غرّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول، قائلاً: يجب أن تنتهي الانتخابات يوم 3 نوفمبر (تشرين الثاني) وليس بعدها بأسابيع! المتابع للانتخابات الأمريكية سيفهم مغزى ما لمّح إليه ترامب، إذ إنّ الأمر الذي قد يستغرق أسابيع لإعلان النتيجة النهائية للانتخابات بالتصويت بالبريد. فما هو هذا التصويت ولماذا يعارضه ترامب لهذه الدرجة؟
بدأ العمل به منذ قرنٍ ونصف!
بدأ التصويت بالبريد عام 1860 أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، عندما سمح للجنود بالتصويت عبر البريد في ساحات القتال. ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر توسّعت تلك القوانين الانتخابية في ولاياتٍ عديدة، فأصبح التصويت بالبريد ممكناً للمرضى وللمسافرين، ثمّ لجأت أمريكا بقوة لهذا التصويت خلال الحربين العالميتين في القرن الماضي.
لكنّ إمكانية التصويت بالبريد لا تتوقّف على حالات الحروب والسفر، وإنّما تطوّر الأمر في الثمانينيات عندما أعلنت ولاية كاليفورنيا أنّ بإمكان الناخبين طلب أن يقترعوا من خلال البريد لأيِّ عذرٍ كان، وفي عام 2018 أصبحت 27 ولاية تتبنّى نفس المنطق.
وفي الوقت الحالي تسمح جميع الولايات بالتصويت عبر البريد، لكنّ بعض الولايات تُلزم الناخب بتقديم عذرٍ محدّد. كما أنّ متطلبات التصويت عبر البريد تختلف من ولايةٍ إلى أخرى، فبعض الولايات تكتفي بتوقيع الناخب، بينما البعض الآخر يشترط وجود شهود.
بالإضافة إلى التصويت بالبريد يوجد هناك ثلاثة أنواع أخرى يمكن للناخب الأمريكي أن يصوّت بها، وللتعرُّف أكثر على هذه الأنواع الأخرى وآلياتها يمكنك الاطلاع على هذه المادة.
لماذا يعارض ترامب التصويت بالبريد ولماذا يدعمه الديمقراطيون؟
يمكن لنا الآن بالطبع تخمين سبب الصراع الحالي على التصويت بالبريد، فمن ناحية يعارض ترامب هذه الطريقة في التصويت، بينما يدعمها خصومه الديمقراطيون. والسبب في هذا الصراع هو جائحة كورونا المستمرّة منذ حوالي سنة، والتي كانت نتائج تعامل ترامب معها سيئة للغاية على أرقام المصابين والضحايا من الفيروس. والتي ستجعل من الضروري الاعتماد على التصويت بالبريد.
لكنّ ترامب يصرّ على أنّ خطط بعض الولايات لمواجهة الوباء من خلال إرسال بطاقات الاقتراع عبر البريد هي "تمهيد لكارثة" وستسبب الفوضى وتلقي بظلالٍ من الشكّ على نتيجة الانتخابات، بل وقد تفتح باب التزوير. وقد هاجم ترامب التصويت عبر البريد مراراً، وقد غرد منذ أسابيع قائلاً انّ التوسُّع في التصويت بالبريد سيكون سيئاً للحزب الجمهوري.
ويعتقد المراقبون أنّ ترامب يدرك تماماً أنّ فرص منافسيه الديمقراطيين أقوى بكثير منه إذا تمّ اعتماد التصويت عبر البريد. إذ إن اغلب الذين سيصوتون عبر البريد هم من فئات الأقليات والفقراء الذين لا يمتلكون سيارات للذهاب لنقاط الاقتراع، وهم عادةً ما يصوِّتون للديمقراطيين الذين تتفق سياساتهم مع توفير الرعاية والأمان الاجتماعي لهذه الفئات.
فهل التصويت بالبريد آمن؟
شرحنا في الفقرة السابقة لماذا يقلق ترامب من التصويت بالبريد، إذ سيزيد من فرص منافسه جو بايدن، ولكن هل هذا التصويت عبر البريد آمن من الأساس؟
نعم آمن، ويكفي أن نذكر أنّ انتخابات عام 2016 التي فاز فيها ترامب نفسه بالانتخابات شهدت 57.2 مليون ناخب صوتوا من خلال البريد، بينما في عام 2004 صوّت من خلال البريد 24.9 مليون ناخب.
بل وكشفت دراسة أكاديمية فحصت سجلات 250 مليون بطاقة اقتراع، خلال العقدين الأخيرين، عن وجود تزوير في 143 حالة فقط صدرت فيها أحكام قضائية، أي أنّ التزوير في التصويت عبر البريد نسبته هي 0.00006%، وهذه نسبة أقل بكثير من نسبة التزوير في الانتخابات العادية.
بل إنّ استطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث، وجد أنّ أكثر من 70% من الناخبين الأمريكيين لديهم آراءٌ إيجابية حول التصويت بالبريد.
