احتفل المسلمون في البوسنة منذ أيّام بالذكرى 510 لدخولهم الإسلام، واستمرّ هذا المهرجان الاحتفالي عدّة أيّام. وفي الوقت نفسه كانت تجري مراسم ختم القرآن الكريم في باحة المسجد الوحيد في العاصمة البلغارية صوفيا، بعد توقُّفٍ دام 70 عاماً عن هذه العادة. فماذا تعرف عن دخول الإسلام أوروبا؟
في هذا التقرير نأخذك في جولة عبر أوروبا لتعرف متى دخل الإسلام تلك الدول الأوروبية، وما هي التقلبات التي مرّ بها هناك.
دخول الإسلام أوروبا.. البداية من إسبانيا
بدأت فكرة فتح إسبانيا، والمعروفة في التاريخ الإسلامي بالأندلس، في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان. فقد فكّر عقبة بن نافع عام 682م في اجتياز المضيق إلى إسبانيا، لكنّ التنفيذ الفعليّ للفتح كان بعد حوالي 30 عاماً، في زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، بعد أن نُوقشت خطة الفتح بينه وبين قائده في منطقة شمال إفريقيا موسى بن نصير.
وفي عام 710-711، أرسل موسى بن نصير القائد الأمازيغي الشاب طارق بن زياد بجيشٍ قوامه 7 آلاف مقاتل إلى شبه جزيرة أيبيريا (الأندلس). استطاع طارق بن زياد اجتياز المضيق وملاقاة ملك القوط لذريق (أو رودريك) وقتله.
والقوطيون هم قبائل ذات أصول جرمانية تعود جذورها إلى مناطق شرق أوروبا. انتصر عليهم طارق بن زياد في معركة وادي برباط، وبعد الانتصار أصبحت الأندلس تحت الحكم الأموي الإسلامي، وبذلك بدأ انتشار الإسلام في الأندلس.
أكمل طارق بن زياد بعد ذلك بعامٍ مسيرته في البلاد، ففتح قرطبة وطليطلة، ثم فتح شذونة وإلبيرة وغيرها من المدن الإسبانية؛ ثم جاء موسى بن نصير بنفسه إلى الأندلس في العام ذاته، ففتح مدناً كثيرة بالحرب وبالسلم، مثل قرمونة وإشبيلية وماردة، وامتدت فتوحاته إلى برشلونة شرقاً وأربونا في الجوف وقادش في الجنوب، و جليقية في الشمال الغربي.
انتشر الإسلام في الأندلس بعد دخول المسلمين، وأصبحت في عهد خلافة الأمويين من أكثر دول العالم علماً ومدنيةً وتحضراً، واستقطبت الباحثين عن العلوم والمعرفة من مختلف أرجاء أوروبا والعالم، وكانت العاصمة قرطبة لا تضاهيها في مدن العالم سوى بغداد، عاصمة العباسيين في المشرق.
ورغم ما يثار دائماً حول دخول الإسلام في الأندلس، هل كان بحدّ السيف أم بالدعوة، فإنّ الحقائق تقول إنّ أهل الأندلس كان يحكمهم القوط، النازحون من شرق أوروبا، كما كان أهل البلاد الأصليون على غير معتقدات حكّامهم، وقد انتشر الإسلام انتشاراً كبيراً بعد ذلك.
فرنسا.. البلاد المستعصية على المسلمين
استمر المسلمون في طريقهم داخل أوروبا، بعد أن أسسوا دولتهم في الأندلس، حتى جاء عهد السمح بن مالك الخولاني، والي الأندلس في عهد عمر بن عبد العزيز عام 719م، وكانت حركة الفتوح قد نشطت عبر جبال ألبرت (البرانس)، التي تقع جنوب غرب أوروبا، بين فرنسا في الشمال وإسبانيا جنوباً، وتمثل الحدود الطبيعية بينهما.
