اتسمت فترة الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي التي استمرت لمئتي عام، بأنها إحدى أكثر الفترات الزمنية إثارة وتشويقاً على مر التاريخ، حيث إنها شهدت مولد شخصيات وتنظيمات جدلية ومثيرة، ويمكن وصفها بالدرامية، شغلت عقول المفكرين والمؤرخين والأدباء حتى وقتنا هذا.
من ضمن هذه التنظيمات الجدلية والمثيرة للجدل تنظيم "فرسان الهيكل"، الذي طالما كثر الاهتمام به في كتب المؤرخين، وقصص المؤلفين، ونُسب لهم الكثير من الأساطير، كالكنز الذي تركوه وراءهم وظلّ أوروبيون يبحثون عنه لقرون، أو كإنشائهم لحركة الماسونية التي بدأت بها نظرية المؤامرة.
قد يكون السبب في نسج عشرات القصص عن فرسان الهيكل أو كما يطلق عليهم فرسان المعبد، هو حالة الغموض التي أحاطت بهم منذ بدايتهم إلى نهايتهم، والتي لم تعطِ المجال للمؤرخين المعاصرين لهم بأخذ صورة كاملة وواضحة عنهم.
يمكنك الاطلاع على قصة حملة الفقراء على بيت المقدس، أو الاطلاع على قصة الحملة الصليبية التي دمّرت القسطنطينية بدلاً عن احتلال القدس.
فرسان الهيكل.. فقراء أيّدهم البابا فأصبحوا قوة عسكرية هائلة
ارتبط اسم ومصير فرسان الهيكل بالحملات الصليبية، فقد تأسست المنظمة بعد مرور عشرين عاماً على الحملة الصليبية الأولى التي أطلقها البابا أوربان الثاني من روما عام 1096، والتي نجحت فيها الجيوش الصليبية بالسيطرة على مناطق هامة في سوريا وبالأخص فلسطين بما فيها القدس والأماكن المقدسة.
كانت البداية التمهيدية لفرسان المعبد قبل الحملة الصليبية الأولى بسنوات، على يد "الاسبتارية"، وهي جمعية خيرية أنشأها تجّار مدينة أمالفي الإيطالية عام 1070، وقاموا بإنشاء مستشفى القديس جون لعلاج فقراء الحجاج الأوروبيين الوافدين على القدس، بموافقة من الحاكم المصري للقدس آنذاك.
ظلت الاسبتارية مكتفية بعملها الخيري، إلى أن بدأت الأمور تختلف اختلافاً جوهرياً بعد شن الحملة الصليبية الأولى واحتلال القدس عام 1099، التي نتج عنها غضب المسلمين الذين لم يكفوا هجماتهم لاستراد القدس، حتى طالت هجماتهم قوافل الحجاج المسيحيين وشكلت خطراً على وجود الصليبيين هناك، وهنا بدأ تحول عمل الاسبتارية من العمل الخيري إلى العمل العسكري.
ففي عام 1118، انبثق عن الاسبتارية مجموعة فرسان فرنسيين، تحت قيادة فارس يُدعى هيو دي بانيز في إقليم شامبانيا في فرنسا؛ قاموا برفع طلب إلى الفرنسي بلدوين الثاني حاكم القدس، والبطريرك جاريموند في بيت المقدس، يقترح فيه إنشاء تنظيم رهباني يضطلع بمهمّة حماية الحجيج المسيحيين ومحاربة المسلمين. وفق ما يذكره لنا ستيفن هوارث في كتابه "فرسان الهيكل.. القصة الأساسية".
وافق الرجلان على هذا الطلب الحماسي، وجهز بلدوين للفرسان مقراً في جناح من قصره الملكي في جبل الهيكل في المسجد الأقصى، وفي ذلك إشارة إلى الاعتقاد المسيحي واليهودي بأن المسجد الأقصى قائم على أنقاض هيكل سليمان، وأطلقت المجموعة على نفسها اسم "فرسان الهيكل"، والجنود الفقراء للمسيح والهيكل، وذلك كونهم فقراء فعلاً وخرجوا لمهمّة اعتبروها "مقدسة".
