كيف تشكَّلت الدولة العميقة في مصر من حكم الملكية إلى جمال عبدالناصر؟ رواية الوارثون تستحق أن تُقرأ

عدد القراءات
7,829
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/20 الساعة 14:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/20 الساعة 14:21 بتوقيت غرينتش

في المقالة السابقة تحدثتُ عن رواية "الوسية" التي وثقت الوضع السياسي والحراك الاجتماعي في مصر خلال العهد الملكي، كما رصدت أحوال الناس والسُّلطة، والمُلاك والعبيد، والأرض والانتماء.

رواية "الوارثون" هي الجزء الثاني من الوسية، ويقصد الكاتب خليل حسن خليل من عنوان الرواية الحديث عمن ورثوا الحكم في مصر بعد قيام الثورة التي أطاحت بالملك فاروق وأنهت الحكم الملكي.

خليل حسن خليل كان الأول في كلية الحقوق، تباهى بتفوقه وزير الدفاع لأنه أحد عسكرييه، وأعد نفسه ليدخل سلك العدالة فيصبح قاضياً أو نائباً، لكن تبين له وعلى لسان النائب العام وبلا مواربة أن توصيات وزير الدفاع لا تعني شيئاً، الشرط الأول أن يكون المتقدم من أسرة كريمة ذات ثراء ووجاهة ووضع اجتماعي متميز! وهذه الشروط لا تتحقق فيه.

 لم يكن أمامه إلا طريق العلم، أعلنت حينها جامعة أسيوط عن بعثة لدراسة الاقتصاد في لندن، توجه إلى وزير المعارف طه حسين لمقابلته، كان اللقاء طيباً وفاز بالبعثة.

كانت مصر تغلي وقتها: حريق القاهرة، الاستعمار الإنجليزي، الثورات الشعبية، ثم ثورة 1952، التي أنعشت الآمال، العدالة، المساواة الاجتماعية، ارفع رأسك يا أخى انتهى عصر الاستعمار، تكافؤ الفرص، الإصلاح الزراعي، تفتيت الإقطاعيات، تحصل كل أسرة على فدانين، كحد أقصى لملكية الأرض الزراعية.. بدأت الآمال تتصاعد.

كان خليل وقتها في لندن، بعض أحياء المدينة لم يكن لها مكان فيها للملونين أمثاله، فضمّته أحياء العمال والسود، المجموعة المصرية من المبتعثين لم تعد تجتذبه، ما بين ضحك كله خواء وأحاديث فارغة، أما خليل فقد جاء إلى بريطانيا علَّه يصل إلى فهم حقيقي لمشكلة الجوع والجهل والقهر في بلده، يريد أن يتعمق ليكتشف جذور التخلف الذي يرين على مجتمعه، وهذا يتطلب منه البحث والوصول إلى إجابة سؤال: كيف تقدم الإنجليز؟ وكيف ظل بلده راكداً؟

دفعه ذلك إلى جعل موضوع رسالته عن دور الاستعمار وقوى الإقطاع والرأسمالية المحلية في إعاقة التقدم في مصر، بعد أن جال جولة واسعة على أساتذة الاقتصاد في بريطانيا، وقد انتقى منهم مَن له نظريات اقتصادية ومؤثرة ومَن له موقف ضد الاستعمار، أو مَن جاء من بلد من العالم الثالث وشق طريقه في عالم الاقتصاد. 

كان موضوعه مهماً لكنه لم يجد مَن يشرف عليه من أساتذة الاقتصاد في بريطانيا. البعض نصحه بموضوعات أخرى مثل اقتصاديات صناعات القطن في يوركشاير، وهي الموضوعات التي يختارها زملاؤه المصريون. أصرّ خليل على موضوعه وتوصل إلى أن يسجله بإشراف أستاذ في مصر وفي جامعة مصرية وأن يتم رسالته في بريطانيا حيث كل المعلومات عن العالم النامي تنتهي إليها بدلاً من أن تتوافر في بلدانها.

وأثناء ذلك تم تأميم القناة وحدث العدوان الثلاثي على مصر، ووجد خليل نفسه مع المتظاهرين الإنجليز يهتفون ضد الاستعمار البريطاني وضد حكومة المحافظين التي تعتدي على مصر، قلة من المصريين شاركوا مع البريطانيين ولكن الرجل شارك بقوة، وكانت مكافأته أن عثر قلبه على هواه، كانت فتاة تعرّف إليها من قبل، تدرس الفن، وتشاركه معارضة الاستعمار والرأسمالية. عاد صاحبنا إلى مصر وقد وجد أن الاشتراكية هي مذهبه الاقتصادي المفضل الذي سينهي مجتمع الوسية، وكان يظن نفسه محظوظاً إذ تحولت بلده نحو الاشتراكية.

في مصر رفض المشرف الجديد الرسالة، وأزعجه عنوانها، كاد صاحبنا يلقي برسالته في القمامة، لكنه اهتدى إلى حل آخر، فبدلاً من الحديث عن الاستعمار تحدث عن الشركات الأجنبية التي تعمل في الدول المتخلفة وحلفائها المحليين، وأشار إلى كتاب للمشرف في المراجع، لا يرقى كتاب المشرف إلى مستوى المرجع لكنه أرضى غرور الأستاذ، وتمكن أخيراً من الحصول على الدكتوراه.

