تاريخ الحروب الدموية بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية

على مدار 4 قرون -بداية من القرن السادس عشر حتى العشرين- شهد العالم واحداً من أطول الصراعات فيه، بين الدولة العثمانية، وروسيا القيصرية. في هذا التقرير نعرض لك هذا الصراع بالتفاصيل.

عربي بوست
تم النشر: 2020/10/23 الساعة 11:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/24 الساعة 10:31 بتوقيت غرينتش
إحدى مشاهد حرب القرم بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية / Istock

على مدار 4 قرون -بداية من القرن السادس عشر حتى العشرين- شهد العالم واحداً من أطول الصراعات فيه، بين الدولة العثمانية، وروسيا القيصرية.

وقد كان الصراع بينهما يتمحور على أمرين: أولها "السيطرة وبسط النفوذ" على أراضي خانيّة القرم وبالتالي على البحر الأسود وممراته باتجاه البحر المتوسط، وذلك كون تركيا وروسيا قوتين أورو-آسيويتين متجاورتين وتتشاركان في هذه المناطق.

وثانيها "الدين" الذي كان أحد أهم المحاور في بداية الصراع بينهما، حيث كانت روسيا تدين بالمسيحية الأرثوذكسية، قبل عدة قرون من فتح العثمانيين للقسطنطينية عام 1453 وإنهائهم الإمبراطورية البيزنطية، وهنا رأى الأباطرة الروس أنفسهم ورثة بيزنطة وعاصمتهم وريثة للقسطنطينية، وتبنَّوا لقب القيصر تيمناً بلقب القيصر البيزنطي.

ومنذ عام 1568 حتى عام 1918، درات بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية 13 حرباً، سنتناولهم في هذه المادة ببعض التفصيل.

روسيا تبدأ الحرب والدولة العثمانية تحاصرهم سنتين دون نجاح

تُعتبر أول حرب عسكرية بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية. كما أنها إحدى أقوى المعارك بينهما، وقد دامت سنتين. 

بدأت المعركة على أثر اعتداء روسيا على مدينة أستراخان التي كانت تتبع لولاية القرم العثمانية وضمها لحكمها عام 1568، بهدف إنعاش اقتصادها الذي كان يبحث عن متنفس بحري لإتمام عمليات التصدير. تعرف المدينة الآن أستراخان أوبلاست، وتقع جنوب غرب روسيا على وتطل على بحر قزوين ونهر الفولغا.

الدولة العثمانية
لوحة إحدى الحروب العثمانية – الروسية

وعلى الفور أرسل السلطان العثماني سليم الثاني في 4 أغسطس/آب جيشاً عدده أكثر من 5 آلاف جندي بقيادة قاسم باشا إلى القرم لإسترجاع المدينة، وفرض الجيش الحصار البري والبحري على المدينة بطريقةٍ محكمة لأكثر من سنتين.

ولكن بسبب الأجواء الصعبة والبرد القارص ونقص الإمدادات للجانب العثماني ووصول الإمدادات للجانب الروسي، انسحب العثمانيون من الولاية، وعلى إثر ذلك، تم توقيع أول اتفاقية سلام بين الطرفين عام 1570 أعادت العلاقات الودية بين السلطان سليم الثاني

السلطان سليم الثاني

هو أحد السلاطين العثمانيين الذي تولوا الحكم في ذروة قوّة الدولة العثمانية، فهو ابن السلطان العثماني الأقوى سليمان القانوني. بعد وفاة سليمان القانوني في إحدى المعارك، كتم الصدر الأعظم خبر وفاة السلطان عن الجند حتّى تسلّم سليم الثاني الحكم.

يعرف سليم في الروايات الغربية باعتباره "سليم السكِّير" لكنّه ليس كذلك في الروايات الإسلامية والعثمانية. إذ أنّه معروف بشاعريّته وطيبته. لكنّ الحقيقة أنّ سليم الثاني لم يكن قوياً مثل والده السلطان سليمان القانوني. ففي عهده هُزمت البحرية العثمانية في معركةٍ هائلة هي معركة ليبانتو البحرية. كما بدأ "الحريم" في عهده ياخذون دورهم الكبير ويعظمون تأثيرهم في سياسة الدولة، بسبب والدته "خرم سلطان".

