لم يكن الكاتب الإيطالي ريكاردو نيكولاي يتوقع وهو يدخل مساء يوم صيفي وديع، من العام 2007، قصر مدينته ماسا، موطن رخام كارارا الأبيض، بإقليم توسكانيا وسط غرب إيطاليا، أن حياته ستنقلب رأساً على عقب، وأن روحاً جديدة ستسكنه لسنوات، بل وإلى الأبد. اليوم يخط على ساعده وشماً يحمل اسم ذلك الشخص الذي سمع يومها راوي القصر يقص حكايته العجيبة لأول مرة في حياته.
"ألبيريكو بيتشيني، ذلك العبد الإيطالي الذي صار علي بتشين الأميرال الرهيب وباشا الجزائر".
مسكون بشبح ذلك الراعي والبحار الإيطالي منذ سمع قصته لأول وهلة، سيقوم الكاتب الإيطالي بأبحاث تاريخية على مدار سنة ونصف السنة قبل أن يبتسم له حظ المجتهدين وهو يضع يده على رسائل خاصة متبادلة بين علي بتشين والأمير ألبيريكو مالسابينا، حاكم مدينة ماسا، وبفضل تلك النفائس التاريخية الثمينة يخطّ ريكاردو بعد سفريات عديدة قادته إلى الجزائر روايته "علي بتشين في حب أميرة"، يقول "في الواقع أنهيت كتابة الرواية، لكني رفضت نشرها قبل زيارة الجزائر، أردت أن أعيش روح ونَفَس ذلك البطل الذي يعيش فيّ، زرت المحروسة شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2015، فذهلت وأنا أكتشف أن مناخ الجزائر يشبه إلى حد كبير روح مدينة ماسا، لقد تقفّيت أثره وخطاه في زنق المدينة العريقة ودخلت جلده، فأقمت في منزله في قصر رياس البحر، كما صليت في مسجده. تجولت في سطوح القصبة السفلى وتحدثت مع الانكشاريين".
هكذا كُتب لروح علي بتشين أن تُبعث من قبر الذكريات من جديد، بعد قرابة خمسة قرون من البيات التاريخي، ففي البدء كانت الكلمة وإليها منتهى المصائر والأشياء.
1/ بيع بـ60 قطعة ذهبية تحت أنظار "ميغوال سارفنتيس"
ولد ألبيريكو بيتشيني في قرية مرتيتو بمدينة ماسا الواقعة وسط غرب إيطاليا، اشتغل وهو طفل لا يتعدى عشر سنوات في مساعدة عائلته قبل أن يصبح في العاشرة خادماً على ظهر سفينة من البندقية، ولأن الوقت كان زمن الحروب البحرية الكبرى بين الشرق والغرب، أو حرب الثلاث مئة عام التي دارت رحاها بين الجزائر وأوروبا، لم يكن ذلك الصغير قادراً على كبح رغبته في حياة القرصنة والبحار، أو مكترثاً قط لتلك الكلمة "المرعبة" التي يرددها سكان السواحل الأوروبية، منبهين محذرين أطفالهم "كن لطيفاً وإلا اختطفتك سفن البربرسك إلى بلدان بعيدة"، لكنه سيعاين شهر مايو 1578 وقع ذلكم التقريع، وسفينة جزائرية تحكم الإطباق على نظيرتها الإيطالية، قبل أن تقاد غنيمة باردة برجالها وأحمالها إلى ميناء الجزائر العاصمة.
وفي مرفأ البهجة المحروسة، وفيما كانت المدافع تحيي كما هي عادتها المتواصلة على مدار ثلاثة قرون هذا الفتح العظيم، كان حاكم الجزائر حسن فينيزيانو، وهو من أصول إيطالية، تعود به للبندقية، يترأس وفداً رسمياً مشكلاً من كبار قادته، بينهم الرايس شيوبالي، والرايس فتح الله خوجة. وما من شك أن الطفل ألبيريكو كان مذعوراً وسط ذلك الحشد الغريب وهو يجد نفسه سلعة بشرية تباع مثل بقجة الصوف، تتقاذف مصيره الملعون جلبة تجار الرقيق وهم يتداولون لغة "السابير"، لغة التجار الهجينة بين الجزائرية الدارجة والكلمات الإسبانية والإيطالية، كان شبحاً مائلاً إلى الانهيار لولا أن السماء هيأت له مصيراً آخر تماماً، لما أصر الرايس خوجة على أن يبتاعه له من سوق العبيد في باب البستان، تحت أنظار أسير الجزائر الآخر ميغويل سرفانتس، صاحب رائعة دون كيشوت، بستين قطعة ذهبية.