توجَّه السمح إلى جنوب فرنسا وسار بجيشٍ كبير عبر منطقة سرقسطة، واجتاز جبال البرانس إلى أن أصبح أمام أربونة الفرنسية، عاصمة ولاية سبتمانية، فحاصرها إلى أن سقطت بقبضته، ثمّ توغَّل من هذه المدينة إلى داخل فرنسا حتى وصل إلى مدينة طولوشة (تولوز) الفرنسية، وحاول السيطرة عليها فلم يفلح.
ودارت في عام 721م رحى معركةٍ حامية بالقرب من تولوز بين المسلمين بقيادة السمح والفرنسيين بقيادة دوق أكيتانية، انهزم فيها المسلمون، واستشهد فيها السمح، وقد استطاع مُساعِده القائد عبدالرحمن الغافقي أن يقود جيش المسلمين ويرجع به إلى أربونة، ومن ثم إلى الأندلس، وعلى إثر هذه الهزيمة تشجّعت بعض المناطق الفرنسية لخلع طاعة العرب، لكن كان الحكام المسلمون لا يزالون متمكنين من أربونة، وقد جاءتهم نجدات من الأندلس، فثبتوا في المناطق الأخرى التي سيطر عليها السمح في فرنسا.
وفي عام 725م، تابع أمير الأندلس الجديد عنبسة بن سحيم الكلبيّ محاولات المسلمين للزحف شرقاً باتجاه نهر الرون، حتى بلغ مدينة آرل الفرنسية، وفتح مقاطعة بروفانس الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية من فرنسا، وهو ما أتاح له حرية التحرك شمالاً داخل فرنسا، ففتح مدينة أفينيون، واستمر في التقدم شرقاً، حتى فتح مدينة لوذون (ليون)، ثم انحرف باتجاه مدينة أوتون غرباً، ثم بعث سرايا جيشه التي وصلت إلى لوكسيل، وفيين، وماكون، وشالون، وبون، وديجون، وغيرها، من مدن وسط شرقي فرنسا.
يشير بعض المؤرخين إلى أن عنبسة تغلغل شمالاً حتى وصل إلى مدينة سينس، الواقعة على مسافة 30 ميلاً شرقي باريس، وهي أبعد مسافة وصل إليها قائدٌ مسلم داخل أوروبا. ووفقاً لما ذكره الأمير شكيب أرسلان في كتابه "تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط" فقد اضطر عنبسة أن ينسحب بقواته إلى قواعده في الجنوب، بسبب فصل الشتاء القارس، وفي طريقه للعودة دارت معركة طاحنة بين المسلمين والفرنسيين في منطقة غير معروفة حتى الآن، انتهت بهزيمة للمسلمين واستشهاد عنبسة، فاضطر باقي الجيش للعودة إلى قواعدهم في سبتمانيا.
تولى القائد والأمير الجديد عبدالرحمن بن عبدالله الغافقي القيادة من بعده، وحاول أن يستكمل مسيرة عنبسة، واستطاع أن يجتاح بجيوشه وادي الرون إلى عمق فرنسا حتى نهر اللوار، إلا أنه هُزِمَ وسقط شهيداً في معركة بلاط الشهداء أمام شارل مارتيل في عام 732م، لكنّ المسلمين كانوا قد اكتسحوا النصف الجنوبي من فرنسا كله.
كانت الدولة الإسلامية في أوروبا في تلك الفترة تضمّ دولة البرتغال، وقسماً كبيراً من جنوب فرنسا، بما في ذلك مدن أبرونة وقرقشونة ونيمش. وفي الأندلس اعتنق الكثير من أهل البلاد الإسلام، كما بقي من أراد على المسيحية أو اليهوديّة.
