بعد أكثر من 3800 عام على اعتلائه السلطة، ما زال يُذكَر الملك البابلي القديم حمورابي بمجموعة القوانين التي سنّها والتي عُرفت بشريعة حمورابي، تلك القوانين التي تعرف باعتبارها أقدم القوانين في التاريخ، نُقِشَت على أعمدةٍ حجرية بحجم الإنسان ووضعها في المدن الرئيسية لمملكته.
لكنّ شريعة حمورابي تلك التي تتألَّف من 282 قانوناً كانت مجرّد أحد إنجازات القائد الذي حوَّلَ مدينة بابل، وهي دولة/مدينة تقع على بُعد 60 ميلاً جنوب بغداد الحديثة، إلى القوة المهيمنة الوحيدة في بلاد ما بين النهرين القديمة، وفقاً لما نشره موقع History.
فخلال فترة حكمه التي امتدت 42 عاماً، من عام 1792 إلى وفاته عام 1750 قبل الميلاد، كان حمورابي أيضاً نموذجاً لكيفية الجمع بين القوة العسكرية والبراعة الدبلوماسية والمهارة السياسية في آنٍ واحد، للمساعدة في بناء إمبراطوريةٍ امتدَّت من الخليج إلى الداخل على امتداد 250 ميلاً على طول نهريْ دجلة والفرات.
وإلى جانب نحته قوانينه على الحجر وبقائها لآلاف السنين فهي الآن في متحف اللوفر في باريس، فقد كانت هناك جوانب أخرى عديدة لإنجازات هذا الملك، بحسب ما ذَكَرَه أستاذ التاريخ بجامعة كولومبيا، مارك فان دي ميروب، في كتابه "الملك حمورابي ملك بابل: سيرة" الصادر عام 2005. ويذكر الكتاب أيضاً أنَّ حمورابي كان "حاكماً ومحارباً ودبلوماسياً وإدارياً".
وُلد حمورابي عام 1810 ق. م، وفي عُمْر الثامنة عشرة أصبح حاكماً لبابل عام 1792 ليصبح الملك السادس في سلالته الحاكمة التي بدأت حكم بلاد الرافدين منذ عام 1894 ق.م.
وتنحدر عائلة حمورابي تلك من قبائل العموريين شبه البدويّة القادمة من غرب سوريا. وقد بدأت تلك القبائل بدايةً من القرن الثالث بالانتشار في بلاد ما بين النهرين والشام حتّى ملكوها في النهاية.
وربما بسبب هذه الخلفيّة التاريخية أصبح اسم حمورابي مزيجاً من لغتين، فتعني كلمة "حمو" في اللغة العمورية "عائلة"، بينما تعني كلمة "رابي" في اللغة الآكدية "عظيم"، وقد كانت تلك الأخيرة اللغة السائدة واليومية في بابل.
في سنوات حكمه الأولى اهتمّ حمورابي بالشؤون الداخلية لمملكته، وخطوة وراء أخرى استطاع توسيع مملكته، مطيحاً بممالك آشور ولارسا وإشنونة وماري. وما إن وصلت سنون حكمه ثلاثين عاماً حتّى أصبحت كلّ بلاد الرافدين تحت سيطرته المباشرة والمطلقة، ممداً سيطرته حتّى سواحل البحر المتوسط في بلاد الشام.
أصبح حمورابي أقوى حاكم في المنطقة، لأنه كان "رجل دولة ذكياً"، وفقاً لكيلي آن دايموند، الأستاذة المساعدة في التاريخ بجامعة فيلانوفا. تفصِّل كيلي كيف خاض حمورابي طريقه إلى الهيمنة ببراعة، إذ كتبت:
لم تكن لدى حمورابي مشكلةٌ في تشكيل تحالفاتٍ ثم فضها إذا رأى ذلك مواتياً لمصلحته. كانت لديه شبكةٌ مُعقَّدةٌ من الدبلوماسيين والجواسيس الذين يعملون لصالحه ليكون الحاكم الأوسع معرفةً في المنطقة على الإطلاق.