2/ هؤلاء الأوروبيون الذين صنعوا مجد البلاد في البحر المتوسط
إن لحظة شرائه هي لحظة انعتاقه لتحقيق ما كان يصبو إليه، كما لو أن القدر يطاوع بشكل كبير كل أولئك الراغبين في تحقيق ملاحمهم الشخصية الخالدة، كما يقول باولو كويلهو في روايته الأسطورية "الخيميائي". وعلى نحو ما سيكون مصير العبد الأسير مصيراً عجيباً ورديفاً لمصير حسن الوزان، "ليون الإفريقي" الذي أسر بجربة التونسبة على يد قراصنة صقليين، وقدم هدية للبابا ليون العاشر، قبل أن يصير قرة عين عائلة ميديتشي العريقة بفلورنسا وروما.
ثم إن السيد الجديد فتح الله سيختن الولد ويختار له اسماً محلياً هو علي بتشين، جرياً على الأعراف السائدة آنذاك، كثيرون هم الأسرى المسيحيون واللاجئون الأوروبيون الذين كانت لهم البلاد الجديدة "جنة التعساء" تماماً مثل شقيقتها وهران، فمن "يأتي إلى أسوارها فقيراً يعود غنياً". كان أغلب القادة من طائفة رياس البحر من أصقاع شتى، غير أن "القرصنة" أو "الجهاد البحري" منحهم هوية جديدة تحت راية البلاد الحامية، رغم أن جلهم مثل حسن كورصو، وحسن فينزيانو، وحسين ميزو مورتو "نصف الميت"، وعلي باسطا، ودالي مامي، كانوا من أصول إيطالية ويونانية ومالطية وإسبانية وإنجليزية وهولندية.
يخبرني ريكاردو بشيء مهم اكتشفه الوافد الجديد على أنقاض تلك المصائر المختلطة والهويات المسافرة والولاءات المترحلة فوق البحر المتوسط، فيقول "كان للرجل مقولة شهيرة هي ليس للبحر المتوسط دول، بل إنه ملك الذين ينصتون لصوته من هنا وهناك، من حيث تنهض الشمس وإلى حيث تموت"
3/ "أسد البحار" يحكم السيطرة على المتوسط والأطلنطي
لذا، لن يشذ مصير علي بتشين عن قدر أسلافه قيد أنملة، وهو يستقيم في قمرة السفينة، أو يعدل أشرعتها، أو يتفقد الصواري ويعاين قوة المراسي، ومتانة المدافع، فقد رعاه سيده بن خوجة أحسن الرعاية ناسجاً معه علاقات أبوة حقيقية.
شيئاً فشيئاً، ونظير ذكائه الحاد وحسن تدبيره سيعهد إليه بتسيير سفينة حربية ذات 12 مجدافاً، ثم لما برع القرصان الشاب في مخر عباب البحر بلا خوف أو وجل، ضمه لفرقة رياس البحر، ليبدأ رحلة مطاردة ملحمته الشخصية، وما انقضت غير سنوات قليلة حتى بات العبد المملوك رئيس طائفة الرياس العام 1621، ثم "أسد البحار" الذي لا ينازعه في تلك المرتبة العظيمة غير الرايس حميدو.
وفعلاً شهدت نهايات القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر صعوداً صاروخياً للرجل الذي تعددت طلعاته البحرية المظفرة، وغزواته في أعالي البحار. فرضت سفنه السيطرة على أساطيل الدول الأوروبية، فإليه ينسب المؤرخون فضل امتلاء خزائن إيالة الجزائر بالأموال والغنائم والذهب، وحتماً كان له من خراجها القسط الوفير.