توفي السلطان سليم الثاني في عمر الخمسين، بعدما حكم طيلة 18 عاماً. وتذكر الروايات الغربية أنّه توفي من كثرة إفراطه في شرب الخمر، بينما في الروايات الإسلامية والعثمانية فقد كان سبب وفاته إنزلاقه وهو خارج من حمامه في قصر طوب كابي. توفي عام 1574.

والقيصر إيفان الرابع وفرضت أن لا يعتدَّي أحدهما على الآخر وبقيت أستراخان تحت السيطرة الروسية.

حين أحرق العثمانيون موسكو!

اندلعت الحرب الروسية العثمانية الثانية عام 1571 على أثر قيام 120 ألف جندي من جيوش تتار القرم التابعين للجيش العثماني، بقيادة الخان دولت كراي الأول، باجتياح موسكو في شهر مايو/أيار من العام ذاته وأشعلوا فيها النيران بما يعرف "حريق موسكو"، بهدف استعادة مدينة أستراخان من الروس.

ويعتبر هذا الحريق من أعظم الحرائق في تاريخ المدينة، حيث فرّ الناس إلى الكنائس الحجرية هرباً من النيران، لكنّها انهارت فوق رؤوسهم، وآخرون قفزوا في نهر موسكو ومات الكثير، ويقدر المؤرخون عدد ضحايا الحريق من 10 آلاف إلى 80  ألف نسمة.

وفي يوليو/تموز عام 1572 واجهت قوات القرم العثمانية الجيش الروسي البالغ 60 ألف بقيادة الأمير ميخائيل فورتنسكي، في معركة اندلعت بالقرب من قرية مولدي جنوبي موسكو، انتصر فيها الجيش الروسي الذي استطاع محاصرة التتار من مناطق مختلفة، فضلاً عن استخدام الجيش الروسي المدفعية.

وقد هزم جيش القرم المدعوم عثمانياً تماماً. حيث لم يبقَ من الجيش سوى 10 آلاف جندي استطاعوا العودة إلى القرم، الأمر الذي أدَّى إلى تخلِّي السلطنة العثمانية وخان القرم التابع لها، عن خططهما الطموحة للتوسع شمالاً إلى روسيا.

حرب موسكوف.. الغلبة للعثمانيين هذه المرة!

وتعتبر هذه الحرب من الحروب الكبرى بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية. اندلعت الحرب نتيجة مساعي القيصر الروسي ألكسي الأول التوسعية، ورغبته بالأراضي الخصبة والمطلَّة على البحر، حيث اتجه بجيشه نحو الجنوب إلى أوكرانيا ورومانيا اللتين كانتا تخضعان للحكم العثماني.

قاد السلطان العثماني محمد الرابع في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1676 حملة هائلة مكونة من أكثر من 120 ألف جندي على جيش روسيا القيصرية حتى بلغت قلعة صهرين أو شهرين الحصينة في في منطقة موسكوف في أوكرانيا، فضرب حولها حصاراً محكماً دام شهراً كاملاً.

وحارب الجيش العثماني الجيش الروسي في منطقة موسكوف، وعلى الرغم من وجود حوالي 200 ألف جندي روسي يدافعون عن المنطقة، فإن الغلبة كانت للعثمانيين وسقطت القلعة. وقُتل من الروس حوالي 20 ألف جندي وسيطر العثمانيون على أجزاء كبيرة من أوكرانيا.

العثمانيين
السلطان مراد الرابع / ويكيميديا

ثم عاد السلطان محمد الرابع بشن حملة ثانية على روسيا بعد عدة أعوام من حملته الأولى، لكنها انتهت بمجرد وصوله نتيجة طلب الإمبراطور الروسي عقد معاهدة سلام لخوفه من أن يخسر روسيا لصالح العثمانيين، وقد تم عقد معاهدة باخشي ساراي في باهجي سراي في خانية القرم، التي بموجبها أنهت الحرب الروسية العثمانية (1676 – 1681).