بين السطور تحدث الدكتور خليل عن حبه البريطاني، ومعوقات الزواج خاصة مع أب بريطاني يكره مصر، ثم كيف تتحلل عقد هذه العلاقة، وبين هذا وذاك لا ينسى أن يحدثنا عن علاقة بزميلة فقيرة مطلقة كانت مسكناً لجسده وهو يعاني خيباته مع خطيبة المستقبل البريطانية ومع رسالته للدكتوراه. ألم ينتبه الرجل إلى أن هذه العلاقة كانت تجسيداً لمجتمع الوسية ينتهك فيه المثقف الصاعد إلى طبقة أعلى جسداً ليس له به علاقة شرعية أو عاطفية، وهل كُتب على الفقيرات الخائبات في الزواج أن تكون أجسادهن طفايات حريق للأفندية الجدد.

وصله خطاب من عبدالمجيد فريد، وزير رئاسة الجمهورية، يفيد بأنه تم تعيينه ليعمل باحثاً في مكتب الرئيس للبحوث الاقتصادية، حيث تبني البلاد اقتصاداً حراً وطنياً مستقلاً اشتراكياً، تجربة مثيرة، حملته من ثم إلى انتخابات الاتحاد الاشتراكي، ثم إلى الترشح للانتخابات عن دائرة الرئيس في مصر الجديدة وهناك يفوز، لكنه يجد نفسه داعماً للمرشح حمادة شاهين، وحماده شاهين مدعوم من سمير شريف، وسمير شريف مقرب من الرئيس، وله دور في اختيار الوزراء، لم يفصح المؤلف عن اسمه الحقيقي. فاز حمادة شاهين وهو يرأس إحدى شركات القطاع العام، عمل شاهين مع شلته على تخريب جلسات التثقيف السياسي الاشتراكي التي يعدها خليل، وتبين له فيما بعد علاقات شاهين المشبوهة بالفساد الناشئ، الذي ينتظم فيه رجال جيش من الباشوات الجدد وبرجوازيون محدثون وقدامى، ورغم ذلك يحتكرون تمثيل العمال والفلاحين في مجلس الأمة.

استمرت ترقية خليل حتى بات مرشحاً لعضوية التنظيم الطليعي، وهو تنظيم سري استحدثه مقربون من عبدالناصر ليراقب التطبيق الاشتراكي ويكتشف المفسدين، أصبح الدكتور عضواً في لجنتين إحداهما مع عبدالمجيد فريد والأخرى عليه أن يشكلها بنفسه، اللجنة الأولى فيها ألوية من الجيش وليس فيها مَن لا يمتلك قصراً فاخراً إلا هو والوزير فريد، وتصل السخرية السوداء مداها عندما كانوا يجتمعون في قصر أحد الألوية، عندما أتى المجندون الصغار لتغيير أثاثه بأثاث جديد مأخوذ من مخازن الجيش، وعلى عينك يا تاجر، بالضبط كما كان الأمر في الجيش الملكي، وكان الأمر الأكثر إثارة هو العامل الذي اختاروه لعضوية التنظيم الطليعي، فقد كان يضاهي في لباسه وسياراته نجوم السينما في باريس، تبين أنه قد اختير ممثلاً للعمال وأغرق في النعيم المسروق من الدولة!

كل يوم جعل خليل يكتشف أن الوسية هي الدولة العميقة في مصر ولكن يعاد الترتيب لصالح أصحاب البكوية الجدد، يكمل خليل روايته لتفاصيل مثيرة كان شاهداً عليها، حتى انتهت مسؤولياته بأن اختير للتثقيف الموجه للشباب تحت إدارة زكريا محيي الدين.

اتهموه بالماركسية بعد إحدى المحاضرات التي ألقاها، ولم يستطع رجال الدولة الذين عرفوه لا عبدالمجيد فريد ولا زكريا محيي الدين أن يحموه.

دخل الزنزانة الانفرادية، التي وُجد على جدرانها ذكريات زعماء ومثقفين كثيرين حلُّوا فيها من قبل خلال العهدين، ولوحة بارعة مرسومة عن حال مصر  من عهد خوفو الفرعوني إلى العهد الحديث، عهد الوسية والكبير الذي يمتص دماء الفلاحين.
فوجئ خليل حين وجد أن المعذِّبين من رجال الشرطة هم تلامذته، والمعذَّبين كانوا زملاءه في تنظيم الشباب، يا لتعاستي علَّمتُ الضارب والمضروب، علمت الإمعة والبطل!

هذه الرواية هي كوميديا سوداء في سيرة روائية رافق الفن كل كلماتها، تحرق الفؤاد في مجتمع الوسية، حيث يدفع المصري ثمنه شقاء كل يوم، ويدفع أخوه العربي مثله، فلطالما كان العرب يبدأون من حيث ينتهي المصريون.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
صالح الشحري
طبيب فلسطيني
طبيب فلسطيني واستشاري أمراض نساء و توليد. مهتم بالشأن الثقفي وقضايا المجتمع وسبق أن كتبت عدة مقالات في موقع huffpost النسخة العربية.
تحميل المزيد