أثار فتح القسطنطينية في 29 مايو/أيار 1453 على يد محمد الفاتح موجة سخط ضخمة وكبيرة في كل أرجاء أوروبا. خافت الدول الأوروبيّة من زحف العثمانيين عليها، وخاف البابا تحديداً أن يفكر محمد الفاتح بفتح روما كما فتح القسطنطينية، كما خافت أهمّ دولة أوروبية في ذلك الزمن: دولة البندقية. وبسبب كل هذا الخوف بدأ الإعداد للحرب والصراع، ومن هناك قرر الفاتح فتح إيطاليا وكانت معركة أوترانتو.
البداية.. حلفٌ أوروبيّ للإطاحة بالعثمانيين
يحكي لنا المؤرّخ اللبناني محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ العثمانيين" عن الحالة السياسية في الأناضول في تلك الفترة، فقد كانت الدولة العثمانية شابّة في بداية انطلاقتها نحو أوروبا بعد فتح القسطنطينيّة، لكنّ هذا الفتح جاء بالضرر على كيانين سياسيين مهمّين في المنطقة.
الأوّل: دولة الآق قوينلو في الأناضول وأميرها أوزون حسن، وهي إمارة متاخمة للعثمانيين في الأناضول، كان محمّد الفاتح قد حصر إمارتهم بضمّه لإمارتي طرابزون وإمارة القرمانيين بالأناضول.
والطرف الثاني كان دولة البندقيّة. كانت دولة البندقيّة هي أهمّ دولة أوروبية في ذلك الوقت باعتبارها القطب التجاري العالمي، فهي التي ترتبط بعلاقات قوية جداً مع دولة المماليك في مصر والشام، ومن مصر كانت تحمل التوابل والحرير التي تصل من الهند إلى سواحل أوروبا، وبهذه الطريقة أصبحت أهمّ دولة أوروبية في ذلك الوقت، لها كلمةٌ مسموعة ورأيٌ موزون.
عندما قرر الفاتح فتح القسطنطينية، وقفت البندقية إلى جانب الدولة البيزنطيّة، ليس فقط بسبب الرابطة المسيحية بينهما وإنّما أيضاً لأنّ هذا يهدد مصالحها التجارية في منطقة الأناضول ووسط وشمال آسيا. لكنّ البندقية قدمت اعتذارها في النهاية لمحمد الفاتح بعدما انتصر، اعتذاراً عن دعمها للبيزنطيّين.
لكنّ هذا الاعتذار لم يكن سوى هدنة بين الطرفين، إذ سرعان ما ستتضارب وتختلف مصالحهما بطبيعة الحال.
قادت البندقيّة حِلفها بتحريض دولٍ أوروبيّة (أهمها المجر وبموافقة البابا) على غزو العثمانيين من الغرب، بينما اتفقت أن يفتحها أوزون حسن من الشرق في الأناضول، وستتكفل البندقية بتزويده بالمدافع وبعض الأسلحة التي لا يملكها. وستتكفّل أيضاً بالنسبة الأكبر من التكلفة المالية للحملة. لكنّ الفاتح عرف من خلال جواسيسه بهذه الاتفاقات السرية فتحرّك على الفور.
إفشال المخطط الأوروبي بسرعةٍ ودهاء
تحرك محمد الفاتح أولاً للقاء المجر، في أبريل/نيسان عام 1463، فتغلّب على ملك المجر ماتياس كورفن، بينما توفِّي البابا بيوس الثاني في طريقه للحرب على رأس جيشٍ صليبيّ، فتدخّلت الأقدار لصالح محمد الفاتح هذه المرة، إذ إنّ البابا الجديد انشغل في حروبٍ داخلية. فُتحت الآن الجبهة الداخلية لمحمّد الفاتح لتصفية الحسابات مع أوزون حسن في الأناضول.
قبل ذلك تحرّك الفاتح للسيطرة على مستعمرات البندقية في البحر المتوسط القريبة منه، فسيطر على جزيرة أكريبوس وهي مركز مستعمرات البنادقة في المتوسط، كما سيطر على جزيرتي وتاليا وآتيكا. حاولت البندقية استعادة أكريبوس بالقوة، ولكنّ أسطولها فشل في ذلك، فحاولت إغراء السلطان بالمال لتسليمها لهم فرفض. وعاد لإخماد الشوكة التي تئنّ في ظهره كلّ حين، إمارة الآق قوينلو وقائدها أوزون حسن.
