هذه قصة مثيرة من قصص التاريخ. فأثناء إحدى الحروب العالمية القديمة بين الإمبراطورية الساسانية والإمبراطورية الرومانية، أي بين الفرس والروم، كان بطلها وضحيتها معاً الإمبراطور الروماني فاليريان، وكان بطلها النهائي شابور الأول إمبراطور الفرس، وأما أكثر عناصرها سوءاً فكان ابن الإمبراطور فاليريان، الإمبراطور غالينوس الذي باع أبيه!
الحرب العالمية القديمة
في هذه الحقبة التاريخية القديمة، كانت الإمبراطورية الساسانية والإمبراطورية الرومانية هما الإمبراطوريتين الأبرز والأقوى. نعم كان هناك بعض الإمبراطوريات في الهند وفي الصين وبعضها في إفريقيا، لكنها لم تكن بنفس التأثير والحجم الذي كان لدى الإمبراطورية الساسانية والإمبراطورية الرومانية على السواء.
كانت الإمبراطورية الرومانية تضمّ أغلب دول حوض البحر المتوسّط من إيطاليا وحتى سواحل شمال إفريقيا. وكانت التهديدات التي تحيط بها تأتيها عادةً من قبل القبائل الجرمانية في شمال الإمبراطورية، كما جاءتها من الشرق، إما من طرف قبائل الهون، كما حدث مع القائد المرعب "أتيلا الهوني" ويمكنك القراءة عنه من هنا.
أو كانت تأتي التهديدات من شمال إفريقيا، كما حدث فيما يعرف تاريخياً باسم الحروب البونية. وتمثّل محاولة هانيبال العسكرية لغزو روما ذروة التهديدات الآتية من شمال إفريقيا. ويمكنك القراءة عن مغامرة هانيبال من هنا.
لكن كل هذه التهديدات رغم خطورتها التي كادت في بعضها أن تُسقط روما، إلا أن الصراع المستديم والحقيقي كان مع الإمبراطورية الفارسية على مرّ القرون والحقب. منذ الأخمينيين وحتى البارثيين وصولاً إلى الساسانيين. فقد كان الصراع بينهما صراعاً عالمياً تتحرّك فيه جيوشٌ ضخمة هائلة.
يمكنك القراءة عن تاريخ إيران القديم من هنا.
شابور الأوّل وصعود الساسانيين الرهيب
قامت الإمبراطورية الساسانية الفارسية على أنقاض الإمبراطورية البارثية على يد أردشير الأول، أوّل ملوك الساسانيين، وبعد أن أسّس أردشير الإمبراطورية، قرر إشراك ابنه شابور الأول في الحكم في السنوات الأخيرة من حياته، وبعد وفاته نُصِّب ابنه ملكاً. وقد حكم شابور الأول من عام 240 وحتى عام 270.
وهكذا بدأ ابنه تحرشاته العسكرية مع الإمبراطورية الرومانية التي كانت مفكَّكة للغاية في تلك الفترة. فما يلبث أن يصعد نجم قائدٌ عسكريّ حتّى يُعلن نفسه إمبراطوراً ويقتل الإمبراطور، وهكذا دواليك.
بدأت الحروب بين الإمبراطوريتين في مناطق أرمينيا وسوريا وجنوب شرق تركيا، وبينما كان الإمبراطور الروماني في حربٍ مع شابور الأول في منطقة سوريا الحالية، مات الإمبراطور الروماني غورديان الثالث، وتولّى قائد الحرس الإمبراطوري فيليب العربي الحكم من بعده.
عقد فيليب العربي اتفاقية مع شابور الأول، تنازل فيها عن بعض المناطق في أرمينيا وسوريا، كما دفعت الإمبراطورية الرومانية جزيةً سنوية للإمبراطورية الساسانية بموجب هذه الاتفاقية. بعد خمس سنوات من حكم فيليب العربي حكم ديكوس وإمبراطورين آخرين من بعده، واستمر الجميع بدفع الجزية، إلى أن جاء الإمبراطور فاليريان، واستطاع توحيد القادة المتقاتلين على هدفٍ واحد: استرداد المناطق التي أخذها الفرس.
توقفت الإمبراطورية الرومانية عن دفع الجزية للساسانيين، وأعلنوا الحرب. كان فاليريان قد أشرك ابنه غالينوس في الحكم، وتحت التهديدات التي واجهتها الإمبراطورية الرومانية قسّم فاليريان وابنه الإمبراطورية بينهما، فتوجه ابنه لمواجهة التهديدات في الشمال، وتوجّه فاليريان ناحية الشرق، لمواجهة الساسانيين. وهكذا وقت معركة الرها الحاسمة عام 260.
فاليريان.. أسير شابور الأول!
كان الإمبراطور فاليريان قائداً عسكرياً محنكاً، استطاع في حملته تلك أن يعيد بعض المناطق الحيوية في سوريا، ما مثّل تهديداً بالطبع للإمبراطورية الساسانية وشابور الأول، الذي كان حكمه في أوجه حالياً. ولكن الأحداث جاءت على عكس ما أراد فاليريان.
وبينما كان الجيشان الجراران في طريقهما للمعركة الحاسمة، وصلت شابور الأوّل إخبارية من أحد القادة الرومان واسمه "سيرياديس" حول مقرّ قيادة فاليريان. استغلّ شابور الأوّل هذه الخيانة أحسن استغلال. هاجم المعسكر على حين غِرّة، وأسر الإمبراطور الذي يبدو أنه كان سيكون الرجل الذي يجمع الرومان المتناحرين حول هدفٍ واحد وهو محاربة الفرس.
كان مصير سيرياديس أن وضعه شابور على عرش الرها، لكنّه سرعان ما انضمّ إلى شابور عائداً إلى إمبراطوريته، فلم يكن أحداً من العساكر ليقبل خائناً ملكاً عليه.
لكن خيانة فاليريان لم تأتهِ فقط من الضابط سيرياديس، فقد جاءته تحديداً من ابنه الإمبراطور غالينوس، الذي أعلن أنه لن يخضع لأي مساوماتٍ مع الفرس، وأنه لن يُفقر الإمبراطورية من أجل أن يدفع "فدية ضخمة" لافتداء أيّ رجل، حتّى لو كان أبيه.
كان يمكننا أن نعتقد أنّ غالينوس صادق في دعواه لو أنّه توجّه لمحاربة الفرس، لكن يبدو أنّ الابن باع والده ليستفرد بحكم الإمبراطورية وحده.
ظلّ فاليريان أسيراً تحت سلطة شابور الأوّل، ويقال إنّ شابور قد استذلّه لبقية حياته، وجعله مساعداً له أثناء ركوب الحصان، لكنّ بعض المؤرخين يعتبرون هذه المبالغات مبالغات مسيحية لإثبات أنّ الكون سيعاقب من يضطهدون المسيحيين مثل الإمبراطور فاليريان.
على كلّ حال، فقد توفي فاليريان وهو أسير على أراضي إمبراطورية الساسانيين، تلك الإمبراطورية التي حلم يوماً ما أن يردّها على أعقابها، ولكن خانه ضابطه وابنه، كلاهما، وتركاه تحت رحمة سجّانه وعدوّه.
يعتبر فاليريان أوّل إمبراطور روماني يؤسر في معركة، كما تعتبر معركة الرها أحد أبرز الفضائح والهزائم العسكرية التي مُنيت بها الإمبراطورية الرومانية طوال تاريخها.