في ذلك العهد، عهده الباهر، عبرت السفن الحربية الجزائرية مضيق جبل طارق، وشارفت على بحار الدول الاسكندنافية وتوغلت في المحيط الأطلنطي وهاجمت جزيرة ماديرا، حتى غدا من المستحيل على سفن الدول الأوروبية ولاحقاً الأمريكية أن تبحر دون خطر الهلاك أو دفع رسوم الحماية، وطبعاً شكلت الغنائم وريوع اقتصاد القرصنة ثروة صنعت غنى الأميرال وعنفوان المدينة المزدهرة على حد سواء.
لن يتأخر إيمانويل دو أراندا، ذلك الإسباني الذي اشتراه علي بتشين من سوق العبيد، في الكشف عبر مخطوطاته، بأن سيده كان واسع النفوذ باذخ الثراء، يملك قصراً خاصاً به ودوراً كثيرة، وما يزيد عن 4 آلاف عبد وقن، يتولون خدمته في حله وترحاله، وأن واحداً منهم عثر على قطعة ألماس ضاعت من سيده، في باحة حديقته، فأعادها إليه، فرمى له علي بتشين بقطعة نقدية قائلاً "يكفيك هذا الدينار لتشتري به حبلاً كي تشنق به نفسك، لقد جاءتك فرصة لتشتري حريتك بتلك الألماسة الغالية ولم تفعل".
4/ يبني مسجداً مهراً لحبيبته الأميرة ابنة سلطان كوكو
لا يصدق الخادم المطيع إيمانويل دو أراندا كيف وقع أسد البحار ذاك في أسر عيني الأميرة القبائلية لالاهم بلقاضي، ابنة سلطان مملكة كوكو شرقي العاصمة، لكنه شَرك الحب الذي لا تفرق شباكه بين الأسماك الصغيرة والقروش العظيمة. يروي كأمين سر وفيّ أن سيده كانت تعتريه رعشة كلما جال بخياله طيف تلك الأميرة الحسناء، فقرر في تلك السنة سنة 1621، أن يتقدم لخطبتها مرفقاً بزوجة سيده لالة نفيسة، حاملاً معه مهراً ملكياً لم يسبق أن رأته عين ولا سمعت به أذن، حتى قيل "هل جاء ليخطب أميرة أم ليقتني مملكة".
ففيما كان العبيد يرصون أحمالاً من ألماس الهند، وبروكار الشام، وحرير فارس، وذهب البيرو، في بهو قصر أورير، كان سلطان كوكو يفرك شاربيه تقديراً للكنوز التي غطت عليه جزءاً من باحة القاعة، حتى إنه لم يعد يرى ثلة من كبار المدعوين.
شخصت عيون علية القوم من العطايا الثمينة، انبهاراً وحسداً، غير أن الأميرة لالاهم فاجأت الأميرال ووالدها قائلة:
"لست بحاجة لطعم القوارض، شرطي الوحيد لقبول الزواج منك أن تبني لي مسجداً كي يصح إيمانك".
لم يتأخر الأميرال في تنفيذ الشرط، فقد انبرى العام 1622 في تشييد مسجد لا يزال شامخاً، يحمل اسمه إلى يومنا هذا، ولقد حرص الزوج على تشييده على مساحة 500 متر مربع، قرب منطقة "زوج عيون" أسفل القصبة، مازجاً فيه بين الطراز العثماني والأمازيغي، دون أن ينسى تبليطه برخام موطنه الأصلي "كارارا" الذي جلب حمولات منه.
يقول ريكاردو "ما يهمني ككاتب هو الجانب الرومانسي للقصة، علاقة الحب التي بدأت بعدما أعلن أسد البحار اعتناقه الإسلام في حفل كبير أقيم بقصر رياس البحر، أما التفسيرات السياسية فكانت تقول إنه مندرج في إطار هدف سياسي، كان علي بتشين يسعى من خلاله لتفادي القلاقل التي اندلعت في منطقة القبائل ولدى طائفة الكراغلة، أي الجزائريين المولودين من آباء أتراك وأمهات جزائريات، ثم فصل البلاد عن الحكم العثماني".
