عند الحديث عن تاريخ التدخُّل الغربي وبدايات الضعف في المشرق العربي لا بدّ من القول إن الحملة الفرنسية على مصر شكَّلت نقطة مفصلية في التاريخ الحديث، فقد كانت البداية الحقيقية للاستعمار الغربي الشرس في بلادنا، كما أنها مهدت الطريق للقوى الاستعمارية الأخرى التي فتحت شهيتها على خيرات ومقدرات العالم العربي.
لكنّ العلاقة بين مصر وفرنسا اتسمت لاحقاً بسمةٍ خاصة، فبينما كانت هي المحتلّ إلّا أنّها أصبحت لاحقاً نموذجاً يحتذيه ملوك مصر في التحديث والتطوير، فقد كانت أوّل بعثة مصرية لأوروبا في عصر محمد علي لفرنسا. واتّخذت العلاقة شكلاً آخر عندما ساعد الخديوي سعيد باشا، المنبهر بفرنسا وتطورها في ذلك الوقت، نابليون بونابرت الثالث في معركته في مكانٍ مختلف تماماً من العالم: المكسيك.
خلفية تاريخية.. حملة نابليون بونابرت
حاولت فرنسا لسنوات طويلة تحقيق حلمها التاريخي الممتد من العصور الوسطى والحروب الصليبية باحتلال مصر، لكنّ الظروف الدولية منعتها مراراً من ذلك، ومع مرور السنوات بدأ الضعف يتسلل إلى الدولة العثمانية وأقطارها المهمة، وحينها أدرك الفرنسيون بقيادة نابليون بونابرت أن اللحظة مناسبة لاحتلال مصر والدخول إلى المشرق العربي.
وفي عام 1798، قام نابليون بونابرت بشنِّ حملته العسكرية على مصر والشام، بهدف الدفاع عن المصالح الفرنسية، والسيطرة على الشرق، لمنع إنجلترا من الوصول لمستعمراتها في الهند، وتحويل مصر لقاعدة استراتيجية تكون نواة للإمبراطورية الفرنسية في الشرق.
نتيجة لهذا الاعتداء قرر السلطان العثماني سليم الثالث إرسال جيش إلى مصر وانتزاعها من أيدي الفرنسيين، وكان محمد علي هو قائد الكتيبة الألبانية في الجيش العثماني التي وصلت إلى مصر، كما قدمت الجيوش الإنجليزية لمساندة العثمانيين، وبالفعل انسحب الجيش الفرنسي وفشل في حملته.
أفرزت هذه الحملة نتائج تاريخية، أولها تولي محمد علي باشا حكم مصر، وانقلابه لاحقاً على الباب العالي، وتأسيسه الأسرة العلوية الحاكمة في مصر، أما ثانيها وأكثرها خطورة أن الحملة الفرنسية لفتت أنظار العالم الغربي من جديد على مصر وموقعها الاستراتيجي، وخاصة إنجلترا، الذين بدأوا بمخططاتهم الاستعمارية.
تحالف مصر وفرنسا.. عن طريق الأبناء هذه المرة
مرّت الأيام، وانشغلت فرنسا بأطماعها الاستعمارية في مناطق أخرى في غرب العالم، كما انشغلت مصر ببناء نفسها بعيداً عن الدولة العثمانية، حتى تولى الإمبراطور نابليون الثالث حكم فرنسا، وهو ابن شقيق نابليون بونابرت المعروف، وكذلك تولى الخديوي محمد سعيد باشا، وهو نجل محمد علي باشا.
كان نابليون الثالث يطمح لتأسيس إمبراطورية نابليونية ثانية، أكثر نجاحاً وتوسعية من الأولى، أمّا سعيد باشا الذي اتسم بنزعته الغربية وميوله لفرنسا على وجه التحديد، التي درس فيها في شبابه. فقد كان يحاول إجراء بعض الإصلاحات البسيطة في بلاده، ولكن بالاستعانة بالقوى الأجنبية.
استغلت فرنسا ميول سعيد باشا لاستكمال طموحها بالسيطرة على مصر، ولكن بطريقةٍ مختلفة هذه المرة وأكثر نعومة. لم تلجأ بها إلى التدخل العسكري، بل عن طريق التدخلات والمشاريع الاقتصادية التي لم تكن مصر قادرة على إنجازها، أهمها على الإطلاق حفر قناة السويس، عام 1854.