واعتمد حمورابي في معظم فترة حكمه على الدبلوماسية لتعزيز مصالح عاصمته بابل، بينما كان يبني جيشه في نفس الوقت. لم يتحوَّل إلى قوةٍ مُعتَبَرة إلا بعد سنواتٍ طويلة من حكمه. كانت تلك لعبةً استراتيجية طويلة المدى، لكن كان لديه الوقت اللازم لخوضها، إذ تُوِّجَ ملكاً في سنّ الثامنة عشرة، وهو سن أصغر بكثير من الملوك الآخرين في المنطقة، كما ذكرنا.
المؤسس الحقيقي لبابل
حين أصبح حمورابي ملكاً في عام 1792 ق.م، لم تكن مدينة بابل مؤهَّلةً لمنافسة عدوتها في الجنوب، مدينة لارسا. وقد هزم ملكها والد حمورابي في معركةٍ سابقة.
لكنَّ حمورابي كان أعظم من أبيه، فسرعان ما شرع في تعزيز مدينته. فأصبح أول من شيَّد أسواراً مُحصّنة حول مدينته. في الوقت نفسه حرص حمورابي على أن يشكر رعاياه، وأصدر إعلاناً بإلغاء جميع ديونهم -وهي لفتةٌ كرَّرها أربع مرات خلال فترة حكمه. وهكذا أصبحت جبهته الداخلية متماسكة.
ثمّ عزّز حمورابي شعبيته أيضاً من خلال إصلاح الطُّرق وبناء الجسور في كلّ المدن التي تقع تحت سيطرته. وهكذا عزَّزَ حمورابي نفسه سياسياً من خلال تدشين سلسلةٍ من مشاريع البنى التحتية الضخمة. فبنى المعابد ومخازن الحبوب والقصور، وشيَّد جسراً عبر نهر الفرات سَمَحَ للمدينة بالتوسُّع على كلتا الضفتين، وحفر قناة ريٍّ كبيرة تحمي الأرض من الفيضانات.
وبالطبع كما هو متوقع، فقد آتت مشاريعه ثمارها، فتحوّلت بابل تدريجياً إلى مدينةٍ ثريةٍ ومزدهرة.
لكنّ حمورابي حرص أيضاً على التأكُّد من أن يعرف الجميع بأنه شخصياً هو المسؤول عن كلِّ هذه المشاريع الجيدة. فحين بنى قناة الري مثلاً، تأكَّد من أن الجميع يعرفون أنه كان فقط يفي بالتزاماته تجاه الآلهة الذين عهدوا إليه بالأرض. وهكذا تصبح سلطته شيئاً فشيئاً مطلقة.
ووفقاً لما ورد في كتاب "قصة الحضارة" للمؤرِّخ الكبير ويل ديورانت، فقد تحوَّلَت ضِفَّتا القناة إلى أرضٍ زراعية. فقد جمع الحبوب، وزوَّد الأراضي بمياهٍ لا تنضب، وجمع الأشخاص المشتَّتين في المراعي ووفَّر لهم المياه عن طريق هذه القناة وأسكنهم مساكن هادئة. وهكذا نَعِمَ مواطنو بابل بالاستقرار الاقتصادي والسياسي.
وكما توضِّح لنا "موسوعة التاريخ القديم"، فقد كانت لدى حمورابي طريقته الماهرة للجمع بين القوة العسكرية والدبلوماسية معاً. وكان يعرف كيف يستخدم كلّ واحدةٍ منهما في التوقيت المناسب.
فكان مثلاً يشكِّل تحالفاتٍ مع حكَّامٍ آخرين ثم يفضَّها فجأةً إذا رأى ذلك مواتياً. وشنَّ حروباً بطرقٍ خادعة، وكانت إحدى حِيَلُه هي قطع إمدادات المياه عن المدينة المنافسة. وهكذا استخدم "سلاح العطش" للضغط على القادة الخصوم ليستسلموا، واستخدم كذلك إطلاق المياه فجأةً للتسبُّب في فيضانٍ مدمِّر من شأنه أن يُضعِف خصمه أثناء هجومه عليه!
