أُثير في الآونة الأخيرة لغطٌ كثير حول مقتل الكولونيل ليتشمان على أيدي أبناء الشيخ ضاري عام 1920، أي في بدايات احتلال بريطانيا للعراق، وكان الاتهام بأن الشيخ وأبناءه قطاع طرق.
فالكولونيل ليتشمان جيرارد من الضباط الإنجليز ذوي الحنكة الذين رافقوا الحملة البريطانية على العراق منذ بداياتها عام 1914، في الحرب العالمية الأولى التي أدت لاحتلال العراق.
وكان سياسياً ومدير استخبارات في الجيش البريطاني يُحسن اللغة العربية قراءةً وكتابة وخبيراً بأحوال وطبائع العشائر والبلاد، وكان جسوراً وعنوداً وعصبي المزاج، ويتمتع بحيوية عالية ذلك أنه كان في الأربعينات من عمره.
والكولونيل ليتشمان هو الذي أجبر القوات العثمانية على مغادرة ولاية الموصل بعد التوقيع على الهدنة (1-2) نوفمبر/تشرين الثاني 1918، وأنزل العلم العثماني من على أبنية الموصل ووضعه في جيبه، ورفع العلم البريطاني مكانه وتولى زمام الأمور الإدارية والسياسية للموصل، ومدينة الموصل آنذاك هي عاصمة ولاية الموصل العثمانية التي تمتد إلى جنوب تركيا الحالية.
وكان للعملية أثر مؤلم على سكان الموصل والعشائر العربية والكردية والتركمانية التي تسكن الولاية والتي اجتاحت مناطقها انتفاضات وثورات في معظم أنحاء الولاية ومنها مناطق زاخو والتي قامت بها عشيرة الگويان وقُتل فيها الكابتن بيرسن في 4 أبريل/نيسان 1919، وشاركت فيها عشائر السندي والگلي القثورة، وامتدت الثورة إلى العمادية، حيث تم فيها إبادة أحد ألوية قوات الاحتلال، وامتدت الثورة إلى معظم مناطق كردستان خصوصاً عقرة والزيبار، ولذلك حديث آخر قبل أن تمتد إلى تلعفر.
تركت الأحداث أثراً سيئاً على نفسية الكولونيل ليتشمان الذي أخذ يتعامل مع العشائر بقسوة وغلظة بعد أن فقد كثيراً من خيرة ضباطه وجنوده حتى أنه كاد أن يُقتل في أغسطس/آب 1919، عندما ذهب إلى منطقة بامرني (الآن هي شمال مدينة دهوك حوالي 40 كم)، ليشرف بنفسه على الحركات الحربية ضد الثورة النقشبندية التي قامت هناك.
تم نقل الكولونيل ليتشمان إلى منطقة الدليم (الأنبار حالياً) ولم يكن الوضع فيها أحسن حالاً من كردستان، فكانت الثورة في دير الزور، ثم امتدت الثورة إلى الرميثة في 30 يونيو/حزيران 1920، لتمتد بعد ذلك إلى الفرات الأوسط، ومن ثم إلى المناطق الجنوبية.
وكانت أكثر المناطق سخونة هي منطقة الشيخ ضاري الواقعة بين بغداد والفلوجة.
فمَن هو الشيخ ضاري؟
هو ضاري بن ظاهر بن محمود بن ظاهر بن حمام بن سليمان، رئيس قبيلة زوبع الساكنة بين بغداد والفلوجة، والتي هي إحدى فروع قبيلة (طي) القحطانية، وليس قاطع طريق مجهول النسب، وكان هو وعشيرته المحرضين الأساسيين على الثورة في منطقتهم ضد الاحتلال الإنجليزي لتنتهي بمقتل حاكم منطقة الدليم السياسي (الكولونيل ليتشمان ) في يوم 12 أغسطس/آب 1930.
يقول الشيخ محمد المهدي البصير في (ص250-251) في كتابه "تاريخ القضية العراقية"، إن الكولونيل ليتشمان استدعى الشيخ ضاري إلى مقابلته في (خان النقطة) الواقع بين بغداد والفلوجة، فذهب الشيخ مع اثنين من أبنائه وثلة من رجال قبيلته، ولم يكن الكولونيل ليتشمان حاضراً، فجلس الشيخ ضاري عند مدخل الخان الذي تحتله قوة من الشرطة.
حضر الكولونيل ومعه خادمه وسائق سيارته بعد حوالي ساعتين، وبدأ ليتشمان الحديث مع الشيخ ضاري بغضب وشدة، فألقى على عاتقه الإخلال بالأمن ونسب إليه وإلى رجال قبيلته وقوع أعمال سلب ونهب، وكانت كلماته جارحة جداً، فغضب الشيخ ضاري واستأذنه بالخروج، غير أنه عاد بعد فترة قصيرة فأستأذن الخفير بالدخول على الحاكم فأذن له ومعه ابنه خميس ورجل آخر، ثم أطلق خميس عدة طلقات نارية أردت الكولونيل ثم أجهز عليه الشيخ بسيفه.
إن إهانة الناس والعشائر خصوصاً شيوخها من الأمور التي لا تقبلها العقلية العشائرية وتعتبرها من الأمور الجسام، وقد استمرت الثورة إلى أواخر شهر سبتمبر/أيلول من عام 1920.
رصدت الحكومة البريطانية مبلغاً من المال لمن يأتي بالشيخ ضاري حياً أو ميتاً، حيث إن العفو العام الذي أصدره المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس في 30 مايو/أيار سنة 1921، استثنى الشيخ ضاري وآخرين من هذا العفو.
تم القبض على الشيخ ضاري بعد سنوات بواسطة مكيدة نفذها سائق سيارة يتنقل في البادية بمعية رجل آخر، وكان الشيخ وحده دون حراسة، وسلماه للسلطة في 3 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1927، إلى قائمقامية سنجار ومنها أرسل مخفوراً إلى الموصل ومنها سُفر إلى بغداد.
تمت محاكمة الشيخ ضاري أمام محكمة الجزاء الكبرى التي كان يرأسها حاكم إنجليزي وحكم عليه بالإعدام شنقاً في 30 يناير/كانون الثاني سنة 1928، ثم استبدل الحكم بالسجن المؤبد، فقد كان يبدو عليه المرض والوهن، ولم تمهله الأيام، إذ عاجلته المنية في الليلة الأولى من شهر فبراير/شباط، أي بعد الحكم عليه بيومين، وتم دفنه في مقبرة الشيخ معروف الكرخي، وكانت جنازته مهيبة حيث خرج الألوف فيها وكانت أشبه بمظاهرة صاخبة.
هذه بعض الأحداث التي مرّ بها العراق آنذاك وما أشبه اليوم بالبارحة، فقطاع الطرق واللصوص لا يقاومون الغزاة ولا يمشون مع أهوائهم تحت ذرائع واهية، وكان الشيخ ضاري أحد هؤلاء الشيوخ الذين ثاروا عندما تعرضت كرامتهم للإهانة، وهو من الذين كتبوا تاريخهم بعزة وشرف.
- معظم معلومات المقال من كتاب "الضحايا الثلاث" للمرحوم عبدالمنعم الغلامي الذي نشره عام 1955 في الموصل
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.