وقِّعت المعاهدة في 31 يناير/كانون الثاني 1681. واتفقا على هدنة لمدة 20 عاماً وقبلت نهر دنيبر باعتباره الخط الفاصل بين الدولة العثمانية ونفوذ موسكو، فيما ظلَّت الضفة اليمنى أي الجزء الغربي لنهر دنيبر في أيدي العثمانيين، واعتبرت قلعة صهرين ملكاً للعثمانيين، بينما تبقى الضفة اليسرى لنهر دنيبر، أي الجزء الشرقي من أوكرانيا ومناطق زابوريزكا "الجزء الجنوبي الشرقي من أوكرانيا" في يد الروس.

حرب الاتفاق المقدس 1686 – 1700

حاصر العثمانيون العاصمة النمساوية فيينا عام 1683 لما تمثله من أهمية استراتيجية للسيطرة على خطوط التجارة والمواصلات في القلب الأوروبي. لكنَّهم لم ينجحوا في ذلك، وعلى إثر ذلك عقدت الدول الأوروبية "الاتفاق المُقدَّس" ضد الدولة العثمانية، وهنا انضمت روسيا إلى الحرب طمعاً في السيطرة على منطقتي أزوف والقرم المُطلتين على البحر الأسود، ونجحت في ذلك.

وخلال فترة الحصار تحالفت روسيا القيصرية مع دول أوروبية (هابسبورغ والنمسا، وبولندا، وليتوانيا، والبندقية) ضد العثمانيين، وللانتقام من العثمانيين شنّ جيشٌ روسي قوامه 132 ألف جندي بقيادة القيصر فاسيلي غوليتسين حملة ضد شبه جزيرة القرم في 2 مايو/أيار 1687.

وفي 30 مايو انضمت الجيوش الأوروبية وجيش القوزاق (50 ألف جندي) من الأوروبيين الشرقيين الذين ينتمون للقومية الروسية إلى الجيش الروسي، وتمركزوا في سواحل شبه جزيرة القرم، وفي عام 1689 اشتبك الأوروبيون مع خانات القرم، ومنعوا وصول الإمدادات العثمانية لهم، إلا أنهم لم يستطيعوا الإستيلاء على الجزيرة.

وفي 27 يونيو/حزيران عام 1695 عاد الجيش الروسي لمحاصرة قلعة آزوف الذي يقع على نهر الدون جنوب غرب روسيا والذي كان يسيطر عليه خانات القرم، ولكنه فشل في السيطرة عليه، وفي أبريل عام 1696 عاد الجيش الروسي الذي يحتوي على 75 ألف جندي بقيادة أليكسي شين برا لمحاصرة القلعة.

وفي 14 يونيو جاء الأسطول العثماني المكون من 4 جندي و23 سفينة لمساعدة قلعة آزوف، إلا أنّ البحرية الروسية كانت على إستعداد لمنع وصول السفن العثمانية، وأغرقت بعضاً منها حتى استطاعت السيطرة على القلعة في 19 يوليو، وقد كانت هذه الحرب أول نجاح كبير للبحرية الروسية.

دارت العديد من المعارك بين العثمانيين وقوات التحالف خسر العثمانيين في أغلبها، وكان أبرزها معركة زانطا في 11 سبتمبر عام 1697، وهي مدينة صربية كانت تتبع للدولة العثمانية، وقد كانت هذه المعركة واحدة من أكبر الهزائم الحاسمة في تاريخ الدولة العثمانية، ونتيجة للمعارك لقي 20 ألف جندي عثماني مصرعهم، بينما لقي 10 آلاف جندي عثماني مصرعهم غرقاً، فيما تُقدَّر خسائر التحالف بين 500 و1500 جندي.