قانون حمورابي يظلُّ نموذجاً عبر التاريخ
غطَّى قانون حمورابي المُفصَّل -يسمَّى أيضاً شريعة حمورابي – أموراً تتراوح من سلامة المباني والميراث إلى انضباط العبيد والرسوم التي يجب أن يدفعها الأطباء البيطريون القدامى مقابل علاج الثيران والحمير، بل والعقوبات على الأطباء الذين يتسببون في مقتل مرضاهم عن طريق الخطأ، وكذلك أمور تتعلّق بسداد الديون والتجارة وغيرها من القوانين التي تنظم كامل طبقات المجتمع.
لم يكن هذا هو النظام القانوني الأول في العالم وفق العديد من الباحثين، فقد ضمَّ حمورابي في شريعته بالفعل قوانين وضعها ملوكٌ سابقون عليه. ولكن ما لقى صدى هو فكرة المجتمع المبني على مبدأ القانون والنظام الذي ينطبق على الجميع.
في شريعة حمورابي هناك العديد من القوانين التي نصنِّفها في زمننا الحالي باعتبارها قاسية ودموية أو همجية، مثل أنّه يمكن للرجل أن يستخدم امرأته في سداد الديون، وأنّ العبد الذي يحاول أن يهرب من سيده يقتل مباشرةً، لكن هناك قوانين أخرى توحي بالرعاية والمسؤولية تجاه الفئات المُهمَّشة، كما أنّ هناك قوانين أخرى يمكن تفهّمها مثل أنّ عقوبة السرقة هي القتل.
تضمَّن نظام حمورابي القانوني ميزاتٍ مألوفة اليوم، مثل مبدأ أنه يجب جمع الأدلة وإثباتها لإدانة أيِّ شخصٍ مُتَّهمٍ بارتكاب جريمة، ما يعني تطبيقاً لقاعدة أنّ المتّهم بريء حتى تثبت إدانته. لكنّ تلك الشريعة اشتملت أيضاً على قوانين تكرّس لسلطة حمورابي.
فقد اعتقد حمورابي أنّه مرسلٌ من قِبَل الآلهة ليسنّ تلك القوانين، كما أنّه دائماً ما كان يعزو إنجازاته للآلهة التي أرسلته، وهكذا فقد أكّد حمورابي سلطته من خلال القوانين العسكرية التي وضعها في شريعته.
فأي جندي يهرب من التجنيد مصيره القتل، كما أنّه إذا أمر جنديّاً أن يذهب للحرب في سبيل الملك ولم يذهب يقتل مباشرةً، وأي جندي يستأجر جندياً آخر ليخوض الحرب بديلاً عنه يقتل مباشرةً، وإذا وافق القائد على ضم ّهذا الرجل المستأجر يقتل أيضاً! وهكذا ضمن حمورابي ولاءً من أتابعه لانجازاته، وبالعقاب أيضاً من خلال شريعته.
حمورابي باعتباره حاكماً خيِّراً
من بعض النواحي، كان نظام حمورابي القانوني أيضاً أداةً للعلاقات العامة وطريقةً للملك لإبراز نفسه ببراعةٍ كحاكمٍ حكيمٍ وخيِّر وقوي في آن. ولهذه الغاية، يصوِّر أحد الأمثلة الباقية على أعمدة حمورابي الحجرية لقاءه مع شماش، إله العدل البابلي.
بالنسبة لبعض الباحثين، فليس هناك من شكٌّ في أنّ حمورابي أراد أن يُنظَر إليه باعتباره حاكماً عادلاً يحمي مواطنيه، بالإضافة إلى اعتباره بديلاً عن الآلهة على الأرض، وقائد حربي ومُشيِّد وقاضٍ تؤول إليه الأمور في نهاية المطاف.
لكن في حين أن حمورابي ربما كان من أوائل السياسيين العظماء الذي روَّجوا لأنفسهم في التاريخ، فإن الصورة التي ابتكرها لم تكن كلها على سبيل الدعاية فقط. لقد كان حاكماً خيِّراً حقاً وأراد أن يتمتَّع رعاياه بحياةٍ أفضل.