أعطى سعيد باشا فرنسا امتياز تأسيس شركة عامة لحفر قناة السويس واستثمارها لمدة 99 عاماً، من تاريخ افتتاحه للملاحة، ولحقه بامتياز عام 1856 الذي قضى باستفادة الشركة من المياه والأرض حول القناة، ولها حق التصرف في أي رسوم تفرضها، وعدة اتفاقيات مجحفة لمصر.
وبناءً على هذا شهدت مصر في عصره بدايات التدخُّل الأجنبي الواضح، وذلك عن طريق القروض الأجنبية التي أغرق بها بلاده، حيث تورط في الاستدانة من البنوك الأجنبية، وامتياز قناة السويس الذي لم تستفد منها مصر بأي شيء، بل مكنت فرنسا من أطماعها في البلاد.
إذاً.. ما قصة دخول مصر في حرب المكسيك؟
اطمأن نابليون الثالث تماماً من ناحية مصر، بعد أن حصل على امتياز التصرُّف بقناة السويس، فأصبحت مدخله الآمن إلى الشرق. حاول نابليون تكرار هذه التجربة على المكسيك في الشق الآخر من العالم، حيث كان يرغب في إقامة حكومة ملكية كاثوليكية هناك تنافس الولايات المتحدة، وفي الحصول على امتيازاتٍ تجارية، كتلك التي حصل عليها في مصر.
لكنّ الوضع في المكسيك كان مختلفاً بعض الشيء. ففي مصر كان سعيد باشا منفرداً بالحكم، موالياً لفرنسا؛ أما المكسيك فقد كانت منقسمةً إلى جمهوريين معادين لفرنسا برئاسة الرئيس بينيتو خواريز، وإمبراطوريين بزعامة ماكسميليان الأول الذي وضعته فرنسا لتتحكم به.
وفي عام 1861 علّق رئيس الجمهورية المكسيكي بينيتو خواريز التجارة والتعامل مع الدول الأجنبية، المتمثلة بفرنسا وإسبانيا وبريطانيا، وأعلن المقاومة ضد ماكسيميليان الأول؛ الأمر الذي أغضب هذه الدول وقررت القيام بحملة عسكرية -حرضت عليها فرنسا- من أجل دعم حليفها، بذريعة حماية رعاياها، فضلاً عن أن هذه الدول جاءت تطالب بديونها على المكسيك.
مضى على الحرب حوالي 5 أشهر، حتى قررت كل من بريطانيا وإسبانيا الانسحاب من الحرب على خلفية اتفاق يقضي بالاعتراف باستقلال المكسيك مقابل السماح للجنود الأجانب بالعبور إلى مدينة أوريزابا، وقد أشعل هذا الاتفاق الخلاف بين الدول الاستعمارية الثلاث.
بقيت فرنسا وحدها في الحرب في مواجهة الثوار الجمهوريين، وأجواء المكسيك الحارة والمليئة بالأمراض، التي لم يعتد عليها الجنود الفرنسيون، ولم يستطعوا تحملها والمواصلة معها، وهنا لم يجد نابليون الثالث أمامه إلا أن يطلب من سعيد باشا العون العسكري، وأن يساعده بجنودٍ مصريين على أمل أن يتحمّلوا ما لم يستطع جنوده تحمّله، ومساندته على غزو المكسيك.
مصر تلبي النداء
لم يخيّب سعيد باشا رجاء نابليون الثالث، فبعد مرور 65 عاماً على حملة نابليون بونابرت العسكرية على مصر التي جلبت لها المتاعب، ذهب جنود مصريون لمساندة نابليون الثالث في حملته العسكرية على المكسيك.
في بداية عام 1863، أرسل سعيد باشا -الذي توفي في نفس الفترة- أورطة (كتيبة) عسكرية مكوّنة من 453 جندياً وضابطاً مصرياً وسودانياً، بقيادة البكباشي جبرة الله محمد أفندي، وبطبيعة الحال واجهت الأورطة مشكلات في بادئ الأمر.
بدايةً من عدم تكافؤ السلاح الخاص بها مع سلاح الجنود الفرنسيين؛ ما دعا القيادة الفرنسية لتسليم أفرادها سلاحاً فرنسياً تُناسب ذخيرته ما معهم من سلاح.
