى حاكم مصر كافور الأخشيدي يحثه على إرسال حملة لجزيرة إقريطش، ويطلب منه التحالف معه ضد الأعداء البيزنطيين ومواجهة خطرهم سوياً، ويعاهده على التكاتف والاتحاد.
سيطرة بيزنطية على جزيرة كريت بعد أكثر من قرن
بالرغم من محاولات المعز، فإنها لم تؤتِ ثمارها، ولو يتعاون معه كافور الأخشيدي، كما استمر البيزنطيون في تهديد إمارة إقريطش، وتشديد الحصار على الجزيرة وأهلها، فوصلت حملة المعز إلى الجزيرة وانضم إليها مسلمو إقريطش حتى بلغوا 40 ألفاً، وخططوا لمباغتة البيزنطيين.
لكنّ البيزنطيون باغتوا المسلمين عند أسوار العاصمة وهزموهم، فقد كان القائد نقفور قد بثّ جواسيسه في أرجاء الإمارة ونقلوا له ما كان يدور داخل معسكر المسلمين.
لكن المسلمين لم يستسلموا، واستمر صمودهم، وهنا جهّز نقفور قواته من جديد ووضع خطة محكمة لتوجيه الضربة القاضية.
بدأت الخطة بتظاهر قوات نقفور بالفزع والتراجع والهروب عندما فتح المسلممن لأبواب المدينة مندفعين لمهاجمة البيزنطيين. طارد المسلمون قوات نقفور معتقدين أنهم سينتصرون عليهم. لكنّ ذلك كان كميناً وضعه نقفور لاستدراجهم خارج مدينتهم حتى وقعوا فيه، فتم القتل والأسر في الكثير منهم، وتفرَّق البقية هاربين، وما كان من الأمير عبدالعزيز بن شعيب الذي يراقب سير المعركة من أحد بروج مدينة الخندق إلا أن أعطى أوامره بإغلاق أبواب المدينة.
ولكي يكمل مهمته؛ عمل نقفور على دك أسوار عاصمة جزيرة إقريطش مدينة الخندق بالمنجنيق، وكثف الهجوم على الأهالي بالسهام والنيران؛ فدب الرعب والخوف في قلوبهم، حتى تمكن بعد 10 أشهر من الحصار من دخول العاصمة بقواته منتصراً معلناً انتهاء الوجود الإسلامي في جزيرة إقريطش والذي دام حوالي قرن ونصف وذلك سنة 961.
وباستيلاء البيزنطيين على جزيرة إقريطش، استعادوا مركز قوة لهم، وموقعاً استراتيجياً وتجارياً مهماً على البحر المتوسط، ومصدر قلق وإزعاج بالنسبة لهم، وبرزت الدولة البيزنطية بعد هذا النصر قوةً بحريةً من جديد في البحر المتوسط.
تقول الدكتور منى القحطاني: "كانت جزيرة إقريطش بمثابة الحاجز الذي يحمي المشرق الإسلامي، وباقي الدول الإسلامية من أي هجماتٍ خارجية، أما بعد سقوط إقريطش أصبح الخطر يتهدد المسلمين؛ فسقط عدد من الحصون الإسلامية في أيدي القوات البيزنطية".
ومن الجدير بالذكر أن جزيرة إقريطش (كريت) هي أكبر الجزر اليونانية وخامس أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، وهي تطل جنوباً على بحر إيجة، وعلى رغم أن مساحتها لا تزيد عن 8336 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها يزيد عن نصف مليون نسمة بقليل؛ لكنها تُعد من أهم جزر اليونان من حيث أهميتها الحضارية، حيث تتمتع بموقع استراتيجي هام أكسبها مكانة ممتازة بين سائر الجزر اليونانية، وذلك لقربها من القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا، مما جعلها مركز التقاء لحضارات مختلفة لشعوب هذه القارات، كما جعلها مستودعاً تجارياً مهماً.