عندما نتذكّر يوليوس قيصر فإنّ أشهر مشهد يأتي في خيالنا هو مشهد اغتياله الذي كتبه شكسبير عندما تحجّرت عيناه وهو يقول لصديقه الذي اعتبره أخاً صغيراً "حتّى أنت يا بروتس؟!". لكنّ هذه الجملة لم يقلها يوليوس قيصر، ولم يكن بروتس بهذا القرب الذي نتخيله من قيصر، بل إنّ شخصاً آخر كان له دور كبير في اغتياله، هو ديسيموس جونيوس ألبينوس. وفق ما نشرته مجلّة History Extra البريطانية.
تعالوا نروي لكم القصّة من بدايتها.
اغتيال قيصر لم يكن ليتم لولا ديسيموس وليس بروتوس
اغتيل قيصر يوم 15 مارس/آذار عام 44 ق.م، وفي صباح هذا اليوم نصحته زوجته ألا يذهب إلى مجلس الشيوخ، وقالت له أنها رأته في حلمها مضرجاً بالدماء، وحاول خادم من خدمه أن يُسقط لوحةً من أحد جدران المنزل لأحد أسلافه الكبار ليشعره بشؤم اليوم ولا يذهب، لكنّ قرار قيصر تأثر في النهاية بقول رفيقه ديسيموس له:
ماذا تقول يا قيصر؟ هل يُعير أحدٌ في مكانتك اهتماماً بأحلام امرأةٍ ونُذُر شؤم الرجال الحمقى؟
كان ديسيموس يبلغ من العمر 36 عاماً وكان قيصر يكبره بنحو 20 عاماً. لم يكن يوليوس قيصر رئيسه وقائده فحسب، بل كان أيضاً "ديكتاتور روما مدى الحياة". ومع ذلك، كان قيصر مغرماً بديسيموس، فهو رفيقه العسكري الشاب الذي يحظى بثقته منذ زمنٍ بعيد، لذا سمح له بالتحدث بحريةٍ هكذا حين التقيا في مقر إقامة قيصر الرسمي في قلب روما.
كان مجلس الشيوخ منعقداً في ذلك اليوم، ووقف أعضاؤه ينتظرون بفارغ الصبر وصول يوليوس قيصر. كان قرار قيصر في النهاية – بعد تحذيرات زوجته- هو عدم الحضور لمجلس الشيوخ، لكن ديسيموس أقنعه أن يأتي فقط للاعتذار عن عدم بدء الجلسة اليوم.
لم يكن قيصر يعرف أنّ أكثر من 60 متآمراً ينتظرونه هناك متتأهّبين بخناجرهم لطعنه. وكان ديسيموس مُدركاً لتلك الحقيقية إدراكاً تاماً، فقد كان أحد زعماء تلك المؤامرة، وكانت أفعاله في ذلك الصباح توشِك على تغيير مجرى التاريخ تماماً.
رغم كلّ ذلك يعتبر معظم المؤرخين أنّ بروتس وكاسيوس هما العقل المدبِّر وراء المؤامرة. وبذلك اتبعوا خطى الفيلسوف بلوتارخ الذي دوّن عن الاغتيال بعد 150 عاماً من وقوعه، وشكسبير الذي استمد معظم قصته من بلوتارخ.
مال هؤلاء إلى حذف اسم ديسيموس من المؤامرة، ذاك الذي أخطأ شكسبير في تسميته بـ "ديسيوس" ولم يذكره سوى في المشهد الموصوف أعلاه. ورغم ذلك، كان ديسيموس هو مربط الفرس. حيث كانت دوافعه أكثر وضوحاً مما يعتقده معظم الناس، وتجلّى في سلوكه مدى جودة تنظيم المتآمرين.
لكنّ أقدم المصادر التي صمدت منذ ذلك الحين وتشمل تفاصيل حول اغتيال قيصر تفيد بأن ديسيموس (وليس بروتس وكاسيوس) هو زعيم المؤامرة.
في غضون القرون الأولى التي أعقبت اغتيال القيصر كتب الباحث والبيروقراطي نيكولاس الدمشقي قصة حياة أغسطس قيصر (وهو نفسه أوكتافيوس حفيد يوليوس قيصر) الذي اعتلى عرش أول إمبراطور لروما (بين عامي 27 ق.م. – 14 م).