المعركة مستمرة منذ شهور على "هيئة البريد" في أمريكا
عمليّة الاقتراع في أمريكا عملية غير مركزية، أي لا تديرها الحكومة المركزية الفيدرالية وإنما تديرها حكومات الولاياتٍ بطريقة منفصلة عن الحكومة المركزية، فلكل ولاية طريقتها في تنظيم عملية الانتخاب شرط ألا تخرق أياً من المعايير التي تفرضها الحكومة الفيدرالية.
وفي عملية الاقتراع عبر البريد تلعب هيئة البريد الفيدرالية دوراً مركزياً، إذ إنها توزِّع بطاقات الاقتراع على الولايات وتجمعها وتعيدها لمسؤولي كل ولاية ليتولوا هم عمليات الفرز وإعلان النتائج، أي أنّ هيئة البريد تقوم بدور "البريد" فقط، أي "الناقل".
بطريقةٍ تقنيّة تستطيع هيئة البريد الأمريكية التكيُّف مع أعداد الناخبين عبرها في هذه الانتخابات، فتقييمات قدرتها الحالية أنّه يمكن لها تغطية ما يقارب 160 إلى 180 مليون ناخب أمريكي للتصويت عبرها.
إذ يعمل في هيئة البريد 497 ألف موظف وعامل، وتنفق هيئة البريد أسبوعياً مليار دولار على المرتبات والمخصصات المالية الأخرى، وهناك أكثر من 31 ألف مكتب بريد بمتوسط 614 مكتباً لكل ولاية، إضافة إلى 142 ألف صندوق بريد.
لكنّ ما يضفي صعوبةً على عملها هذه المرة هو وصول بطاقات الاقتراع مبكراً وإعادتها مبكراً وعدَّها في التوقيت المقرر طبقاً لقوانين كل ولاية، وهذا الأمر صعب نسبياً بسبب التدابير الاحترازية التي يفرضها تفشي فيروس كورونا، ونقص الموارد، إذ إنّ الهيئة حققت العام الماضي عوائد قدرها 71 مليار دولار في مقابل مصروفات بلغت 80 مليار دولار، ما جعل وزارة الخزانة تمنح الهيئة قرضاً مقدارة 10 مليارات لمواجهة الأعباء المالية، وفق ما ذكره الكاتب محمد المنشاوي لموقع الجزيرة نت.
يستغلّ ترامب بالطبع تلك الحالة ليحاول "إلغاء" الأصوات القادمة من التصويت عبر البريد بطريقةٍ غير مباشرة، فقد أعلن أنّه سيذهب للمحكمة العليا بسبب الأصوات المتأخرة، وهكذا فإنّه بطريقةٍ ما يحاول ألا يحتسب الأصوات التي ستصل متأخراً بسبب عمليات النقل التي ستستغرق وقتاً طويلاً لإعلان النتيجة النهائية.
يستشهد عادةًض ترامب ببعض النماذج التي أجلت إعلان نتيجة الانتخابات. ففي الانتخابات التمهيدية بولاية نيويورك تأخر إعلان نتائج بعض الدوائر الانتخابية في مجلس النواب لأسابيع، بسبب عدم الانتهاء من عدّ وفرز كل البطاقات الانتخابية.
لكنّ معركة ترامب تلك مع التصويت عبر البريد لم تبدأ اليوم، ففي منتصف 2020 عيّن لويس ديجوي مديراً لهيئة البريد، وهو جمهوري مؤيد لترامب بشدة. وهكذا بدأت معركةٌ مفتوحة بين الديمقراطيين وترامب على هيئة البريد.
بدأ لويس ديجوي -المدير الجديد للهيئة المناصر لترامب- بعض الإجراءات والتغييرات لخفض التكاليف، بما في ذلك إلغاء ساعات العمل الإضافي، وتقليص أسطول نقل البريد، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تأخر تسليم البريد، كما حظر ديجوي أي تعيينات جديدة في الهيئة.
وقد أبلغت الهيئة -فور تولي ديجوي إدارتها- 46 ولاية باحتمالية وجود تأخير في وصول ملايين بطاقات الاقتراع البريدي للانتخابات الرئاسية لفرزها في الوقت المناسب. كما أنّه حتى لو التزم الناخبون بالمُهَل المحددة من قبل ولاياتهم، إلا أنه لا يمكن لهيئة البريد ضمان إيصال بطاقات الاقتراع البريدي في الوقت المناسب.
ولكن بعد ضغوط من رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي، عاد رئيس الخدمة وأكّد لأعضاء الكونغرس أنّ الهيئة لم تُدخل أي تغييرات على الطريقة التي تتعامل بها مع عملية التصويت عبر البريد، وأنّ عمال البريد سيسلمون 95% من البريد الانتخابي خلال ثلاثة أيام، مثلما حدث في انتخابات الكونغرس عام 2018.
ولكنّ السؤال الذي يدورُ في الأفق بعدما صرّح ترامب بالذهاب للمحكمة العليا: هل ستكون الأصوات البريدية مفيدة بأيّ حال؟ لأنّ الفرز قد يستغرق أسابيع في بعض الولايات كما ذكرنا في هذا التقرير، بينما سيذهب ترامب للمحكمة العليا بشأن كل الأصوات المتأخرة، والتي من ضمنها التصويت بالبريد.
تبقى الأيام هي من سيخبرنا بالإجابة، فليس هناك تخمينات يمكنها الإجابة.