ونتيجة لهذه المعارك تمكَّن الحلف من تحقيق الانتصار النهائي في عام 1699، وأجبر الدولة العثمانية على توقيع معاهدة كارلوفجة، التي تنازل فيها العثمانيون عن معظم أراضي المجر وترانسلفانيا وسلافونيا لإمبراطورية هابسبورج في حين عادت بودوليا إلى بولندا، ولحقتها بمعاهدة اسطنبول عام 1700 التي نصّت على تنازل العثمانيون عن آزوف وقلاعٍ أخرى في القرم، وإنشاء سفارة روسية في إسطنبول وتأمين عودة جميع أسرى الحرب.

وتُعتبر هذه المعاهدات بداية التراجع العثماني في أوروبا الشرقية، فيما حفَّز هذا النصر روسيا بالتعمُّق في هذه المناطق وما حولها بشكل أكثر، لكن هذه المرة لم يكن الهدف سياسي توسعي فقط، بل كان عامل الدين موجوداً فيها بشكلٍ واضح.

فقد أرادت روسيا أن تسيطر على المناطق الأرثوذكسية الواقعة تحت سيطرة الدولة العثمانية. واستخدمت في ذلك طريقةً جديدة، وهي أن لا تتدخَّل عسكريًا وأن تكتفي بإشعال الفتن وتحريض الأرثوذكس داخل الدولة العثمانية ليتمردوا عليها.

حرب حملة بروت 1710، عندما كاد العثمانيون يأسرون القيصر الروسي!

بدأت هذه الحرب نتيجة مطاردة الروس لكارل الثاني عشر ملك السويد الذي لجأ إلى الدولة العثمانية، حيث دخل قسمٌ من الجنود الروس للأراضي العثمانية وبقي الجيش الروسي عند نهر بروت في شرق أوروبا الفاصل بين رومانيا ومولدافيا، فاعتبر السلطان ذلك سبباً للحرب وفي 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1710 أعلنت الحرب على روسيا، لكن السبب الفعلي كان هو رغبة العثمانيين في استعادة قلعة آزوف من روسيا.

روسيا القيصرية
تمثال القيصر الروسي بطرس الأكبر في مدينة سانت بطرسبورغ / Istock

وكان كارل الثاني عشر قد قدَّم طلب اللجوء بشكل رسمي للسلطان أحمد الثالث عام 1709، بعد أن هزمه الجيش الروسي هزيمةً ساحقة في معركة "بولتافا" في 8 يوليو/تموز 1709، وقد أذن السلطان للملك بإقامة تجمُّع سكاني صغير له يضم كل اللاجئين السويديين الذين رافقوه، بشرط أن يؤدي الملك نفقات إقامته.

تقدم الجيش العثماني المكون من 120 ألف جندي بقيادة الصدر الأعظم بلطجي محمد باشا وتمكَّن من العثور على الجيش الروسي بقيادة القيصر الروسي بطرس الأكبر

بطرس الأكبر

يعتبر القيصر بطرس الأكبر أو بطرس العظيم أحد أهم وأعظم من حكم روسيا في التاريخ. تولّى الحكم بالمشاركة مع أخيه إيفان غير الشقيق عام 1682 وكان عمره آنذاك 10 سنوات فقط. ولاحقاً أصبح القيصر الوحيد لروسيا، وتبنَّى الكثير من الإصلاحات في الجيش وفي مؤسسات الدولة، ورسم خطّته للتوسُّع على حساب الدولة العثمانية وبولندا.

حكم بطرس 42 عاماً، وأسَّس مدينة سانت بطرسبرغ التي ظلّت عاصمةً من بعده للإمبراطورية الروسية طيلة قرنين من الزمان. وتوفي عام 1725.

عند نهر بروت في شرق أوروبا وحاصره، وقد كان بالإمكان حينئذ أسر القيصر الروسي نفسه، وربما القضاء على روسيا نهائياً. إلا أن قيادة الجيش لم تكن متحمسة للهجوم على مواقع الروس.

بقي الجيش العثماني يحاصر الجيش الروسي من جميع الأطراف، حتى أعلن القيصر استسلامه في 22 يوليو 1711، وقد أرسل القيصر مندوباً عنه إلى بلطجي محمد باشا عارضاً عليه إعادة قلعة آزوف مقابل السماح له ولجيشه بالعودة، فوافق بلطجى باشا على العرض ووقعت معاهدة بروت التي نصت على إعادة الروس قلعة آزوف ومحيطها للعثمانيين ووقف تدخلهم في شئون القوزاق وتأجيج الفتن الدينية.

