تحتفل فرنسا بالعيد الوطني الذي يسميه البعض "يوم الباستيل" في 14 يوليو/تموز من كل عام، إذ يتم إطلاق الألعاب النارية في العاصمة الفرنسية باريس من برج إيفل، لإحياء ذكرى سقوط سجن الباستيل في نفس اليوم عام 1789، على يد الثوار الفرنسيين الذين تمرّدوا على الملك. ويعد اقتحام هذا السجن وسقوطه الشرارة الأولى لنجاح الثورة الفرنسية، التي ترتب عليها أمور كثيرة في أوروبا والعالم.
وعلى مدار تاريخه كان لسجن الباستيل سُمعة مخيفة نظراً للظروف البائسة التي كان السجناء محتجزين فيها. كما كثرت الشائعات عن طرق تعذيبهم وقتلهم، وأصبح رمزاً للطغيان والظلم الملكي في فرنسا، ولكن ربما هناك الكثير من المعلومات المثيرة التي لا تعرفها عن سجن الباستيل، جمعناها لك في هذا التقرير.
سجن الباستيل لم يكن سجناً في الأصل
أنشئ السجن في فرنسا بين عامي 1370-1380، في زمن الملك شارل الخامس حصناً للدفاع عن الجانب الشرقي من باريس من الجيوش المعادية خلال فترة حرب المئة عام بينها وبين إنجلترا (1337-1453)، وتمّ توسيع التحصينات على مر السنين لجعلها حصناً هائلاً، وبعد انتهاء حرب المئة عام، استخدم الباستيل قلعةً ومكاناً يستضيف فيه الملك ضيوفاً، كما استخدم خزينةً ملكية في زمن الملك هنري الرابع عام 1589.
بعد أن انتصر الجيش الإنجليزي على الجيش الفرنسي في معركة أجينكورت قرب قرية أجنكور شمال فرنسا، خلال حرب المئة عام، احتل الإنجليز، تحت حكم هنري الخامس ملك إنجلترا، باريس مدة 15 عاماً، بدءاً من عام 1420، وكانت قوة الاحتلال الإنجليزية متمركزة في سجن الباستيل ومتحف اللوفر وقلعة شاتو دي فينسين، كما احتلت جيوش الرابطة الكاثوليكية سجن الباستيل من عام 1588 إلى عام 1592، خلال فترة الحرب الدينية الكاثوليكية البروتستانتية، التي عرفت باسم حروب فرنسا الدينية.
مَن كان أول من استخدم الباستيل سجناً؟
على الرغم من اعتقاد الكثير من الناس بأن الباستيل كان سجناً منذ تأسيسه، فإنه لم يصبح سجناً إلا في القرن السابع عشر في زمن الملك الفرنسي لويس الثالث عشر، أي بعد حوالي 3 قرون من تأسيسه، عندما أصدر الكاردينال دي ريشيليو قراراً بتحويل الباستيل إلى سجن، يزج به أعداء الملك من المعارضين السياسيين والمسجونين الدينيين والمحرضين ضد الدولة.
ومن أشهر مساجين سجن الباستيل كان الكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير، الذي عُرف بنقده الساخر واللاذع ودفاعه عن حرية الإنسان، وقد حُبس عام 1717 لمدة 11 شهراً بسبب كتاباته، ثم سُجن مرة أخرى عام 1726، وأُطلق سراحه بشرط مغادرته من فرنسا إلى إنجلترا.
كما سجن فيه الروائي الفرنسي ماركيز دي ساد، على خلفية اتهامه بأن رواياته لا أخلاقية، تحارب القيم الدينية والمجتمعية والقانونية في فرنسا، وأطلق سراحه من سجن الباستيل في عام 1789، مباشرة قبل اقتحام سجن الباستيل.
كما عُرف أيضاً عن سجن الباستيل في فترة ما قبل سقوطه، بأنه كان معتقلاً للأدباء والمثقفين والسياسين الذين يتم اعتقالهم دون محاكمة، ويُفرج عنهم بعد مدةٍ طالت أو قصرت، ولذلك فقد حرصت العديد من الأسر الأرستقراطية على إرسال أفراد أسرهم الذين ارتكبوا جرائم صغيرة إلى هذا السجن وسيلةً للحفاظ على سُمعتهم وسمعة العائلة، ولهذا السبب كان النظام الملكي الفرنسي يخطط لإغلاق سجن الباستيل قبل عام 1789.
كانت معاملة السجناء جيدة قبل الثورة!
