يعرف هذا الرجل بألقاب مثل: "أسد القفقاس" و "صقر الجبال" وهما ليسا لقبين مجازيّين وفقط، بل لقبان لهما أصولهما. وبعدما تقرأ هذه المادة ستفهم وحدك لماذا أعطيت هذه الألقاب للشيخ شامل الداغستاني، فهذا الرجل بتكتيكاته العسكريّة المتقنة استطاع تكبيد الإمبراطورية الروسية خسائر هائلة.
توقّعوا موته عندما كان صغيراً!
ولد الشيخ شامل الداغستاني عام 1796 في إحدى قرى داغستان. كان وهو صغير كثير المرض وتوقعت عائلته موته، وحسب العادات فقد تمّت تسميته باسمٍ آخر لتبتعد عنه الأمراض، فأصبح اسمه محمد شامل. ما لم يعرفه شامل نفسه ولا والده ولا رفاقه الأطفال أنّه سيسطّر اسمه في التاريخ باعتباره أحد أبرز المقاومين المسلمين للاحتلال، وهذه المرة لاحتلال الإمبراطورية الروسية العنيفة.
تقع داغستان فيما يسمّى بالقوقاز الشمالي، وموقعها الجغرافي استراتيجي لأيّ دولةٍ عظمى مجاورة، تقع بين بحري قزوين والبحر الأسود. كانت هذه المنطقة دائماً موطناً للحروب والصراعات بين الدول الكبرى، فمن ناحية الدولة العثمانية ومن ناحيةٍ أخرى دول وسط آسيا وفي الشمال روسيا القيصريّة.
من يسيطر على داغستان يصبح الطريق أمامه مفتوحاً للسيطرة في سواحل البحر الأسود وكذلك في سواحل بحر قزوين، ومن بحر قزوين ينطلق من يريد للسيطرة على آسيا الوسطى، والتي لها أهمية جيو-استراتيجية عالية جداً باعتبار وقوع طرق التجارة الرئيسية بين آسيا وأوروبا خلالها.
في أجواء متدينة نشأ شامل، فدرس اللغة العربيّة والفلسفة والفقه والأدب العربي، وهكذا كانت اللغة العربيّة لاحقاً لغته في المراسلات الرسميّة.
دخل الإسلام إلى منطقة داغستان والشيشان من خلال الطرق الصوفيّة، ولهذا فقد كان تاثُّرهم بالشكل الصوفي للإسلام كبيراً، وهكذا تعلّم شامل في الطريقة النقشبنديّة الصوفيّة مع رفيقه الإمام غازي محمد الغيمراوي، وعندما سيشتدّ عودهما لبعض الوقت، سيقودان معاً مقاومة مسلّحةً مفتوحة مع احد أقوى جيوش العالم في تلك الفترة.
الإمام شامل ينجو من المذبحة ليقود مقاومة طويلة الأمد
يكبر الإمام غازي الإمام شامل بسنةٍ واحدة، بدأا معاً رحلتهما في مقاومة الغزو الروسي لبلادهما، فقد شاهد الملا غازي النبي محمّد في المنام ثلاث مراتٍ يطلب منه القيام لمجاهدة الروس. وهكذا، بدأ غازي محمّد عمليات المقاومة المسلّحة، من خلال مريدي الطريقة النقشبندية ومن انضمّ لهم من القبائل التي رفضت السيطرة الروسية.
وفي عام 1832، سقط الملا غازي في معركةٍ عنيفة في مواجهته مع الروس، قتل في المعركة، ولم ينجُ من جيشه القليل سوى شخصين، كان أحدهما الشيخ شامل الذي جرح بشدّة ولكنّه استطاع الهرب. ويقال
إنّ شامل قد نجا وحده فقط من هذه المعركة.
كان على الإمام شامل أن يلملم جراحه سريعاً، فبعدما قتل رفيق دربه وصديقه المقرّب عليه أن يكمل الرحلة وحده الآن.