الحرب الروسية النمساوية – العثمانية، تنتهي بنجاح عثماني بسبب الطاعون

استمرّت معارك هذه الحرب لأكثر من أربعة أعوام، حتى انتهى الأمر بانتصار العثمانيين ووقف التقدُّم الروسي والنمساوي في البوسنة، واضطرت كلاً من النمسا وروسيا إلى توقيع اتفاقية بلغراد للسلام مع الدولة العثمانية.

وفي نهاية عام 1735 شنّ تتار القرم سلسلة غزوات على دولة هتمانات القوزاق في أوكرانيا بالتزامن مع حملة الخان القرمي العسكرية في القوقاز، الأمر الذي جعل الإمبراطورية الروسية تعلن الحرب على الدولة العثمانية بداية عام 1736، بهدف الاستيلاء على آزوف والقرم.

وفي 20 مايو 1736، هاجم الجيش الروسي الي بلغ 62 ألف جندي بقيادة الجنرال بوركهارد كريستوف تحصينات القرم، واحتل مدينة باختشيساراي في منتصف الجزيرة في 17 يونيو، واستطاع الروس التعمق أكثر في جزيرة القرم خلال الأشهر التالية.

وفي يوليو 1737، دخلت النمسا في الحرب ضد الدولة العثمانية، بعد توقيعها اتفاقية تعاون مع روسيا القيصرية لاحتلال بعض مناطق البلقان والحصول على منفذ على البحر الأسود، إلا أنها تعرضت للهزيمة عدة مرات، كان من بينها معركة بانيا لوكا في 4 أغسطس/آب 1737، ومعركة غروتسكا في 18 يوليو 1739، ثم خسرت بلغراد بعد الحصار العثماني الذي امتد منذ 18 يوليو حتى سبتمبر في عام 1739.

غير أنّ الطاعون انتشر بين عامي 1737 و1739 بين أطراف الحرب، وشلّ الوباء جميع أطراف النزاع وأرهقتهم الظروف غير الصحية، حيث قُدِّر عدد القتلى الروس بسبب الطاعون حوالي 30 ألف شخص الأمر الذي جعل الروس ينسحبون من القرم بسبب انعدام المؤن ليستعيد العثمانيون القرم في 15 أغسطس 1738.

انتهت الحرب بتوقيع معاهدة بلغراد بين العثمانيين وروسيا والنمسا في 18 سبتمبر 1739 التي نصت على تنازل النمسا عن صربيا وبلغراد وشمال البوسنة للعثمانيين، فيما تمّ تدمير قلعة آزوف، وأصبحت أراضيها هي الحدود بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، ووافق الروس على الانسحاب من القرم والاعتراف بالسيادة العثمانية الكاملة على البحر الأسود.

الإمبراطورية الروسية
لوحة لإحدى المعارك بين العثمانيين والروس / Istock

حرب 1768 – 1774.. بداية الانكسار العثماني الكبير

تعتبر واحدة من أهم المعارك المؤثرة في تاريخ تراجع العثمانيين وتقدم الروس، ففي عام 1768 عَبَرَ أسطول البلطيق الروسي مضيق جبل طارق للمرة الأولى ليدخل البحر المتوسط ويخوض معركةً بحرية كبرى، أوقعت خسائر باهظة للأسطول العثماني.

وفي عام 1772، قصف الأسطول الروسي المدن السورية الساحلية، كما احتل مدينة بيروت لوقتٍ قصير، دعمًا لعلي بك وظاهر العمر في حربهما ضد الدولة العثمانية، وكان هذا التدخل الروسي يمثِّل بداية الحركة الروسية الطموحة نحو البحار الدافئة وسعي الروس المستمر للسيطرة على إسطنبول والمضائق العثمانية.