قد لا يعلم البعض أنه على الرغم من تنامي السمعة السيئة لسجن الباستيل في القرن الثامن العشر، فإنه كان الوضع في الحقيقة قد تغيّر وأصبح أقلَّ حدةً في تلك الفترة، في عهد الملك لويس السادس عشر، الذي حرص على تحسين أحوال المساجين هناك، لتخفيف حدّة السخط الشعبي.
وقد خصَّص الملك مصروفاً يومياً قدره 10 ليفات لكلّ سجين، وهو ما يكفي لإطعامهم وكسوتهم، وكان السجين في سجن الباستيل، يستطيع أن يستقبل خمسة أو ستة زوّار في اليوم؛ كما سُمح للسجناء بإحضار أثاثهم الخاص، إضافة إلى بناء مكتبة تضم مجموعة من الكتب الخاصة بالمساجين.
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن سمعة سجن الباستيل ظلّت سيئة جداً في الأوساط الشعبية التي كانت تعتبره رمزاً للظلم والقهر. وفي محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، أوصى كوربيت مفتش بلدية باريس عام 1784، بتحويل سجن الباستيل إلى ساحةٍ تحمل اسم الملك لويس السادس عشر، كما قدّم نائب حاكم سجن الباستيل في عام 1788، اقتراحاً بأنه يمكن توفير نفقات كبيرة من خلال نقل السجناء، وتجريف سجن الباستيل، وإعادة تطوير الموقع، وكانت هذه المقترحات تحت الدراسة الجدية.
لم يكن تحرير المساجين السبب الرئيسي لاقتحامه
في يوم 14 يوليو/تموز عام 1789، اقتحم مواطنون من باريس وجنود فرنسيون متمردون سجن الباستيل، وحرروا الأسرى والذخيرة، وسرعان ما أصبح الحدث رمزاً للثورة الفرنسية، ما أدى لإطاحة النظام الملكي الفرنسي، وفي يوم اقتحام السجن، أراد المتمردون تحرير عددٍ من الأسرى، لكنهم فوجئوا بأنه لم يبقَ في السجن سوى سبعة أسرى فقط! والذين كانوا من المجرمين فعلاً.
فيما كان السبب الرئيسي لاقتحام الثوار سجن الباستيل هو الاستيلاء على السلاح والبارود، فقد أدرك الثوار أنهم بحاجة إلى أسلحةٍ وذخائر تعينهم على الاستمرار في الثورة، بعد أن اقتحموا مستشفى للجنود في باريس واستولوا على 3 آلاف بندقية وبعض الأسلحة البسيطة. لكن هذه القوة النارية كانت عديمة الفائدة دون البارود، وفور الاستيلاء على الأسلحة، واصلت المجموعة الوصول إلى أقرب موقع مع أكبر مخزون من البارود: سجن الباستيل.
الفرنسيون لا يسمون عيدهم الوطني "يوم الباستيل"
من الشائع أن الفرنسيين يطلقون على عيدهم الوطني الذي هو يوم 14 يوليو "يوم الباستيل". لكن هذا ليس صحيحاً. إذ يسمِّي الفرنسيون هذا اليوم "العيد الوطني" La Fête Nationale، ويعتبر واحداً من أهم الأيام في تاريخ فرنسا، وذلك لأنه يمثل مناسبتين تاريخيتين في التاريخ الفرنسي: اقتحام سجن الباستيل في عام 1789 ومهرجان الاتحاد السلمي في 1790. وهو مهرجان عطلة ضخم أقيم في جميع أنحاء فرنسا عام 1790 تكريماً للثورة الفرنسية.
ويُقام في هذا اليوم من كل عام، عرض عسكري، يُعتبر من أقدم العروض العسكرية في العالم، الذي يقام أسفل الشانزليزيه، حيث يبدأ العرض في الصباح بالطبول والأبواق التي تعلن وصول الرئيس الفرنسي وينطلق من قوس النصر إلى ساحة الكونكورد، وتبدأ الطائرات والمروحيات بعرضها العسكري.
والمثير للدهشة أن الاحتفالات بذكرى سقوط الباستيل، تُقام في محطّات الإطفاء الموجودة في كل منطقة، حيث تُقيم معظم محطات الإطفاء حفلات رقص كبيرة للحي بأكمله.
والموقع السابق لسجن الباستيل، يسمى ساحة الباستيل. وهي حالياً موطن لدار أوبرا اسمها Opéra Bastille، كما تم تحويل الخندق الكبير الذي كان خلف السجن إلى مرسى قوارب ترفيهية، وبجانبه مقاه ومطاعم أخرى.