هكذا، وبعد سنتين من مقتل الإمام غازي أصبح الإمام شامل إماماً وقائداً لحركة المقاومة. كان جيشه يتكوّن بالأساس من المريدين في الطريقة النقشبنديّة، إضافةً إلى رجال القبائل الذين انضموا له لمقاومة الروس.
تمتّع الشيخ شامل الداغستاني بنظرة ثاقبة ومهارات إدارية عالية، إضافةً لقدرةٍ عسكرية استثنائيّة. فبدأ ترتيب البيت الداخلي، وطبّق نظاماً صارماً قوامه التمسُّك بالإسلام وتوحيد جبهة المقاومة. كانت بلاده من عرقيات مختلفة (حوالي 30 عرقيّة و40 لغة) وقد اعتبر الإمام شامل أنّ الشيء الوحيد الذي سيوحدهم في مواجهة الغزو الروسي هو الإسلام.
قسّم جيشه إلى فرق، كان جيشه حوالي 60 ألفاً. قسّم الفرق على كامل البلاد، وقسمت البلاد إلى 32 ناحية "محافظة" وعيّن على كلٍ منها نائباً عنه ومفتياً وأربع قضاة. وبهذا أصبح جيشه يتحرّك: لا مركزياً تجاه قوّات روسيا القيصرية.
الإمام شامل الداغستاني: لا تصالح مع الروس ولو كان الثمن أمِّي!
بدأت قيادة الشيخ شامل للمقاومة عام 1834، واستمرّت طيلة ربع قرن حتّى 1859. استمرّت المقاومة سنين طويلة، وكان الجيش الروسي يرتكب العديد من المجازر تجاه المدنيين والقبائل، ما أنهك هذه القبائل، بل إنّ بعض أمراء القبائل رأوا أنّ الأنسب من مقاومة الروس هو التصالح معهم، والتوصُّل معهم لاتفاق.
خاف قادة القبائل من مواجهة الشيخ شامل بهذا الاقتراح، فقد كانوا يعرفون جميعاً العقاب. فقرروا التقرُّب لأمّه ومحاولة استمالتها لتعرض عليه هذا الاقتراح. وقد كان، قرّرت أمه أن تفاتحه في التوصُّل لاتفاقٍ مع الروس. تكشّفت له خيوط المؤامرة شيئاً فشيئاً، فجمع مريديه وأخبرهم: هناك مؤامرة للتعاون مع الروس. وأمِّي ضالعةٌ فيها!
تغيّب الشيخ شامل عدة أيام، اعتكف في المسجد للصلاة والدعاء ليرشده الله إلى الحكم الصواب. لو عاقب الأمراء وأعدمهم سيخسر كثيراً من شعبيته. صحيح أنّ هذه القبائل التي تعيش في جبال الشيشان وداغستان قبائل مسلمة، لكنّها لم تتخلّص من عادة أخذ الثأر والانتقام. ومن ناحيةٍ أخرى لو ترك الأمر يمرُّ دون عقاب فستتزعزع صورة المقاومة أمام الناس.
بعد ثلاثة أيامٍ من الاعتكاف، خرج الشيخ شامل إلى الناس معلناً حكمه: تُجلد والدته مائة جلد! دهش الجميع، فأمر أحد أتابعه بتنفيذ الحُكم، وبعد 5 جلدات طلب منه التوقّف قائلاً: سأتحمّل أنا بقيّة الجلدات، وطلب من الجندي جلده 95 جلدة. وهكذا استطاع أن يحافظ على وحدة القبائل دون أن يجعل الموقف يمرّ دون عقاب.
صقر الجبال وأسد القفقاس، كابوس الروس الذي هزم ولي العهد
كانت معارك الشيخ شامل تنتهج ما يعرف في العلوم العسكرية بـ"حرب العصابات"، وهو أن تقوم مجموعات صغيرة نسبياً وذات تسليح ضعيف بالهجوم المفاجئ على جيشٍ نظاميّ قوي العتاد والعدد. كانت هذه الطريقة مناسبة جداً للتعامل مع الجيش الروسي الضخم.