وحتى وقت قريب، كان يميل العلماء إلى استبعاد نيكولاس الدمشقي لأنه كان يعمل لدى أغسطس قيصر وكان لديه بطبيعة الحال دافع لمهاجمة المتآمرين. لكن الحقيقة أنّ نيكولاس كان دارساً لامعاً للطبيعة البشرية ويستحق المزيد من الاهتمام.
كما ألقت سلسلة من الرسائل التي تبادلها ديسيموس والخطيب الروماني الشهير شيشرون، كُتبت جميعها بعد الاغتيال، الضوءَ على المؤامرة -ولكنها أُهمِلَت أيضاً.
نظام الحكم في روما قبل يوليوس قيصر
كان الحكم في روما جمهورياً قبل يوليوس قيصر، لكنّ طموح يوليوس كان بعيد المدى. فبعدما قضى على مُنافِسَيه القويين (بومبي وكراسوس) عاد قيصر من إسبانيا إلى روما ليكون حاكمها الأوحد مدى الحياة.
غيّر هذا بالطبع من طبيعة علاقات القوّة داخل الجمهوريّة، وبدا لكلّ أعضاء مجلس الشيوخ وقادة الجيش الروماني أنّ يوليوس قيصر يريد أن يورّث الحكم لسلالته من بعده، فقد عيّن أوكتافيوس، وهو من سلالة أسرته، ليكون الرجل الثاني في الجمهورية من بعده.
بالطبع لم يكن يوليوس قيصر وحيداً في هذه المحاولات للانفراد بالحكم، فقد سبقه إليها العديد من قادة الجيوش الرومانية و"القناصل" على مر التاريخ، لكنّ نهايتهم كانت دائماً مأساويّة بشكلٍ أو بآخر. غير أنّ محاولة يوليوس قيصر ستنتهيٍ بشكلٍ آخر، سنحكيه في النهاية.
أثارت إجراءات يوليوس قيصر القادة وأعضاء مجلس الشيوخ كما قلنا منذ قليل، ولهذا بدأ بعض الأعضاء بالتحرُّك ضدّ يوليوس قيصر. كان يوليوس قيصر ذكياً وقائداً محنكاً، بل ومتسامحاً مع العديدين من القادة الذين وقفوا ضدّه سابقاً، بل إنّه حافظ على تمثال منافسه السابق بومبي، في مجلس الشيوخ ولم يمسه بسوء.
عودة إلى رجال قيصر الذين اغتالوه!
على العكس من بروتوس وكاسيوس اللذين يشار إليهما باعتبارهما مدبري اغتيال يوليوس قيصر، وهو ما وثّقه شكسبير في مسرحيته الشهيرة في النقاش الذي دار بينهما وهما يخططان لاغتيال يوليوس قيصر:
إني أعرف إنّها لمكرمةٌ فيك يا بروتس
إنّ الشّرف لهو موضوع حكايتي
أنا لا أعرف ما هو رأيك أنت أو سواك من الناس فى هذه الحياة
ولكن أنا لنفسي وحدي
أوثر عن طيب خاطرٍ، أن لا أكون على أن أحيا لأكون في فزعٍ من شيء هو مثلي
إنِّي خلقت حراً مثل قيصر وكذلك أنت. كلانا طَعِمَ كما طَعِم وكلانا يستطيع أن يحتمل من برد الشتاء كما يحتمل..
هذا الرجل أصبح الآن إلهاً وكاسيوس مخلوقٌ تعس عليه أن ينحني بجسمه إذا نظر له قيصر برأسه دون احتفال.
على العكس منهما، كان ديسيموس – الرجل المفتاحيّ في المؤامرة – رجل قيصر المؤتمن. ففي الحرب الأهلية بين قيصر وبومبي (بين عامي 49-45 ق. م)، دعم كلٌ من بروتوس وكاسيوس بومبي ضدّ قيصر، ثم غيّرا بعد ذلك موقفهما.
على النقيض من ذلك، دعم ديسيموس قيصر من البداية إلى النهاية. وفي خِضَمّ الصراع، عيّن قيصر ديسيموس رفيقاً عسكرياً له كي يحكم بلاد الغال في غيابه. وفي نهاية الحرب عام 45، غادر ديسيموس بلاد الغال وعاد إلى إيطاليا مع قيصر، ليرافقه وهو يحكم الإمبراطورية الواسعة وحده.