وفق كتاب "صلاح الدين والطوق الحجري"، فبعد مرور عشر سنوات على التأسيس والعمل الجاد، أعلن البابا هونوريوس الثاني اعترافه بفرسان الهيكل عام 1129، وكانت هذه نقطة تحوُّل ضخمة في تاريخ التنظيم؛ إذ نال الصفة الرسمية البابوية وأذن لهم بارتداء ملابس الرهبان، وحصلوا على امتيازات كثيرة، كإعفاء أعضاء التنظيم من الخضوع للقانون المحلي وأصبح لهم حق اجتياز جميع الحدود الأوروبية بحرية تامة، إضافة إلى إعفائهم من دفع الضرائب، فضلاً عن التمويل من البابا، والتبرعات الهائلة التي حصلوا عليها.
لكنّ هذه الامتيازات التي قدمها البابا، الذي عُرف بدهائه، كانت مصحوبة بشروط، أهمها الولاء والامتثال التام للبابا وفقط، وألا يتزوج أعضاء التنظيم، وأن يوجِّهوا نشاطهم العسكري فقط في الحروب الصليبية ضد المسلمين، والدفاع عن الأرض المقدسة، وبالفعل شكّل فرسان الهيكل كتيبة قوية من الفرسان المهرة الذين أرقوا دماء المسلمين.
فرسان المعبد والحملات الصليبية
كانت كتيبة فرسان الصليب هي الأقوى في الجيوش الصليبية، ويعود هذا الأمر إلى دقة التنظيم في اختيار أفراده وفق شروطٍ معينة وتدريبات مبدئية قاسية، والغريب في الأمر أن عدد الفرسان في الجيش الصليبي، كان دائماً نحو 500 فارس فقط، إلا أنهم حققوا انتصارات كبيرة ضد جيوش المسلمين، وألحقوا به الخسائر في معارك الحملات الصليبية. ويمكن أن نصفهم بأنهم كانوا "قوات خاصة" أو قوات نخبة.
كانت أول معركة شارك فيها فرسان الهيكل ضد المسلمين، هي معركة إفسوس عام 1147 ضد السلاجقة في الحملة الصليبية الثانية، أما فترة ما بين الحملتين الصليبية الثانية والثالثة، فقد شهدت صولاتٍ وجولات بين جيوش الصليبيين، وفرسان الهيكل تحديداً، وجيش صلاح الدين الأيوبي.
ومن أكثر المعارك المدهشة، هي معركة الرملة عام 1177، عندما تمكّن الفرسان البالغ عدهم نحو 500 فارس، بإلحاق خسائر فادحة في جيش صلاح الدين الأيوبي المكوّن من آلاف الجنود.
أدرك صلاح الدين الأيوبي أن ليس أمامه سوى وحدة المسلمين، لمواجهة الحملة الصليبية وفرسان الهيكل، وبالفعل جهز جيشه وحاول تفادي الأخطاء السابقة، حتى جاء موعد معركة حطين عام 1187 الحاسمة، التي خسر فيها الصليبيون شر هزيمة، وأعاد المسلمون القدس، وكانت هذه الهزيمة هي بداية النهاية لفرسان الهيكل.
ومع ذلك، ورغم هزيمتهم الكبيرة في معركة حطين، كان لهم الدور الأكبر في حصار عكا، تحت قيادة ريتشارد قلب الأسد في عام 1189-1191، حتى سقطت المدينة بيدهم، ليكملوا بعدها رحلتهم إلى القدس ليستعيدوها من صلاح الدين ولكنهم لم يستطيعوا ذلك.