محاكم التفتيش.. نهاية الإسلام في إسبانيا وفرنسا
بدأ السقوط الكبير في الأندلس، والذي قضى على الحكم الإسلامي فيها بعدما اتحدت مملكة ليون (جنوب فرنسا) وقشتالة (وسط إسبانيا) مع مملكة أراجون (شرق إسبانيا)، واستطاع الملك فرناندو والملكة إيزابيلا بعد اتحادهما بالزواج استرجاع المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى، في حروبٍ شنّوها سموها بـ"حروب الاسترداد"، إلى أن سقطت في أيديهم مدينة غرناطة، آخر قواعد المسلمين في الأندلس عام 1492، بتوقيع آخر ملوكها أبي عبدالله الصغير معاهدة استسلام مع الملكين، وانتهى بذلك الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية، المعروفة بالأندلس.
وسرعان ما بدأت محاكم التفتيش الإسبانية في التعذيب والقتل والنفي والتنكيل بالمسلمين، وهنا بدأت معاناة المسلمين، بل واليهود أيضاً من أهل الأندلس. باشرت عملية القضاء على المسلمين من قبل المسيحية المنتصرة، وبدأ تنصير المسلمين يحدث بشكلٍ ممنهج، فقد حُرِّمَ الإسلام على المسلمين، وفرض عليهم تركه، كما حُرِّمَ عليهم استخدام اللغة العربية وكل ما هو عربيّ، وكان خيارهم إما الهجرة لبلاد شمال إفريقيا والنجاة بدينهم، أو بالتنصير الكامل واعتناق المسيحية.
وعلى مدار عقدٍ ونصف العقد من الزمان ظلت المملكة الإسبانية الجديدة تُطارد المسلمين وتعذبهم، وكان البابوات يصدرون قراراتهم الصارمة ضد المسلمين أو من بقي على دين الإسلام ولو في بيته، فكانوا يُعذبون ويقتلون أو يطردون، إلى أن أصبحت إسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا خالية تماماً من المسلمين.
جزيرة صقلّية.. على غرار الأندلس
تمَّ الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية، التابعة لإيطاليا، على يد الأغالبة، وهي سلالة عربية حكمت في إفريقيا "شرق الجزائر وتونس وغرب ليبيا"، وكانوا تابعين للدولة العباسية ثم استقلوا عنها لاحقاً.
استطاع الأمير زيادة الله الأغلبي ضم جزيرة صقلية لملكه عام 827م، وكان قائد هذا النصر الفقيه أسد بن الفرات. أقام العرب خلال حكمهم للجزيرة، والذي دام نحو قرنين ونصف القرن من الزمن، حضارة مزدهرة في جميع النواحي كما الأندلس، وانتشر الإسلام في أغلب هذه الجزيرة.
هناك تشابه كبير بين مجرى أحداث صقلية والأندلس، من حيث الانقسامات الداخلية بين المسلمين في الحكم، التي أدت إلى نهاية عصر المسلمين في تلك البلاد، حيث سهلت الخلافات الداخلية الطريق أمام النورمان، الذين استولوا على صقلية، بعد أن دخلوا في حِلْفٍ مع البابوية في روما ضد الإمبراطوريتين الألمانية والبيزنطية.
أجازت لهم البابوية انتزاع جنوب إيطاليا من البيزنطيين، ومنحتهم الحق في صقلية إن انتزعوها من المسلمين، وانقضُّوا على جزيرة صقلية عام 1072م، ولكن لم يكتمل أخذهم للجزيرة إلا عام 1091م بقيادة روجر الأول.
وعلى الرغم من دخول النورمان المسيحيين إلى الجزيرة واستيلائهم عليها، وتخريب قرى المسلمين، فقد نعم المسلمون في ظل حُكّامها الأوائل ببعض الحرية في العبادات وإقامة الشعائر، بل ساهموا في تطوير شؤون البلاد، إلا أن هجرة اللمبارد الطليان والفرنسيين إلى الجزيرة، وضغوطات البابا في روما لاتخاذ قرار ضد المسلمين، قد حوّلت حياة المسلمين إلى جحيم.
