(1)
الرابع والعشرين من يوليو/تموز سنة 1920، أي قبل مئة عام بالضبط، تمكن الجيش الاستعماري الفرنسي
من هزيمة قوات الثورة العربية بقيادة يوسف العظمة في "معركة ميسلون". وفي اليوم التالي دخل العسكر الفرنسي بقيادة الجنرال ماريانو غوابيه (Goybet) إلى دمشق للمرة الأولى. أما الجنرال هنري جوزيف جورو (Gouraud) فلم يدخل دمشق إلا في اليوم التالي، أي يوم 26 يوليو/تموز 1920.
وبينما فر الأمير فيصل إلى فلسطين ليكون تحت الحماية البريطانية اتجه الجنرالان جورو وغوابيه إلى المسجد الأموي الكبير، حيث يوجد قبر صلاح الدين الأيوبي بالقرب منه. وداخل الضريح حدث شيء ما أغضب الحضور من المسلمين. وبعد الزيارة شاع القول بأن جورو لمس القبر بحذائه وقال: "ها قد عدنا يا صلاح الدين".
ومع الوقت انتشرت الجملة بيننا أكثر واكتسبت بعداً رمزياً معبراً عن حالنا وحالهم، ولكنهم، أي الفرنسيين، لم يؤكدوا صدورها عن جورو، بل تجاهلوا الأمر في كتاباتهم التاريخية.
ثم زادت شهرة الجملة واكتسبت مصداقية أكبر بعد أن ذكرها عبدالناصر في خطبة 20 مارس/آذار 1958. أي بعد عودته من توقيع اتفاق الوحدة مع سوريا. وفي هذه الخطبة تحدث عبدالناصر طويلاً عن صراع العرب مع المستعمر الغربي وقال عن حادثة جورو: "لم تكن مصادفة أبداً حينما وصل القائد الفرنسي إلى دمشق، الجنرال "جورو"، ووصل إلى قبر صلاح الدين، وقال له: ها قد عدنا يا صلاح الدين!".
(2)
ومن يطالع تاريخ الجنرال جورو سيعرف أن الرجل كان صليبياً حتى النخاع، وأنه كان يرى نفسه كجندي مسيحي يعيش في سياق التقاليد الصليبية الفرنسية. وكان هذا معروفاً بين الفرنسيين آنذاك.
وفي هذا السياق يوجد كتاب أصدره جنرال فرنسي اسمه جورج كاترو (Catroux) سنة 1958 بعنوان "مهمتان في الشرق الأوسط 1919 – 1922". وكان الرجل في جيش جورو الذي دخل دمشق، أي أنه كان شاهداً على الأحداث.
وفي هذا الكتاب تحدث كاترو عن الجنرال جورو ثلاث مرات (ص 63، 107، 125) وصفه بأنه يعيش كمسيحي وكجندي في تراث العصر الرومانتيكي، ويذكر أن جورو وصف دمشق بأنها القلعة التي لم تُقهر، وبأنها تحدت أجداده الفرنجة، وأنها مكان دفن المعظم صلاح الدين الذي هزم لوزينيان في حطين.
ورغم أنه لا يتناول جملة "ها قد عدنا يا صلاح الدين". ولكنها فيما يبدو لي لا تتناقض مع وصفه لشخصية الجنرال جورو.
ومع الوقت غزت المقولة الكتب باللغات الأجنبية التي تدور حول تاريخ التصادم بين العرب والفرنجة خاصة، وبين الشرق والغرب عامة. على سبيل المثال مؤخراً اطلعت على المقولة بنصها في كتاب "صدام الأصوليات" لطارق علي، وفي كتاب "صلاح الدين" لآن ماري إيدي، وقد جعلت تلك المقولة أول جملة في مدخل الكتاب. وعنها نقل الجملة جيمس بار في كتابه "خط في الرمال". وكانت الجملة تأتي في أغلب هذه الكتب بصيغة احتمالية أي أنه ربما قالها.
وفقط تمكنت آن ماري إيدي من تقديم أول دليل فرنسي على ذكر هذه الجملة. وهو دليل يعود لسنة 1952 أي قبل خطاب عبدالناصر بست سنوات. ففي هذه السنة صدر للمندوب السامي الفرنسي السابق في الشام غابرييل بوا (Puaux) كتاب بعنوان: "سنتان في الشام". وفي الكتاب يتحدث (بوا) عن الفترة من 1938 حتى 1940 التي قضاها في الشام كمندوب سامي فرنسي. وعندما جاء إلى ذكر الجنرال جورو قال إن جورو ما أن دخل الضريح حتى هتف: (Saladin, nous voilà) أي: "صلاح الدين، ها نحن ذا".