كان آخر مسمار في نعش التنظيم، هو خسارته في عكا عام 1291 بعد مئة عام من سيطرته عليها مع ريتشارد قلب الأسد. كانت عكّا آخر معقل للصليبيين في أرض فلسطين، وقد هزموا على يد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون، فانتقل مركزهم إلى جزيرة قبرص، ومن ثمّ إلى فرنسا، وهناك تركوا نشاطهم العسكري، وتوجهوا إلى النشاطات التجارية والبنكية والمصرفية.
فرسان الهيكل وتطوير فكرة البنوك في أوروبا
على الرغم من أن التنظيم خسر كثيراً من الدعم والثقة التي كان ينالها من ملوك أوروبا، إلا أنه كان متغلغلاً في المجتمع الأوربي، حتى وصفه بعض المؤرخين بأنّ كان دولة داخل دولة، وكنيسة داخل الكنيسة، وقد طوّر التنظيم نفسه على مدار السنين ليصبح قوة اقتصادية هائلة.
فأساس فكرة التنظيم كانت حماية الحجّاج المسيحيين إلى القدس، في رحلة حجّهم الطويلة التي تتطلّب إمدادات كبيرة من النقود، وكذلك حماية هذه النقود، ومن أجل ذلك ابتكر التنظيم أساليب جديدة ليحمي بها الحجّاج.
فأصدر خطابات اعتماداتٍ مالية، وفتح فروعاً له في كافّة أوروبا، بحيث يترك الحاج مقتنياته النقدية والقيمية، في فرعٍ من فروعه، ويأخذ وثيقة إثبات بهذه الوديعة، ويذهب في رحلته دون الاضطرار إلى حمل الذهب أو النقود معه، فيصبح آمناً في رحلته من السرقة.
ويستطيع العميل تسليم الوثيقة لأيّ فرعٍ من فروع التنظيم على طول الطريق، مع ذكر تاريخ إصدار الوثيقة الذي يظهر على الوثيقة بأرقامٍ مشفرة، وذكر جدول المقتنيات، ليستردّ ما يريده من قيمة ما أودعه.
من هنا ظهر في العالم لأول مرة نظام مالي يعتمد على فكرة "الصكوك" بطريقةٍ حديثة وتدقيقاتٍ حسابية موثوقة، فضلاً عن تشغيل بنوك الفرسان أموال المدَّخرين في التجارة العامة، وأعمال الاستيراد والتصدير الضخمة.
بناءً على هذه العقلية الاقتصادية، امتلك فرسان الهيكل نفوذاً اقتصادياً هائلاً في كل أوروبا، جعلهم أكبر المقرضين لملوك أوروبا أنفسهم، وهو الأمر ذاته الذي تسبّب في فنائهم لاحقاً، فقد أصبحوا يشكلون خطراً على منظومة الممالك الأوروبية القديمة، والتي كانت سبباً في القضاء عليهم، بطريقةٍ مأساوية ومثيرة.
النهاية المأساوية
أقيمت الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي، لدوافع اقتصادية وربحية، أراد تحقيقها ملوك أوروبا ونبلائها، وإن اتخذت طابعاً دينياً مقدساً. لكن فرسان الصليب جاءوا لتغيير المعادلة القائمة سواء عسكرياً أو اقتصادياً، وسبقوا الزمن في بنائهم شكلاً من أشكال الاقتصاد الحديث، الذي هدّد وجود ملوك أوروبا، وهذا ما أدركه فيليب الرابع ملك فرنسا، المُثقل أساساً بالديون للتنظيم، وهمّ بالقضاء عليهم لسببين: أنّه كان مديوناً لهم وخشي من نفوذهم الاقتصادي والديني لدى الناس، وثانياً أنّه أراد النهضة بفرنسا فقرر التخلص منهم للاستيلاء على إمبراطوريتهم المالية الضخمة.