ثم ساءت الأمور فجأة. في الشهور الأخيرة قبل اغتيال قيصر تبدّل موقف ديسيموس منه. ولا نعرف لماذا ولكن ربما كان الأمر يتعلّق بالقوة والسلطة أكثر من "المبدأ" الذي اغتالوا من أجله قيصر وهو: الحفاظ على الجمهورية.
وتكشف رسائل ديسيموس إلى شيشرون عن رجلٍ مهذِّب فصيح يتمتَّع بشعور طاغ بالعِزة، وحِسٍّ كاشفٍ للخيانة، وعَطِشِ للانتقام من الخونة.
ربما ما أثار حفيظة ديسيموس آنذاك هو رؤية عرضي الانتصار العسكري في روما في خريف عام 45، حيث سمح قيصر لمساعديه في إسبانيا بالاحتفال، على عكس كل الأعراف العسكرية آنذاك. ومع ذلك، لم يمنح قيصر امتيازاً مماثلاً لديسيموس إثر انتصاره على إحدى قبائل بلاد الغال الشرسة.
أو ربما يكمن السبب في تعيين قيصر لحفيد أخيه أوكتافيوس – كما ذكرنا – ليكون الرجل الثاني في القيادة في حربٍ جديدة نشبت عام 44 ضد الإمبراطورية الفرثية (إيران القديمة)، التي كانت ندّاً لروما شرق البحر الأبيض المتوسط، وفي تلك المرحلة كان على ديسيموس البقاء والتخلُّف عن الصفوف الأولى في المعركة وحكم بلاد الغال الإيطالية.
لقد كان الخروج على رأس الجيوش هو الشرف الذي يرجوه ديسيموس، والذي سيؤهله ربما لحكم روما بعد يوليوس قيصر.
وبغض النظر عن دوافعه الحقيقيّة، فبمجرد أن انقلب ديسيموس على قيصر أصبح شخصاً لا غنى عنه في المؤامرة.
كان ديسيموس قائد أمن المتآمرين وجاسوسهم الرئيسي. وبصفته المتآمر الوحيد في دائرة قيصر المقربة جداً كان ديسيموس جاسوساً متأصلاً يمكنه الإبلاغ ليس فقط عمّا يدور في قصر قيصر، وإنّما عمَّا كان يفكر فيه ويشغل باله أيضاً.
علاوةً على ذلك، كان ديسيموس يسيطر على فرقة المصارعين، التي لعبت دوراً رئيسياً في واقعة اغتيال قيصر.
ظل قيصر في روما آخر ستّة أشهر في حياته (بين أكتوبر/تشرين الأول 45 ومارس/آذار 44 ق. م) وهي أطول فترة إقامة له هناك منذ سنوات. ولم يتفوّه بخطّتة قَط، ولكن أفعاله فضحت هدفه الرامي إلى تغيير حكومة روما. إذ تصرف بديكتاتوريةٍ تفوق أيَّ وقتٍ مضى، وتتلخَّص في تبنِّيه للقبٍ غير مسبوق في روما: "الديكتاتور/الحاكم إلى الأبد".
حافظ قيصر على نظام الحكم الجمهوري التقليدي في روما، لكنّ الانتخابات لم تعد أكثر من مجرّد واجهة صورية لحكمه. فقد كانت السلطة الحقيقية لتعيين أصحاب المناصب في يده بلا منازع.
وشهد القناصل، والقضاة، وأعضاء مجلس الشيوخ انتقال السلطة إلى قبضة أمنائه ومستشاريه، وقد صار بعض هؤلاء مؤخراً مواطنين رومانيين؛ بعدما كان بعضهم من العبيد السابقين.
باختصار لم يكن قيصر ملكاً أو امبراطوراً، لكنه تمتّع بما يضاهي القوة الملكية، والهيبة الإمبراطورية.
ولتكون الصورة مكتملةً فعلينا أن نذكر أنّ رد بعض الرومان على قوّة وسلطة قيصر المتزايدة والمطلقة كان بالإطراء عليه. إذ دعموه في سلسلةٍ طويلةٍ من التكريمات، لاسيّما وعلى نحوٍ مُبالغ بتسميته إلهاً، والشروع في خطط لتنصيب كهنة وتدشين معبد.