كما كانت هناك مشكلة ثانية هي اللغة والتواصل بين الطرفين. ما جعل من الضروري استدعاء جنود جزائريين مشاركين في الحملة للقيام بترجمة أوامر القيادة الفرنسية للجنود المصريين، وترجمة احتياجات الجنود ومطالبهم للقيادة.
استبسل جنود الكتيبة في حربهم التي لم تكن لمصر فيها ناقة ولا جمل، ونالوا إعجاب الفرنسيين، حيث قال عنهم القائد العام الفرنسي، وفق ما نقله مؤرخون مصريون: "هؤلاء الجنود المصريون والسودانيون الذين لا تسمح نفوسهم بالهزيمة يستحقون كل ثناء، وإني لم أر في حياتي مطلقاً قتالاً نشب في سكونٍ عميق وحماسةٍ نادرة مثل ذلك الذي خاضه هؤلاء الجنود؛ فقد كانت أعينهم وحدها هي التي تتكلم، وكانت جرأتهم تذهل العقول وتحير الألباب، حتى لكأنهم ما كانوا جنوداً، بل أسوداً".
استمرت الحرب حوالي 4 سنوات، وعلى الرغم من الانتصارات التي أحرزتها القوات الفرنسية داخل المكسيك، فإنه وبمساعدة أمريكا انتصر الثوار المكسيكيون على القوات الفرنسية، إضافة إلى أن أجواء المكسيك الحارة وأمراضها المتنوعة عملت على استنزاف موارد الخزينة الفرنسية.
وفي عام 1866، أعطى نابليون الثالث أوامره للقوات الفرنسية بالانسحاب، وأعلن أن هذا الانسحاب سيتم على 3 مراحل، تنتهي في نوفمبر/تشرين الثاني 1867، وقام الثوار بإعدام الإمبراطور ماكسيميليان الأول، لإنهاء التدخل الفرنسي بشكل قاطع.
عادت الكتيبة التي فقدت 143 من جنودها مع الجيش الفرنسي إلى فرنسا، حيث تم تكريمهم وإعطاؤهم أوسمة شرفية، ثم أكملوا رحلة العودة إلى مصر، واستقبلهم الخديوي إسماعيل -بعد وفاة عمه سعيد باشا- بشكل رسمي، وتمت ترقيتهم ومنحهم رواتب مجزية من حكومتي مصر وفرنسا، إضافة لصرف تعويضات لأسر القتلى.
نال جنود الكتيبة احتراماً واسعاً بسبب التقارير التي رفعها قائد الكتيبة والقائد العام للجيش الفرنسي، فلم تُسجل حالة واحدة من سوء السلوك أو التخاذل عن أداء المهام المطلوبة لأي جندي من جنود الكتيبة المصرية السودانية خلال السنوات التي قضتها الكتيبة في المكسيك كاملة.
روايات تحدثت عن الكتيبة
تحدث المؤرخون عن تلك الفترة، عن طريق تناولهم للأمر من ناحيةٍ بطولية، والاستناد إلى التقارير الفرنسية التي تمدح عمل الكتيبة.
ومن أبرز من تحدث عن هذه الحرب المؤرخ والأمير المصري عمر طوسون، وهو حفيد سعيد باشا، في كتابه "بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك"، والمؤرخ المصري عبدالله حسين في كتابه "السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية".
بقيت هذه الصورة المرسومة في الكتب والروايات عن الكتيبة المصرية السودانية لسنواتٍ طويلة، حتى قام الروائي المصري محمد المنسي قنديل بنبش التاريخ ليعرف الحقيقة، حتى إنه قام بزيارة المكسيك للبحث عن مصادر تاريخية أخرى، ليستطيع في النهاية كتابة رواية "كتيبة سوداء" عام 2015، التي عرض فيها الصورة من زاويةٍ مختلفة.
تحدث المنسي في روايته عن المظالم التي تعرّض لها جنود الكتيبة، بإقحامهم في لعبةٍ لا يعرفون مداها، يتحكم في مصيرهم أباطرة وملوك وملكات أوروبا، بصراعاتهم التي لا تهدأ، وكان سعيد باشا يتعامل معهم باعتبارهم سخرة.
وكذلك الحال، لم تستفد مصر من تحالفها مع فرنسا في حربها ضد المكسيك، بل على العكس تماماً زاد التدخل الأجنبي، وشهدت فترة إسماعيل باشا تنافساً شرساً بين إنجلترا وفرنسا للسيطرة على مصر، وبسط النفوذ عليها.