وفي عام 1307، قامت قوات الملك فيليب الرابع باحتجاز فرسان الهيكل في المناطق التي تقع تحت حكمه، ووجِّهت لهم اتهامات متنوعة تتعلق بالهرطقة والفجور وعبادة الأوثان وإنكار المسيح والبصق على صليبه وأكل رفات موتاهم وتخصيب العذارى، والخيانة مع المسلمين، واتهامات أخرى كثيرة، وانتزعوا اعترافات المعتقلين منهم بشكل سريع، وكانت عقوبة المدان هي الحرق وهو على قيد الحياة، وهي عقوبة الهراطقة.
كانت خطة فيليب الرابع مُحكمة بشدة، فقد كان البابا الحالي موالياً له، وشنّ البابا بنفسه حملة ضد فرسان الهيكل، وبارك أمر اعتقالهم وإعدامهم حرقاً. وبدأ البابا بمحاكمة فرسان المعبد، وبعد عدة تقلُّبات، وتحت ضغط الملك الفرنسي، حلّ البابا جماعة فرسان المعبد، يوم 22 مارس/آذار سنة 1312، "بموجب مرسوم لا رجعة فيه وساري المفعول إلى الأبد"، حيث تم اتخاذ هذا القرار خلال مؤتمر نُظم في مدينة فيينا، وتم حرق القائد الأعلى للتنظيم ونائبه عام 1314.
أسطورة كنز فرسان الهيكل التي حيّرت الأوروبيين!
انتهى التنظيم على يد فيليب، لكنّ الغموض المحيط به لم ينتهِ بنهاية التنظيم ولا حتّى بوفاة فيليب.
وظهرت لاحقاً أسطورة الكنز المفقود الذي بحث عنه فيليب، ويقول المؤرخ البريطاني شون مارتن عن هذه الحادثة في كتابه "فرسان الهيكل":
حين اقتحم رجال فيليب معبد باريس في صباح يوم الجمعة، كان كلّ ما وجدوه بالداخل رجالاً، لم يعثروا على أي كنوز أو غُرف تخزين أو صناديق مليئة بالذهب، الأموال والذهب اختفوا تماماً، ولم يُعثَر عليهم في أيٍّ من المقرات الرئيسية كباريس ولندن وفيينا، وببساطة لا نعلم أين ذهبوا.
وبقيت هذه الأسطورة التي أطلقها فيليب مسيطرة على عقول الأوروبيين حتى وقت قريب، ومن أشهر الشخصيات الأوروبية المتأثرة بتلك الأسطورة، هو الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول الذي أمر علماء الآثار بإجراء تنقيب واسع في منطقة جيزور، ولكن لم يظهر الكنز.
فبعد أن أصدر المؤلف الفرنسي جيرار دي سيدي كتاباً بعنوان "فرسان الهيكل بيننا" عام 1962، تحدث فيه عن الغموض المحيط بقلعة جيزور التي تحوي كنز الفرسان، ليصبح الكتاب الأكثر مبيعاً ويجذب انتباه الرئيس الفرنسي شارل ديغول، ووزير الثقافة الفرنسي أندريه مالرو، اللذين تأثرا بأسطورة كنز الفرسان، بشكل كبير.
وبالفعل أمر ديغول ومالروا علماء آثار بإجراء تنقيب واسع في القلعة، في البداية وافق العلماء، لكنهم سرعان ما أعلنوا أنه من غير الممكن وجود غرفة فارغة تحت الأرض، ورفضوا إكمال العملية.
ويبدو أن الرئيس ديغول ووزيره مالروا أصيبا بهوس البحث عن هذا الكنز، حيث إنه أصر على الاستمرار في البحث والحفر، ليقرر الاستعانة بقوات من الشرطة والكتيبة الخامسة (مهندسين) التابعة للجيش الفرنسي، وأغلق الجيش القلعة لمدة شهر نقَّب خلاله، إلا أن العملية انتهت بدون أي نتيجة.