هُزم الجيش العثماني هزيمةً كبرى، ووجد السلطان عبدالحميد الأول أن من الصعب الانتصار على الجيش الروسي، لذلك قبل التوقيع على اتفاقية "كوتشوك كاينارجا" عام 1774.

تعتبر هذه المعاهدة من أهم المنعطفات في التاريخ العثماني، كونها بداية التدخّل الأوروبي الكبير في شؤون الدولة العثمانية، كما أنها مثَّلت نهاية حرب اضطر فيها العثمانيون للمرة الأولى في تاريخهم للتنازل عن أرضٍ يقطنها مسلمون، ما استدعى تدخُّل الفقه الإسلامي أيضاً لحلِّ مشكلة ولاء وتبعية مسلمي القرم، حيث قبل العثمانيون ضم روسيا للقرم والمناطق الجنوبية لأوكرانيا.

وفي المقابل قبلت روسيا بأن يكون ولاء مسلمي القرم – الذين أصبحوا رعاياها – الديني للسلطان العثماني "الخليفة"، وفي المقابل، وافق العثمانيون على منح الروس دورًا في كنيسة القدس، وسمحت لهم بالمرور التجاري الحر عبر مضيقي البوسفور والدردنيل.

حرب عام 1787 – 1792

شنت الدولة العثمانية حرباً جديدة على الإمبراطورية الروسية التي تحالفت مع النمساويين مرة أخرى، بهدف استعادة القرم وردع الروس عن محاولات التوسُّع في القوقاز. لكنّ نتائج الحرب كانت كارثية على العثمانيين في بدايتها.

ولكن الحرب انتهت مع النمسا، لانشغالها بالصراعات على الساحة الأوروبية، حيث قامت الثورة الفرنسية وخشيت النمسا من أن تكون فريسةً لها فعقدت معاهدة زشتوي مع الدولة العثمانية في 4 أغسطس 1791، ونصّت تلك المعاهدة على إعادة صربيا إلى الدولة العثمانية وبذلك توقَّفت الحرب من جهة النمسا.

ثمّ أرادت روسيا إيقاف الحرب فوافقت الدولة العثمانية وعقدت معاهدة ياش في 9 يناير 1792 وفيها تراجعت روسيا عن الأراضي التي سيطرت عليها في البلقان، ولكنها أكملت سيطرتها على شمالي القوقاز ومعظم جورجيا. فضلًا عن تأسيسها لنشاط العملاء الروس في إمارات البلقان الأرثوذكسية، بما في ذلك اليونان وصربيا وبلغاريا، وعزَّزت من سيطرة روسيا على سواحل البحر الأسود الشمالية والشمالية الغربية والشرقية.

حرب 1828، بعد 40 عاماً من السلام

اشتعلت الحرب بسبب دعم روسيا الاستقلال اليوناني عن الدولة العثمانية بين عامي 1826 – 1830، وقد أحرز الروس تقدُّماً بالغاً في الأراضي العثمانية. انتهت الحرب بتوقيع "اتفاقية أدرنه" في 14 سبتمبر 1829 المبنية على تنازلات عثمانية إستراتيجية في منطقة نهر الدانوب وإعطاء رومانيا وبلغاريا حكمًا ذاتيًّا وتأكيد الحكم الذاتي لصربيا، وقبول استقلال اليونان.

الدولة العثمانية
دعم روسيا لليونان ضد الدولة العثمانية تسبب في نشوب المعركة بعد سلام دام 40 عاماً

حرب القرم 1853.. لأول مرة فرنسا وبريطانيا مع العثمانيين ضد روسيا

ربما تكون هذه الحرب هي أشهر الحروب والمواجهات بين الدولتين، وقد قامت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في 4 أكتوبر 1853، واستمرت حتى عام 1856 ودخلت بريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدولة العثمانية عام 1854.

اندلعت الحرب على خلفية متشابكة من لجوء العديد من قادة وعناصر الموجة الثورية التي اجتاحت أوروبا في 1848 إلى الدولة العثمانية، والتنافس بين فرنسا (الكاثوليكية) وروسيا (الأرثوذكسية) على الامتيازات الدينية في مدينة القدس.