ولأن المؤلف لم يكن شاهد عيان فإننا لا نعرف ما مصدره. هل اعتمد في ذلك على وثيقة فرنسية ما أم على الأخبار الشائعة والمنتشرة في التاريخ الشعبي للحادثة؟
(3)
وكان علينا أن ننتظر حتى سنة 1970 كي نجد أول كلام موثق، من ناحية لأنه جاء من المؤرخ الفرنسي البارز لويس جاروس (Garros) الذي كان جندياً في جيش الجنرال جورو، أي أنه شاهد عيان من الدرجة الأولى.
ففي يوم 27 يوليو/تموز سنة 1970 نشر لويس جاروس مقالاً في جريدة اللوموند عن الذكرى الخمسين لاحتلال دمشق. وفي المقال يحكي الأحداث من موقعه كمؤرخ وشاهد عيان، ومن هنا تأتي أهمية ما كتب.
وفي هذا المقال قال جروس وبوضوح إن "جنرالاً فرنسياً" دخل المسجد الأموي وقال: (Saladin, nous voici) أي: "صلاح الدين، ها نحن ذا". ولم يحدد إن كان هذا الجنرال جورو أم غوابيه. لكن المهم هنا أن هذا المؤرخ الشهير، شاهد العيان، أكد أن الجملة قيلت بالفعل، لكنه لم ينسبها صراحة للجنرال جورو. زد على ذلك أنه لم يشر إلى جزئية الدخول إلى الضريح، ولا إلى نكز الجنرال للقبر بقدمه، وهي جزئية لم يذكرها عبدالناصر أيضاً.
وفي سنة 2016 ذكر جيمس بار في مقال له أن كاتبة صحفية فرنسية تدعى ماريا شابيرا (Shapira) كانت ترافق الجيش الفرنسي الذي احتل دمشق، لتغطي الأحداث للأسبوعية الفرنسية (L'Illustration) أي أنها شاهدة عيان أيضاً ولكن كانت كتابتها تخضع للرقابة العسكرية بالطبع.
وقد نشرت شابيرا في هذه المجلة المصورة مقالتين عن احتلال دمشق والأحداث التي رافقته. وقد نشرت المقالة الأولى في 21 أغسطس/آب 1920، وفيها وصفت "معركة ميسلون" ودخول الجنرال غوابيه إلى دمشق قبل جورو بيوم. وتشير المقالة أيضاً إلى أن شيئاً قيل تسبب في انزعاج الشخصيات المسلمة في دمشق، ولكنها – ربما بسبب الرقابة – لا تحدد ماهية هذا الشيء.
أما المقالة الثانية فنشرت في منتصف سبتمبر/أيلول 1920 وكانت بعنوان: "الجنرال جورو في دمشق". وفيها تقول إن الجنرال قام في شهر أغسطس/آب بزيارة ثانية إلى المسجد الأموي، وأنه عندما وصل قبالة ضريح صلاح الدين وقف وقال:
"Nous n'entrons point dans le mausolée que nous avons visité à notre premier séjour".
أي: "لن ندخل إلى الضريح، الذي دخلناه في زيارتنا الأولى".
وقالت شابيرا إن جورو فضل عوضاً عن ذلك الجلوس في ظل شجرة ليمون خارج الضريح، حيث تأمل الساعة التي قدمها القيصر الألماني خلال زيارته لدمشق في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1898، والتي تم تثبيتها خارج الضريح. وبعد ذلك دخل جورو إلى المسجد الأموي حيث استقبلته بعض الشخصيات الإسلامية. ووفقاً لشابيرا فإن الجنرال جورو تحدث مع هذه الشخصيات بلهجة تصالحية، وأكد حياده الديني ورغبته في الحفاظ على الاستقلال العربي. ثم غادر المسجد.
ولا تقول لنا الصحفية الفرنسية لماذا فعل جورو هذا؟ لكن جملته أمام الضريح تدل على أنه زاره مرة سابقة (أي مع غوابيه)، وأنه حدث في تلك الزيارة شيء مثير للجدل أجبره على المجيء مرة ثانية، وعلى القول بأنه لن يدخل الضريح مرة أخرى، وعلى استخدام لهجة تصالحية في الحديث مع الشخصيات الإسلامية التي أعطاها بعض الوعود البلاغية كعادة الغربيين معنا.
ولو كان غوابيه هو الذي تسبب في إثارة الجدل بهذه الجملة القبيحة لجاء واعتذر من القيادات الدينية للمسجد الأموي. وهذا كله يؤكد أن الجملة سيئة السمعة قد قيلت بالفعل، وأن جورو هو من قالها، وأن هذه الضجة والشهرة لم تكن من فراغ.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.