لم يخطئ البتة أولئك الذين تساءلوا عمّا إذا كان يريد قلب الأميرة أم عرش المملكة، وببساطة كان الرجل الطموح وفياً لكلا المطلبين معاً.
5/ نجا من اغتيال ومات بسم مدسوس في فنجان قهوة
في واقع الأمر، رفض علي بتشين العام 1643 أن يرسل سفناً حربية لمعاضدة الأسطول العثماني في اشتباك مع ترسانة البندقية، بسبب اعتراضه على الهزيمة التي مني بها رجاله في موقعة فيلون 1638، بعدما زج بهم الباب العالي في معركة غير مدروسة الخطط، ولا محسوبة النتائج، كما لم يتم فيها تعويض خسائره من الرجال والأسرى لاحقاً، وطبعاً تجاسر على القيام بغارات على كلابريا وصقلية لحسابه الخاص، ضماناً لاستقرار وضعه الداخلي الذي كان أحوج للأموال والغنائم، سداً لحاجات طائفة الرياس والجيش الانكشاري.
رداً على رفضه المتكرر للمشاركة في غزوة بمالطا، اعتبرته السلطات العثمانية متهماً بالخيانة العظمى، فأوفد الباب العالي فرقة انكشارية لاغتياله، لكنه نجا من الفخ، فارّاً إلى ضريح للأولياء للاختباء فيه، ونظراً لما كان يتمتع به من "هيلمان" شعبي كبير، فقد اضطر السلطان إبراهيم لمهادنته فعاد إلى قصره، قبل أن تستيقظ المدينة حزينة ذات صباح من العام 1645، وزوجته تعثر عليه ميتاً في فراشه. فور ذلك تناقل السكان خبر تسميم قهوته من طرف خادمة مقابل دنانير ذهبية معدودات أنهت حياة الأسد الحافلة بالمجد والثروات.
6/ ريكاردو نيكولاي: علي بتشين لا بد أن يعيش
"علي بتشين مازال يعيش"، هذا هو الوشم الذي يخطه ريكاردو نيكولاي بالعربية في مرفق يده، منذ قرر النفخ في رفات التاريخ وإحياء الأسطورة الخالدة لابن مدينته، متتبعاً أثره على مدار سنوات، كما أن شقيقه الآخر ألبرتو نيكولاي استلف منه حلمه.
وقدم روايته الموجهة للأطفال الصغار على خشبة المسرح ما بين إيطاليا والجزائر. أصاب ريكاردو هدفه الكبير حينما دشنت مدينة ماسا، قبل سنوات، جدارية رسمية معية سفارة الجزائر مخصصة لقصة هذا العبد السيد، كتب أسفلها "علي بتشين مازال يعيش".
ظن ريكاردو أنه انتهى من كتابة الرجل، غير أنه عثر قبل فترة على مخطوط نادر للرجل الذي عاش ظلاً لبتشين، خادمه الإسباني إيمانويل، فأصدر شهر يونيو/حزيران 2020 رواية أخرى عنوانها "أنا إيمانويل خادم علي بتشين".
يبدو الأمر كما لو أن ذلك القرصان سيعيش إلى الأبد في روح وعقل ريكاردو، الذي قرر سنة 2007 العيش فيه، فيقول لي ضاحكا:
-في 22 سبتمبر/أيلول 2022، وبمناسبة مرور 400 سنة على بناء مسجد علي بتشين، مهراً لحبيبته لالاهم، ستقيم الفعاليات الثقافية والفنية لمدينة ماسا احتفالية كبرى لأسد البحار.
– فهل يموت البحر كي يموت سلطانه؟
– حتماً لا.
يجيب ريكاردو قبل أن يختم:
-أنا أكتب رواية ثالثة عن شلبي، ابن علي بتشين والأميرة لالاهم، ثمرة الحب الوحيدة لذلك القران الأسطوري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.