لكنّ آخرين -هم المتآمرون ضدّه- قرروا كبح جماحه، وعزموا على اغتياله. صحيحٌ أنهم تصرفوا باسم الجمهورية والحرية ومناهضة الملكيَّة الناشئة، لكنهم أيضاً قد رأوا في تأثيره المتزايد تهديداً لسلطتهم وامتيازاتهم الخاصة والشخصية.
من هما كاسيوس وبروتوس؟
تأكّدت خطة اغتيال قيصر في وقتٍ مبكر من صيف عام 45 لكنّ المؤامرة التي أطاحت به في مارس/آذار عام 44 لم تتَّخذ شكلها النهائي إلا قبلها بشهرٍ واحد، بعدما انضمّ إليها ما لا يقل عن 60 رجلاً، لا يتسنّى لنا اليوم اليوم معرفة أكثر من 20 من بينهم.
ووفقاً للفيلسوف الروماني سينيكا، الذي كان أحد الذين وثّقوا المؤامرة لاحقاً، لم يكن غالبية المتآمرين أعداء قيصر بل كانوا من أصدقائه ومؤيديه.
كان كاسيوس وبروتس أشهر المتآمرين في القصة المشهورة عن اغتيال يوليوس قيصر، فمن هما كاسيوس وبروتس؟
كان كاسيوس رجلاً عسكرياً ومؤيداً سابقاً لبومبي، ومن أعداء يوليوس قيصر. احتقر أساليبه "الديكتاتورية" وكان مملوءاً بالضغينة تجاهه. أما بالنسبة لبروتوس، فلم يكن صديق قيصر الذي يصورِّه شكسبير في مسرحيته.
كانت والدة بروتس عشيقةً سابقةً ليوليوس قيصر. ومع ذلك، دعم بروتوس منافسه بومبي حتّى خسر الأخير أمام قيصر في ساحة المعركة عام 48، وعند هذه النقطة فقط تحوَّل بروتوس إلى صفّ قيصر.
سرعان ما خان بروتوس قائده السابق عبر إطلاع استخبارات قيصر على المكان المحتمل لتواجد بومبي، الذي هرب بعد المعركة. وفي أعقاب هذا، كافأ قيصر بروتوس بمنصبٍ رفيع.
لكنّ هذا كان فقط من أجل إثبات علاقة قيصر وبروتوس الجديدة "الوطيدة". وكان قيصر سياسياً كما كان عسكرياً، فعندما انتصر على بومبي أحرق كلّ الوثائق والمراسلات التي كانت في خيمته، ليطمئن كلّ القادة أنّ أي شخص كان عدوه سابقاً يستطيع الآن أن ينضمّ له دون ضغينة. لكن يبدو أنّ رهان يوليوس قيصر كان خاطئاً هذه المرة.
في صيف عام 45 طلّق بروتوس زوجته وتزوج مرةً أخرى. لكنّ عروسه هذه المرة هي ابنة خاله كاتو، عدوُّ قيصر اللدود. وقد كان والد بروتوس نفسه موظفاً لدى بومبي، منافس قيصر الذي هزم في النهاية.
ويقول بعض المؤرخين أيضاً إنّ بروتوس هو ابن قيصر، فقد ولد في الفترة التي كانت أمّه سرفليا عشيقةً لقيصر، ولهذا فقد تعامل مع قيصر بشكلٍ خاص. لكنّ بروتوس كان يشعر أنّه "ابن زنا"، وكان البعض يعيّرونه بذلك.
على كلّ حال، سواءٌ صحّت تلك الروايات أم لم تصح، يتبيّن، لنا جزءٌ آخر من القصة حين نعلم أنّه في شتاء عام 44 بدأ خصوم قيصر في دعوة بروتوس للحفاظ على تقليد أسلافه.
فقد كان أشهر أسلافه مؤسس الجمهورية الرومانية لوسيوس جونيوس بروتوس، الرجل الذي تزعَّم طرد ملوك روما قبل مئات السنين وحافظ على النظام الجمهوري. ومن هذا المنطلق، بمزيجٍ من الفخر والتقاليد الأصيلة -وربما الحب لزوجته ووالدها- انقلب بروتوس على قيصر.
