"زفرة المسلم الأخيرة" اسمٌ يطلق على ممرٍ جبلي في مدينة غرناطة الإسبانية. وتقول الأسطورة الإسبانيّة إنّ لهذا الممر قيمة تاريخية، وقد أصبحت قصّته عبر التاريخ الإسباني إلهاماً للكتّاب والأدباء وحتّى الشعراء. ولا شكّ أنّ هذه القصّة "درامية" وحتّى "شاعرية"، ففي هذا المكان -وفق الأسطورة- ودّع أبو عبدالله الصغير بلاده وبلاد أجداده غرناطة بعد سقوطها.
فما قصّة هذا الممرّ وهل هي قصّة حقيقية من الأساس؟
زفرة المسلم الأخيرة.. الخيال الإسباني في مواجهة الحقائق
تروي الأسطورة أنّ أبو عبدالله الصغير، آخر ملوك غرناطة المسلمين، بعدما وقّع اتفاقية التسليم مع فرديناند الثاني وإيزابيلا الأولى، وفي يوم التسليم المتّفق عليه، تقدّم أبو عبدالله من فرديناند وهو جالسٌ على كرسيّة، ومد له مفاتيح قصر الحمراء قائلاً له: إن هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة الإسلام في إسبانيا، وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا، هكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيماً عادلاً.
تكمل الأسطورة روايتها للأحداث بأنّ أبو عبدالله خرج بأسرته وماله من غرناطة، وفي لحظةٍ شاعريةٍ التفّ وحانت منه نظرةٌ حزينةٌ إلى بلاده وبلاد آبائه، وهنا قالت له أمّه المقولة المشهورة "ابكِ كالنساء مُلكاً لم تدافع عنه كالرجال".
ألهمت هذه "النظرة" الأدباء والفنانين الإسبان ورُسمت لهذه "الزفرة" عِدّة لوحات. وسمِّي الممرّ باسم "El Puerto del Suspiro del Moro" وترجمتها "زفرة المسلم الأخيرة".
لكنّ هذه الأسطورة على "شاعريتها" ودراميتها لا يبدو أنّها حقيقيّة. فالحقائق التاريخية تقول إنّ أوّل ذِكر لهذه الحادثة جاء تقريباً عام 1526 عندما حكاها الأسقف "أنطونيو دي غيفارا" للإمبراطور كارلوس الخامس. أي رويت هذه القصّة بعد سقوط غرناطة بأكثر من 30 عاماً.
كما أنّها نالت انتقادات عديدة من المؤرخين، فهي ليست مذكورة في أغلب المصادر التاريخية الإسلامية، إضافةً إلى تعرّضها للنقد الشديد من قبل مؤرخين وكتّاب إسبان. فيبدو أنّ هذه الأسطورة التي بناها هذا الأسقف قد تطوّرت مع الزمن، لتصبح منطقةً معروفةً باسم "زفرة المسلم الأخيرة" في إسبانيا المعاصرة.
هل كان أبو عبدالله الصغير ضعيفاً إلى هذه الدرجة؟
دوماً ما يتمّ إبراز أبو عبدالله الصغير باعتباره ملكاً ضعيفاً ضيّع ملك آبائه وأجداده باستسلامه إلى الملكين فرديناند وإيزابيلا. ولكن لنلقِ نظرةً أخرى على أبو عبدالله الذي لُقّب بـ"الصغير" عند الإسبان، ولقّبه أهل الأندلس بـ"التعيس" أو "المشؤوم".
كما ذكرنا فقد تعرّضت قصة هذه "الزفرة" لنقدٍ تاريخيّ من قبل مؤرخين إسبان، ومثلها تعرّضت رواية تسليم المفاتيح التي ذكرناها سابقاً، من أنّ أبو عبدالله الصغيرة سلّم مفاتيح مدينته وقصره إلى فرديناند بنفسه، ومدّ يده ليأخذ يد فرديناند ويقبلها. لكنّ فرديناند رفض ذلك علامةً على رضاه عنه.