فبدأ الملك روجر الثاني في اتخاذ سياسة تنصير المسلمين وسحب ممتلكاتهم، وجاء من بعده وليام الأول، الذي أصدر قرارات بمنع أي مظهر من مظاهر الإسلام داخل مملكته، كما سمح للبارونات النورمان واللمبارد، بأن يقوموا بمذابح بشعة وجرائم إبادة جماعية بحق المسلمين الذين لم يتنصروا، إلى أن اختفى الإسلام تماماً عن هذه البلاد.
الدولة العثمانية.. دخول الإسلام إلى أوروبا وبقاؤه طويلاً
كان للدولة العثمانية أيضاً دورها في نشر الإسلام بالدول التي تقوم بفتحها، وتحديداً في جنوب شرق أوروبا. فكانت تهتم بإظهار جوانب الإسلام في هذه الدول، من خلاء بناء المساجد والأماكن التاريخية الإسلامية التي ما زالت باقية حتى اليوم في أوروبا.
فقد بدأت توسعات الدولة العثمانية في أوروبا منذ عهد مؤسسها عثمان الأول بن أرطغرل، الذي بدأ يغزو أراضي الدولة البيزنطية في منطقة غرب الأناضول، واستطاع عبور مضيق الدردنيل باتجاه جنوب شرق أوروبا.
وفي فترة حكم ابنه السلطان أورخان بن عثمان عبر العثمانيون إلى أوروبا الشرقية عام 1353م لأول مرة، وقد كانت أوَّل سلطة إسلامية تستطيع أن تتخذَ لنفسها مكاناً في بلاد البلقان (ألبانيا، البوسنة، صربيا، بلغاريا، سلوفينيا، كرواتيا، الجبل الأسود مقدونيا، رومانيا، اليونان) ومنذُ ذلك الحين بدأت فتوحات الدولة العثمانية في أوروبا تتزايد.
فاستطاع مراد الأول فتح العديد من مدن شرق أوروبا، ومن أبرزها صوفيا، عاصمة بلغاريا، عام 1383م، وجاء بعد ذلك فتح القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية على يد السلطان محمد الفاتح عام 1453م، وغيّر اسمها لتصبح "إسلامبول"، بمعنى عاصمة الإسلام، كما تمكّن من ضمّ بلاد الصرب وبلاد المورة التي تقع جنوب اليونان، وبلاد البوسنة وبلاد شمال نهر الدانوب وألبانيا.
تواصلت التوسعات العثمانية في أوروبا في عهدِ بايزيد الثاني، الذي غزا بولندا، وحارب دولة البندقية الإيطالية، إلى أن جاء حفيده السلطان سليمان القانوني، الذي استطاع ضمّ مدينة بلغراد عام 1521م، واستولى على جزيرة رودس في العام التالي، وكذلك تمكن من ضمّ مملكة المجر وأجزاء من النمسا إلى سلطان دولته، واستطاع العثمانيون كذلك فتح بلغاريا، ومقدونيا، واليونان، وصربيا، والجبل الأسود، والبوسنة والهرسك، وكرواتيا، وكوسوفو، وأوكرانيا وبولندا.
وقد كانت هذه الفترة هي الفترة الذهبية لتوسعات الدولة العثمانية في أوروبا، فبعد ذلك توقفت التوسعات، وبدأت الدولة العثمانية تُعاني من مراحل الضعف والتدهور، ولم تستطع أن تحافظ على المناطق التي كانت تحت سلطانها في أوروبا منذ القرن التاسع عشر إلى أن انهارت عام 1923م.
وعبر كلّ هذه المراحل بقيت بعض هذه الدول في إطار الإسلام واعتنقته مثل بعض دول شرق أوروبا، البوسنة وألبانيا، وفي بعض الدول أصبح هناك مسلمون، وإن لم تكن الدولة ذات أغلبية مسلمة مثل بلغاريا، وفي البعض الآخر لم يعد هناك مسلمون يشكلون حجماً، بسبب العمليّات الممنهجة للقضاء على الإسلام في أوروبا حينها.