ويبدو أنّ هناك خلطاً كبيراً بين شخصين في هذا الإطار: بروتوس الذي اعتبر شكسبير أنّ آخر كلمة قالها قيصر هي "حتّى أنت يا بروتوس"، وبين الرجل الحقيقي الذي أنجح هذه المؤامرة وهو ديسيموس.
وهما شخصان مختلفان بالطبع، وهما أبناء عمّ بعيدان، ينحدران من نفس أصول مؤسس الجمهورية الرومانية لوسيوس جونيوس بروتوس. وديسيموس اسمه كاملاً: ديسيموس جونيوس بروتوس ألبينوس. بينما اسم بروتوس الذي حكى عنه شكسبير: ماركوس جونيوس بروتوس.
الدقة العسكرية في اغتيال يوليوس قيصر
نجحت مؤامرة اغتيال قيصر لأنها خُطِطت بدقّةٍ وبراعة، فلم يكن هناك أيّ خطأٍ ولو بسيط في تنفيذها. ففي وجود جنرالات مثل ديسيموس وكاسيوس وقائد قيصر المخضرم تريبونيوس، لا يمكن توقُّع دقّة عسكرية أقلّ.
اختار منفذو الاغتيال إنهاء حياة قيصر بأنفسهم بدلاً من استئجار قتلة، وهو قرارٌ يبرهن على جديَّة هدفهم. فبالقضاء عليه في اجتماع لمجلس الشيوخ، جعلوا فعلتهم عامّة وليست ثأراً شخصياً. أي أنها كانت اغتيالاً وليس قتلاً.
انعكست احترافية هذه العملية حتّى في اختيار الأسلحة. هاجم منفذو الاغتيال قيصر بالخناجر لا السيوف كما يتصوّر البعض. كانت السيوف كبيرةً للدرجة التي تعيق التسلُّل بها إلى مجلس الشيوخ، ولم تكن عمليةً لتُستخدم في أماكن ضيقة. وعلى وجه التحديد، استخدم القتلة الخنجر العسكري الذي يدعى "البوغيو"، وقد صار سلاحاً قياسياً لدى الجيوش لاحقاً.
لم تكن الخناجر العسكرية أسلحة عملية فحسب، بل كانت تحظى أيضاً بالإجلال والتقدير. وقد أصدر بروتس لاحقاً عملةً معدنية احتفاءً بذكرى اغتيال يوليوس قيصر، وظهر عليها خنجران عسكريان. إذ أراد مجدداً إبداء أن مُنفذي الاغتيال لم يكونوا مجرد قتلة.
لا يزال مجلس الشيوخ الروماني قائماً حتى الآن في المنتدى الروماني، ويفترض معظم الزوار أنّ قيصر قُتل هناك، لكنها ليست الحقيقة، ولم يقتل أيضاً في كابيتولين هيل كما قال شكسبير. حيث وقع الاغتيال على بعد حوالي نصف ميل من المنتدى في مبنى مجلس الشيوخ، وكان جزءاً من مُجمَّع ضخم يضم مسرحاً وحديقة ورواقاً مغطى ومتاجراً ومكاتب. وأقيمت ألعاب المصارعة في المسرح يوم الاغتيال، مما أعطى ديسيموس ذريعةً لنشر مصارعيه بالقرب من مبنى مجلس الشيوخ. وكان هدفهم الحقيقي هو توفير قوة أمنية احتياطية في حال فشل الاغتيال.
وكان لقيصر -كقائدٍ عسكري- حارسٌ شخصيّ، لكنه استبعده بعد عودته إلى الحياة المدنية في روما، إذ أراد أن يبدو قريباً من الناس ولا يعرف الخوف.
فضلاً عن ذلك، كان يقتصر دخول اجتماع مجلس الشيوخ على أعضاء مجلس الشيوخ، لذا تعيّن على معظم حاشية قيصر البقاء خارج المبنى، وهو ما جعله في موضع ضعف فريد من نوعه داخل مجلس الشيوخ. ومع ذلك، كان قيصر قد عيّن العديد من أعضاء مجلس الشيوخ في مناصبهم شخصياً، ومن بينهم رجال عسكريون. ولو تقدّم هؤلاء لمساعدة قيصر، لتمكّنوا من التغلب على مُنفذي الاغتيال.