في مراسلات الملك القديم مع مسؤوليه، أوضح أن أيَّ شخصٍ يشعر بتعرُّضه لسوء المعاملة في المحاكم يمكنه اللجوء للملك مباشرةً، وربما كانت هذه إحدى أدوات قوته المهيمنة.
وهكذا، فقد ضمن حمورابي أن كلَّ الناس سيُحكَم عليهم بإنصاف ولا يجب أن يخافوا من سلطته.
بابل تستمر قروناً بعد حمورابي
لا شكّ أنّ تأسيس بابل بهذا الشكل لتصبح إمبراطورية ضخمة ومسيطرة على طريقة حمورابي جعلها تستمرّ في دورها ليس فقط لسنواتٍ أطول، وإنّما تستمرّ لقرونٍ من بعده. فقد استمرّت مملكته بعده لقرون كاملة، حتّى جاء عام 1531 ق.م، عندما دخل الحيثيون إليها وأحرقوها.
لكنّ المدينة التي أصبحت مثلاً في العالم القديم استطاعت أن تنهض من الرماد من جديد، حتّى دخلها الآشوريون عام 1250، وعندما ثارت تلك المدينة في وجه السيطرة الآشوريّة عام 1239 أحرقوها. لكنّ إبادتها تماماً جاءت على يد الملك الآشوري سنحاريب عام 689 بعدما واجه ثورةً على حكمه. فحوّلها إلى صحراء وأباد أهلها ودمر منازلها.
وعندما دُمِّرت تلك المدينة الساحرة، ظنّ الجميع أنّ أسطورة بابل تلك قد انتهت إلى الأبد، وبرزت مدينة نينوى مقرّ حكم الآشوريين لتأخذ مكان بابل. لكنّ تلك المدينة انبعثت من الرماد مرةً أخرى.
تعني كلمة بابل "باب الآلهة"، وتُذكر بابل عادةً باللعنات من قبل أنبياء بني إسرائيل. وسنفهم ببساطة لماذا تُذكر هذه المدينة باللعنات عند بني إسرائيل، عندما نعرف أنّ مؤسسها الثاني كان هو نفسه الملك البابلي الشهير نبوخذ نصّر، الذي حكم الشام وأخذ من اليهود عشرات آلاف الأسرى والسبايا.
استطاع نبوبولصر – وهو مؤسس آخر سلالة بابلية – القضاء على المملكة الآشورية وشرع في بناء بابل من جديد، وقد توفِّي أثناء ذلك ليحكم من بعده ابنه نبوخذ نصّر من عام 605 وحتى عام 562 ق. م، لمدّة 43 عاماً، وهي نفس المدة تقريباً التي حكمها حمورابي قبله بألف عام.
بدأ نبوخذ نصر في بناء بابل من جديد، فبنى المعابد والأبواب الكبيرة والقناطر والسدود والقنوات المائية، وتحوّلت بابل من جديد إلى إحدى أبرز مُدن العالم القديم، فقد كانت تأتيها البضائع الثمينة من مصر وإسبانيا وفينيقيا (لبنان) وأرمينيا وإيران والهند وقيليقية، وأصبحت أكبر مركز تجاري ومالي في العالم.
وفي عهد نبوخذ نصّر بُنيت في بابل إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة: حدائق بابل المعلقة. تلك الحدائق التي بناها لزوجته.
مرّت بابل كغيرها من المدن والممالك بالعديد من فترات الازدهار والانحدار، حتّى وصلها الإسكندر الأكبر وسيطر عليها بعدما هزم الدولة الأخمينية، فدخلها عام 331 ق. م، فاحترم ثقافتها ومركزها الحضاري وجدد بعض مبانيها ومعابدها، وجعلها مقراً لحملاته العسكرية في المنطقة المحيطة، وقد توفي بها لاحقاً، ليرثها من بعده قائده العسكري الشهير سلوقس مؤسس السلالة السلوقية التي حكمت بلاد العراق وأجزاء من الأناضول والهند حتّى القرن الأول الميلادي.