هذا أيضاً يبدو أنّه لم يحدث، فقد حصل التسليم بشكلٍ شبه مُغلق وغير معلن لتجنّب أيٍ من أعمال الشغب التي قد يقوم بها الشعب الغرناطيّ المسلم.
يذكر لنا المؤرخ محمد عبدالله عنان في موسوعته "دولة الإسلام في الأندلس" أنّ مفاوضات تسليم غرناطة قد بدأت أوائل سبتمبر/أيلول عام 1491، أي قبل 4 شهور من تسليم المدينة التي كانت محاصرة طيلة ثمانية أشهر، يقال إنّ أهلها بدأوا يأكلون فيها الفئران من شدة الحصار.
وقد كانت المفاوضات سِريّة يقوم بها ممثلان عن كل طرف، وكانت تُعقد هذه اللقاءات سراً في غرناطة أو في قرية جرليانة القريبة من غرناطة. استمرّت المفاوضات السرية عدّة أسابيع، ووقعت المعاهدة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1491 بينما كان التسليم في يناير/كانون الثاني من عام 1492.
يسجّل التاريخ أيضاً موقفاً متناقضاً من هذا الملك الأخير، أبو عبدالله الصغير، الذي بطبيعة الحال يحمّله التاريخ نتيجة هذا التسليم المُهين.
ولكن يتوجّب علينا أن نذكر أيضاً أنّ غرناطة كانت آخر مملكة تبقّت للمسلمين في الأندلس بعد أن استولى الإسبان على بقيّة الممالك. وقد بدأت الحرب على غرناطة منذ عام 1482، أي استمرّت الحرب عقداً كاملاً من الزمان، حتّى جاءت لحظة التسليم الأخيرة، بعد حصارٍ دام 8 أشهر.
كان ابن أبو عبدالله الصغير أسيراً عند فرديناند، ويبدو أنّ آخر ملوك الأندلس بعدما ضاقت عليه الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية، تحت وطأة حصار الجيش الإسباني المتفوّق عددياً وتقنياً، قرّر التفاوض على التسليم، فالتسليم سيضمن له عودة ابنه إليه.
وقد سُجّل أن أبو عبدالله طلب في بعض المفاوضات أن يظلّ مقيماً في غرناطة، لكنّ فرديناند وإيزابيلا رفضا ذلك رفضاً قاطعاً، خوفاً من أنّ ذلك قد يتسبب في ثورة المسلمين الأندلسيين في أي لحظة، ما دام أميرهم موجوداً حتّى لو دون مملكة.
على كلّ حال، لم ينتظر المسلمون الإسبان أميرهم لينظّموا ثورةً على الاضطهاد الديني والعرقي الذي عانوا منه تحت الحكم الإسباني، فنظّموا عدّة تمردات كان أشهرها ثورة البشرات في غرناطة. يمكنك الاطلاع على تفاصيل أكثر عن ثورة البشرات من هنا.
ولا ننسى في النهاية أنّ التاريخ عادةً ما يكتبه المنتصر، ويبدو أنّ المنتصر طوّر هذه الأسطورة التي تسمّى "زفرة المسلم الأخيرة"، فلم تكن هناك زفرة لأبو عبدالله الصغير، ولم تنتقده أمّه بمقولتها الشهيرة "ابك كالنساء"، كما أنّه لم يقبّل يد فرديناند وربما لم يقابله أصلاً!
عاش أبو عبدالله الصغير هو وأهله في مدينة فاس بالمغرب، حيث منفاه الأخير، وتوفّي عام 1533 في مدينة فاس.
تعرّض المسلمون واليهود كذلك لاضطهادٍ شديد في إسبانيا المسيحيّة، فقد ذهب إلى غير رجعة عهد التسامح الديني الذي كان يمكن فيه لمسيحي أو يهودي أن يكون وزيراً في حكومةٍ مسلمة. وحلّ مكانها عهد محاكم التفتيش الإسبانية.
للقراءة عن محاكم التفتيش الإسبانية (هنا)، كما نرشّح لكم قراءة قصّة البطل المسلم موسى بن أبي غسّان الذي رفض تسليم غرناطة وحارب وحده (هنا).