خرج أوزون حسن للقاء العثمانيين، وأرسل للبندقية ولإمبراطور ألمانيا ولملك المجر أنّه تحرك، ويحثهم للتحرك من الغرب، أسرع محمد الفاتح للقاء أوزون حسن، وهزمه هزيمة كبيرة في منطقة أرزنجان (وسط-شمال تركيا الحالية).
عاد الفاتح من هذه المعركة أقوى من ذي قبل، فسيطر على بعض الأراضي المجريّة وبعض ألبانيا وبعض الممتلكات البندقية في شرق أوروبا (الجانب الشرقي من إيطاليا كلها والبندقية تحديداً). فاضطرت البندقية أمام هذه الهزيمة للدخول في هدنة مع الفاتح تنصّ على:
فتح إيطاليا.. محمد الفاتح يهاجم البندقيّة في عقر دارها
كانت إيطاليا في ذلك الزمن ليست إيطاليا الموحدة التي نعرفها، فقد كانت جمهوريات صغيرة نسبياً ولكنها عظيمة الثراء والقوة البحرية. بعدما قضى محمد الفاتح على نفوذ البنادقة في البحر المتوسط، توجّه إلى شبه جزيرة القرم التابعة لروسيا، والتي كانت سواحلها خاضعة لنفوذ الجنويين الإيطاليين (منافسي البندقية).
استطاع الفاتح تأسيس لواءٍ عسكريّ عثمانيّ في المنطقة، واتفق مع خان القرم المغولي أن يكون تابعاً للدولة العثمانية، ويذكر اسمه بعد اسم السلطان العثماني في الخطبة وعلى العملة. اتّجه الفاتح بعد ذلك إلى الجزر اليونانية التي تعتبر حاجزاً طبيعياً بينه وبين إيطاليا، واستطاع فتح جزر: سنتا وسان موري وكيفالونيا، وبهذا مهّد الطريق لأسطوله بفتح إيطاليا نفسها.
صمّم الفاتح على فتح إيطاليا، بل ويقال إنّه قرر فتح روما كما فتح القسطنطينيّة منذ سنواتٍ قليلة. خاف البابا وبدأ في حشد القوات الإيطالية، وحاول رأب الصدع الداخلي بين جمهورياتها، وحثهم على تناسي الخلافات. ففي 11 أغسطس/آب 1480 وصل جيشٌ عثمانيّ بقيادة الوزير أحمد باشا لفتح جنوب إيطاليا، وبالفعل رست السفن في أوترانتو. وسيطروا عليها، وراح العثمانيون يشنون الهجمات على المواقع الداخلية في إيطاليا.
نهاية معركة أوترانتو التي كانت ستغير التاريخ
يمكن لك أنّ تتخيّل شكل أوروبا لو استطاع الفاتح أن يحقق حلمه، بل يمكنك الآن تخيُّل شكل العالم كلّه الذي كان تاريخه سيتغيّر تماماً لو وصلت جحافل العثمانيين إلى وسط إيطاليا، إلى مركز المسيحية في العالم: روما.
لكنّ هذا الأمر لم يتحقّق، فبعد السيطرة على أوترانتو انسحب القائد العثماني إلى ساحل ألبانيا، تاركاً حامية عسكرية في قلعة أوترانتو مكونة من 1300 جندي، على أمل العودة بعد انتهاء فصل الشتاء لاستكمال السيطرة على إيطاليا.
لكنّ هذا لم يحدث أبداً، فقد انتهى الشتاء وفي بداية الصيف توفي محمد الفاتح في 3 مايو/أيار 1481، واندلعت حربٌ أهليّة بين ابنيه: بايزيد الثاني، وجمّ سُلطان للصراع على خلافته. حاصرت جيوش إيطاليا الحامية العثمانية طيلة ثلاثة شهور، وبعدما يئس قائد الحامية من وصول إمداداتٍ عثمانية وافق على الاستسلام بشرط الرحيل بأمان من المدينة، وهو ما تمّ في سبتمبر/أيلول بعد وفاة الفاتح بأربعة أشهر.