في واحدةٍ من المعارك عام 1835، أرسل القيصر الروسي قوةً ضخمة قوامها 30 ألف جندي للقضاء على الإمام شامل. عندما وصلوا للقرية التي يتحصن فيها الشيخ شامل وسط الأدغال، وهجموا وجدوا مقاومةً بسيطة، فانتصروا بسهولة.
أثناء رجوعهم منتشين بنصرهم كان جيش الشيخ شامل ينتظرهم في كمينٍ محكم وسط الغابات، قتل من الروس في تلك المعركة 25 ألف جندي من أصل 30 ألفاً. وهكذا كانت طبيعة وشكل معارك الشيخ شامل الداغستاني طيلة ربع قرن.
استطاع أن يستحوذ على 4 مدافع روسيّة ضخمة، واستخدمها ضدّ الجيش الروسي، وبعد فترة أصبح لديه منها 12 مدفعاً. هكذا أصبح الشيخ شامل كابوس الروس، الذي يحلم بهزيمته القيصر كل ليلة.
في معركةٍ أخرى، أرسل القيصر ولي عهده مع كبار قادته في حملةٍ على الإمام شامل، في إحدى المرات حاصروا بلدةً صغيرة. وكانت خطة تلك القرية كالتالي: غطوا أبواب بيوتهم ونوافذهم بالطين، وغيروا سقف منازلهم لتصبح أسقفاً خفيفةً ورخوة، وعندما وصل الروس بدؤوا بالقفز على أسطح المنازل، وبدأت الأسطح تنهار بهم ليتلقفهم مريدو الشيخ شامل.
ربع مليون جندي للمواجهة.. النهاية الحزينة لقائد كبير
هُزمت روسيا القيصرية في حرب القرم مع الدولة العثمانية التي تلقت حينها دعماً أوروبياً قوياً، سجلت الهزيمة عام 1856، وأمام هذه الهزيمة الكبيرة كان قادة الجيش الروسي يحتاجون أن ينتصروا في معركةٍ تعيد لهم هيبتهم، وهكذا في عام 1859 تحوّل مائتا ألف جندي روسي إلى جبهة الشيخ شامل الداغستاني بقيادة الجنرال الشاب أليكساندر إيفانوفيتش بارياتسكي.
عكف بارياتسكي على دراسة نمط معارك الشيخ شامل، الذي كان حينها في سن 63 عاماً. وهكذا فقد جعل بارياتسكي مهمّة فرقة كاملة من الجيش الروسي: تقطيع الأشجار الضخمة من الغابات، لأنّ تلك الأشجار الضخمة التي يصل طولها أحياناً 100 م، كانت مقرّ مكامن الشيخ شامل ومقاومته.
وهكذا استطاع بارياتسكي أن يوهم الشيخ شامل بهجومٍ من ناحية، بينما هاجمه جيشٌ آخر من ناحيةٍ أخرى بطريقة "الكمّاشة". كان الشيخ شامل في 500 فقط من مجاهديه، أمام 40 ألفاً من الروس، قرّر حينها الشيخ شامل الاستسلام.
استسلم الشيخ شامل بعد ربع قرن من المقاومة، وقد أخذه الروس في رحلةٍ بريةٍ طويلة من بلاده إلى موسكو ليحسِّنوا سمعة الجيش الروسي المهزوم في حرب القرم، فها قد انتصرنا أخيراً على عدونا اللدود الشيخ شامل.
بعدها بعشر سنين في عام 1869 طلب الشيخ شامل مغادرة الأراضي الروسية ليحجّ إلى مكّة، ووافقت السلطات الروسية على طلبه، فوصل إلى إسطنبول ومنها إلى مكّة، ثمّ منها إلى المدينة التي توفي فيها عام 1871 ودفن هناك.