وبسبب الاتفاق الذي حدث بين الدولة العثمانية وفرنسا وبريطانيا، الذي كان يهدف إلى طرد الأسطول الروسي من البحر الأسود، فضلاً عن الأطماع الإقليمية لروسيا على حساب الدولة العثمانية وخاصة في شبه جزيرة القرم التي كانت مسرح المعارك والمواجهات.

وفي بداية الحرب، احتل حوالي 35 ألف جندي روسي رومانيا التي كانت تابعة آنذاك للدولة العثمانية، وأبلغت روسيا الدول الأوروبية أنها لن تدخل في حربٍ شاملة ضد الدولة العثمانية، وأنّ ما فعلته كان إجراءً وقائياً لحين اعتراف السلطان العثماني بحقوق الأرثوذكس في كنيسة القيامة في القدس، وأنها سوف تنسحب بمجرد اعتماد هذا الاعتراف.

ثم حشدت الدولة العثمانية وروسيا قوات ضخمة على جبهات القتال، وعلى جبهتي الدانوب والقوقاز، واستطاع القائد العثماني عمر باشا أن يلحق هزيمة كبيرة بالروس على نهر الدانوب، وأن يدخل رومانيا، وفي جبهة القوقاز ساند الزعيم الشيشاني الإمام شامل الداغستاني

الشيخ شامل الداغستاني

يلقَّب بأسد القفقاس وصقر الجبال، فقد قاوم الاستعمار الروسي لبلاده داغستان والشيشان طيلة أكثر من ربع قرن من الزمان. كبّد الإمبراطورية الروسية الكثير من الخسائر أثناء نضاله ضدّهم، لكنّهم في النهاية استطاعوا أن يقبضوا عليه في هجومٍ مفاجئ، بعدما أرسلوا القوة الضاربة الكاملة للجيش الروسي (200 ألف جندي) بعد خسارتهم في حرب القرم ليعيدوا للجيش هيبته الداخلية.

قبض على الإمام شامل وعمره 63 عاماً وكان معه فقط 400 من المجاهدين. وعاش في المنفى في روسيا، إلى أن طلب السماح له بالحجّ، فحجّ وتوفي بالمدينة المنورة وعمره 73 عاماً، عام 1871.

القوات العثمانية أثناء القتال ضد الروس.

أرادت الدولة العثمانية دفع بريطانيا وفرنسا إلى دخول الحرب إلى جوارها، ودبَّرت إرسال مجموعة من قطع الأسطول البحري العثماني القديمة إلى ميناء سينوب على البحر الأسود، وهي تدرك أنّ هذه السفن لابد أن يهاجمها الروس، وبالفعل هاجم الروس هذه السفن وتمّ إغراقها جميعا، وأثارت هذه المعركة أزمة دبلوماسية في الأوساط بين بريطانيا وفرنسا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى.

عرض الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث الوساطة لإنهاء القتال بين العثمانيين وروسيا، إلا أن الإمبراطور الروسي رفض ذلك، فبادر نابليون الثالث بالاتفاق مع بريطانيا ضد روسيا، وقبلت بريطانيا العرض الفرنسي بحماسة شديدة.

غادر سفيرا لندن وباريس مدينة سانت بطرسبرغ الروسية في 6 فبراير/شباط 1854 وعقدت معاهدة إسطنبول في 12 مارس/آذار 1854 بين الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا، ونصّت على ألا تعقد أي دولة من هذه الدول صلحاً منفرداً مع روسيا، وأن يتفاهم قادة الدول الثلاث في الحرب ضد روسيا، وأن تكون الوحدات الإنجليزية والفرنسية والسفن التابعة لهما في إسطنبول خاضعة للقوانين العثمانية، وأعلنا الحرب على روسيا في 27 مارس.

انتهت حرب القرم في 30 مارس 1856م بتوقيع اتفاقية باريس وهزيمة الروس، واعترفت المعاهدة بالاستقلال الذاتي لكلٍّ من ولايتي الأفلاق والبغدان (رومانيا حالياً) ضمن الدولة العثمانية، وكذلك التأكيد استقلالية قرار الدولة العثمانية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية مقابل تعهدها بتحسين أحوال الرعايا المسيحيين في البلقان.