لهذا فقد هاجم منفذو الاغتيال بسرعةٍ هائلة، وعزلوا قيصر قبل الهجوم عليه. إذ وقف العديد من المتآمرين القتلة خلف عرشه بينما أحاط به آخرون ليجذبوا انتباهه، ونفذوا الاغتيال قبل حتّى أن يجلس قيصر في مقعده.
بدأ الهجوم. ورفع تيليوس سيمبر -ذاك المقاتل الشرس الذي كان يفضّله قيصر- يديه بقليلٍ من الاحترام وسحب رداء قيصر. عند هذه الإشارة، شن المتآمرون هجومهم بقيادة بوبليوس سيرفيليوس كاسكا.
ماذا كانت الكلمات الأخيرة ليوليوس قيصر؟
صرخ قيصر على الفور على سيمبر: "لماذا، هذا عنف"، وصاح في كاسكا، واصفاً إياه بأنه "شرير" أو "ملعون". مع ذلك، لم يقل قطّ "حتّى أنت يا بروتس؟". فقد كانت هذه العبارة من تأليف كُتاب عصر النهضة. كما نقل المؤلفون القدامى شائعة مفادها أن قيصر قال لبروتس باليونانية: "أنت أيضاً يا بُنيّ".
حاول قيصر -ذلك المحارب العتيد القديم- الرد، وطعن كاسكا بقلمه الذي كان أداة كتابة حديدية صغيرة مدببة -وتمكّن من النهوض. حاول اثنان من مؤيديه من بين أعضاء مجلس الشيوخ -وهما لوسيوس مارسيوس سينسورينوس وجايوس كالفيسيوس سابينوس- إغاثته، لكنّ المتآمرين قطعوا طريقهم وأجبروهم على الفرار.
في هذه الأثناء، جرّ تريبونيوس رفيقه القديم مارك أنتوني وألهاه في محادثةٍ خارج أعتاب مجلس الشيوخ.
كان أنتوني جندياً مخضرماً وقوياً وخطيراً والأهم أنّه كان مخلصاً لقيصر. ولو دخل غرفة انعقاد مجلس الشيوخ، لاتخذ صف قيصر وتمكّن من مساعدته.
بينما احتجز تريبونيوس مارك أنتوني، لم يكن بيد قيصر شيء يفعله للدفاع عن نفسه، وربما لم يستغرق موته سوى دقائق معدودة، إذ لقي حتفه إثر إصابته بـ23 جرحاً، حسبما تقول معظم المصادر.
قبل النهاية، لفّ ثوبه حول وجهه، وسقط عند قدم تمثال منافسه بومبي. ذاك التمثال الذي حافظ عليه قيصر دون أن يهدمه.
هل نجح اغتيال قيصر حقاً؟!
كان اغتيال يوليوس قيصر يهدف للحفاظ على الجمهورية الرومانية بعيداً عن الملكية أو الحكم الإمبراطوري، لكنّ الاغتيال في الحقيقة قاد إلى الحكم الإمبراطوري بشكل دراماتيكي.
بدأت حربٌ أهليّة بعد اغتيال يوليوس قيصر، بين مؤيديه من ناحية، وهم: قريبه أوكتافيوس وماركوس ليبيدوس ومارك أنتوني. وبين دعاة الجمهورية الذين اغتالوا يوليوس قيصر.
قُتل أغلب المتآمرين الذين اغتالوا قيصر، واستطاع أوكتافيوس ورفاقه السيطرة على الدولة الرومانية، وأسسوا حكماً ثلاثياً للدولة. ولم يلبثوا أن تصارعوا مرةً أخرى فيما بينهم.
كانت النتيجة أن نُفي كاركوس ليبيدوس وانتحر مارك أنطوني بعد هزيمته في معركة أكتيوم البحرية، وأصبح أوكتافيوس حاكماً واحداً لروما، وأصبح اسمه أغسطس قيصر، وهو أوّل الأباطرة في الدولة الرومانية، ومؤسس النظام الإمبراطوري الذي ربما لم يحلم به عمّه يوليوس قيصر.
وهكذا، يبدو أنّ المغامرين الذين اغتالوا يوليوس قيصر لم تكن فطنتهم السياسية توازي مهارتهم العسكرية التي أظهروها في اغتيال قيصر.