في التاسعة إلا الربع من صباح كل يوم يدخل مارك روتتي مقر رئاسة الوزراء في أمستردام راكباً دراجته الهوائية وخلفه حارس واحد يركب أخرى، في روتين يومي لا يكسره الرجل المرتدي بزته الأنيقة والرخيصة، وعلى الطرف الآخر من بحر الشمال تجد المشهد يتطابق مع رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، الذي يشاهَد على دراجته الهوائية خارجاً من اجتماع وزاري أو داخل إلى 10 داوننغ ستريت، في مشهد يدلل على طريقة تفكير هؤلاء القادة الكبار رغم عظم وتقدم دولهم، والنماذج في ذلك كثيرة، على المستوى السياسي أو العلمي، لكننا لسنا في معرض سرد قصص هؤلاء، ولكن على سبيل المثال عرضنا نماذج لطريقة تفكير هؤلاء، التي شابهت طريقة تفكير عظماء أمتنا وهم في حاضرنا اليوم قلة.
وما يصدق على القادة الغرب يصدق على علمائه وقادة فكره، ويصدق كذلك على طريقة تفكيرهم ومنظومة تفكير الغرب أجمع، فما يميز الغرب بساطته وعمقه في نفس الوقت. فلو اطلعت إلى مناهج تعليم الصغار تجد أنها مبنية بالأساس على التربية النقدية والتفكير الإبداعي بعيداً عن المظاهر، فيكفي الطفل أو الطالب أن يعبر عن نفسه، وهم في ذلك بارعون، ولا يهم إن كانت الكلمات منمقة أو مسجوعة أو جذلة، فحتى هذه المفردات ليست دارجة في قواميس التربية في الغرب الذي يهتم بالمضمون أكثر من الشكل، وإن كانوا أخرجوا للعالم روائع من الأدب والشعر والقصص، لكن حتى مع تلك الروائع ستجد أن الفكرة هي السيد لا اللغة.
المظاهر بين الحاضر والماضي
لقد كان العرب في مجالسهم دوماً في ذكر الفخر والتباهي والمظاهر والشكليات، التباهي بالقبيلة والعشيرة والمال والعبيد والملبس، وكتبوا في كل قصائد حتى زادوا فألفوا آلاف أبيات الشعر، وتسابقوا في ذلك وعلقوها على أستار الكعبة تفاخراً وتباهياً. وإمعاناً في انغماس العرب في المظاهر، كان أحدهم يطيل الثوب حتى يكاد يوقعه، ليظهر ثراءه وبذلك يفتخر، فكان المظهر هو همّ أمتنا في الجاهلية. وبعد الإسلام تهذب الجيل الأول، حتى إذا ما فُتحت الدنيا عليهم، اتخذوا القصور وتباهوا بالخدم والجواري والزينة، وتفننوا في المواكب وصرفوا عليها الذهب، وكان الأمير يهب الذهب الكثير لمن يمدحه، وفقراء المسلمين جوعى، وكلما زاد الشاعر في نظم الأبيات وأجزل في المعاني، زاد عطاء الملوك.
ولعل من شواهد تمسك العرب بالمظاهر دون المضامين نبوغهم في اللغة وتركهم الفلسفة والطب والهندسة والفلك، حتى وقت زمن ليس بالبعيد في عصر الإسلام، فلم تشهد الحضارة العربية الإسلامية ازدهاراً إلا مع بداية حركة الترجمة في العصر الأموي في عهد الأمير الأموي خالد بن يزيد وتتابع بعدها بناء حضارة المسلمين، فدخول الأمم في الإسلام فتح الباب أمام العلوم التطبيقية للولوج بين العرب.
ولا تزال آفة التمسك بالمظاهر ضاربة في مجتمعاتنا العربية، وتنوعت بين التمسك بالمظاهر المادية في إقامة الأعراس في أفخم الفنادق وشراء أغلى السيارات بالقروض، والسفر للخارج من أجل المصيف بالديْن، إلى التدين المظهري المتمسك بشكل الدين دون جوهره، فتُألف الكتب عن مقدار تقصير الثوب، أو مقدار طول اللحية، وعن ألوان أثواب النساء وأفضلها، وكيفية الجلوس في التشهد الأخير وهيئته، ويتقاتل الناس على الهيئات في وقت تضيع فيه الفرائض والواجبات.
حتى المثقفين..
ومما يسوء المرء أن آفة حب المظاهر والتمسك بالسطحية ضربت قواعد المثقفين، فتنطعوا وتشددوا وتمسكوا بصغائر الأمور وأضاعوا عظائمها، ولعمري إن هذا لمن أعراض تلاشي عقلية هؤلاء، فتجد أحدهم يترك مضمون الكتاب ليقف على موضع الهمزة في كلمة ما، واختلاف مجامع اللغة في مصر والعراق والشام عليها، وندخل في جدالات يقحم فيها الكتاب والمثقفون وهي من أمور الاختصاص، والعجيب أن أهل الاختصاص أنفسهم رضوا بأن تكسر القواعد وينصب المرفوع من أجل "الضرورة الشعرية"، ما يعني أنهم، ويا للعجب يرضون بتحطيم قواعدهم من أجل معنى أسمى، هو إيصال الفكرة، أوليس من الأولى أن نترك الشكل، إن لم يخل الخلل العظيم بقواعد اللغة لكي يوصل الكاتب فكرته.
لقد نشأت اللغة لكي يوصل الإنسان فكرته، فالأصل هي الفكرة، الأصل هو المضمون والمعنى والمغزى، وهنا أنا لا أنكر اللغة وقواعدها وأساتذتها وحرصي على حفظها كحرص أعلم الأرض بها، فحفظها عندي، كما قال البعض، من حفظ الدين، لكن حديثي ومقصدي في المظاهر التي باتت تحكمنا وتحجمنا ومن ثم تضيع فكرتنا وغايتها، فكما أن هناك متنطعين في الدين فثمة متنطعون في اللغة يلفتون الناس عن الفكرة ليأخذوهم إلى سفاسف فتضيع الفكرة ونضل الطريق إلى المستقبل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.