واعترف السلطان العثماني بالمساواة التامة بين جميع رعاياه على اختلاف مذاهبهم وأديانهم. وأعلنت الدولة العثمانية قبول مبدأ التحكيم في حالة وقوع خلاف بينها وبين غيرها من الدول، وكان هذا النص مهما في القانون الدولي الناشئ آنذاك.

قررت المعاهدة أيضاً إعادة ميناء سيواستوبول لروسيا، كما احتفظ العثمانيون بحقّ حماية الأراضي الصربية، ووعدت الدول الكبرى بالعمل على حل أي خلاف ينشأ بين الصرب والعثمانيين، فيما ثبتت امتيازات فرنسا في الأماكن المقدسة المسيحية دون غيرها من الدول، وأضفت عليها الطابع الحقوقي الدولي، حيث إن الامتيازات في السابق كانت نابعة من التعاقد الثنائي بين الدولة العثمانية ذات السيادة على هذه الأماكن وبين فرنسا منفردة.

الحرب المقدسة 1877.. لحظة انكسار عثمانية غير مسبوقة

أعلن القيصر الروسي الحرب المقدسة على الدولة العثمانية، وقد أحرز الروس تقدماً عميقاً في الأراضي العثمانية، ولم تتوقف الحرب إلا بعد تدخل القوى الأوروبية وعقد معاهدة سان ستيفانو (يشيلكوي) في 3 مارس 1878 بين الدولتين.

فرضت المعاهدة شروطًا بالغة القسوة على الدولة العثمانية، بما في ذلك استقلال رومانيا والجبل الأسود وصربيا، ومنح بلغاريا استقلالًا مشروطًا، فضلًا عن توسيع الروس لحدود جورجيا الجنوبية، واعتبر بعض المؤرخين هذه المعاهدة لحظة انكسار عثماني غير مسبوقة في تاريخ العلاقات مع روسيا.

حرب البلقان والحرب العالمية الأولى

لم تشارك روسيا مباشرة في حربي البلقان الأولى والثانية عام 1912-1913، ولكنها لعبت دوراً غير مباشر في تشجيع بلغاريا وصربيا واليونان ومونتينيغرو على التحالف ضد الدولة العثمانية، وبذلت كل الجهد لمحاولة وضع نوع من التوازن بين المتحالفين، وانتهت الحرب بخسارة الدولة العثمانية معظم ما تبقَّى من ممتلكاتها في أوروبا.

الدولة العثمانية
سيطرة روسيا على أجزاء من الدولة العثمانية عام 1917

فيما بدأ دخول الدولة العثمانية إلى الحرب العالمية الأولى عندما قامت سفينتان تابعتان للبحرية العثمانية تم شراؤهما مؤخراً، لا تزالان تدار من قبل طاقم بحري الألمانية ويقودها أدميرال ألماني، بتنفيذ غارة في البحر الأسود، وهو هجوم مفاجئ ضد الموانئ الروسية، في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1914.

وهكذا أجابت روسيا على هذا الهجوم بإعلان الحرب في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1914، ثم أعلن حلفاء روسيا، بريطانيا وفرنسا، الحرب على الإمبراطورية العثمانية في 5 نوفمبر 1914.

كانت الدولة العثمانية على دراية بنيَّة دول التحالف وروسيا بتقسيم أراضيها فيما بينها، وكانت روسيا ستسيطر على إسطنبول ومضائقها كما ستسيطر فرنسا وبريطانيا على بقية الدولة. لكنّ روسيا خرجت من الحرب بسبب قيام الثورة البلشفية عام 1917، التي اتخذت موقفاً من الحرب ضد العثمانيين، وبعد الحرب العالمية انتهت الإمبراطورية الروسية وكذلك الدولة العثمانية، وولد من كلٍ منهما: الاتحاد السوفييتي والجمهورية التركية الحديثة.

تحميل المزيد