مظاهرات تندلع لأيام متتالية أو أسابيع أو شهور، وربما تصل إلى سنوات، تضع أمامها هدفاً مُحدداً؛ الوقوف بوجه مُحتل أو والي وإخراجه من البلد، أو التخلص من ظلم اقتصادي، كثورة 1919، التي استمرَّت شهوراً للوقوف بوجه المُحتل، ربما تخمد المُظاهرات قليلاً دون تحقُّق الهدف، فيبقى الهدف حيّاً، ويُعاد إحياء الثورة مرةً بعد أخرى، هذا شأن ثورات مصر عبر التاريخ، وهذا ما سنستعرضه هنا بذكر أطول الثورات في التاريخ المصري، وما حقَّق منها أهدافه وما لم يُكتب له النجاح.
ثورات عديدة ضدَّ المحتل الفارسي تكلَّلت بالنجاح
بعد استسلام الفينيقيين كانت آسيا قد سقطت بيد الفرس، ولم يبق في المواجهة دولة أخرى سوى مصر، تُوفِّي الملك قورش، ليتولّى ابنه قمبيز العرشَ من بعده.
فور قضائه على الاضطرابات والمؤامرات التي حدثت عند توليه الحكم بدأ التجهيز لغزو مصر، في عام 525 قبل الميلاد، التي كانت تعيش فترة مُتعثرة في تاريخها.
تمكّن قمبيز من الدخول إلى مصر بسهولة عبر الصحراء الشرقية، عندما نصحه أحد الجنرالات المرتزقة المنشقين عن الجيش المصري بالاستعانة بالبدو مرشدين له في الصحراء، بالإضافة إلى مساندة اليهود للفرس لدخول مصر.
اليهود في مصر.. عادوا مع المحتل الفارسي وثاروا على الرومان، أصبحوا الآن 6 أشخاص فقط
بعد سقوط العاصمة "منف"، حاول الملك بسماتيك الثالث الفرار، إلا أنه تم القبض عليه بعد فترة قصيرة، ليصبح آخر حاكم مصري يحكم مصر، ولِتصبح بعده مصر ولاية فارسية.
على مدار فترة الاحتلال الفارسي كان للمصريين عدة ثورات، ومنها الثورة التي قام بها المصريون بعد تورُّط الفرس في حرب المدن اليونانية الثائرة، التي انتهت بهزيمة الفرس في موقعة مارثون عام 490 ق.م.
في هذه الفترة شعر المصريون بضرورة المجاهرة بالثورة؛ إذ دفعهم انشغال الفرس بالحرب لتسخير المصريين في قطع الأحجار وإعادة حفر القناة التي تربط النيل بالبحر الأحمر، وفرض الضرائب الباهظة لتموين الحاميات الفارسية.
حاول الحكام الفرس احتواء الثورة المصرية، وتمكنوا بالفعل هذه المرة.
أخذت وتيرة المعارك بين الفرس واليونان تتصاعد، وهو ما ترتّب عليه كساد اقتصادي وخسائر عسكرية، فقد عمل الفرس على تجنيد المحاربين المصريين للقتال لصالح الفرس في الحرب، وبعد قتل الحاكم الفارسي على يد قائد حرسه حفَّز هذا المصريين على الثورة والتمرد مرة أخرى.
انضمَّت بقية القوى المصرية المُبعثرة حينها في أنحاء الدلتا، ووقعت أولى المواجهات المباشرة مع الفرس، عندما هزمت القوات الفارسية وفرَّت تجاه منف، إلا أن الفرس استطاعوا استعادة سيطرتهم على البلاد مرة أخرى.
في ولاية الحاكم الفارسي دارا الثاني، الذي لم يكن مؤمناً بالتسامح الديني، حاول فرض عقيدته "عبادة النار" في شتّى الأقاليم المصرية، الأمر الذي أغضب المصريين وبدأت ثورة جديدة.
وفي عام 410 قبل الميلاد اندلعت الثورة في كافة الأقاليم المصرية، وبشكلٍ خاص في الأنحاء الشمالية من البلاد، واشتدّت الثورة، حتى تكلّلت بالنجاح في طرد الفرس وتحرير البلاد، وقيام الأسرة الفرعونية الثامنة والعشرين.
وحتّى ضد العباسيين
كان العباسيون قد استعانوا بالبشامرة (أو البشموريون) في ثورتهم على الأمويين عام 750م، لإعلان الثورة على مروان بن محمد، وهزم البشامرة جيش الأمويين الذي حاصرهم.
وعندما جاء العباسيون للحكم وعدوا الأقباطَ في مصر عموماً، والبشامرة على وجه خاص، بأنهم ستتم معاملتهم بالعدل والحق، ولن يُضطهدوا فيما بعد.
في بداية الدولة العباسية انتهج الحكّام الجدد نهجاً عادلاً في حكم مصر، إلا أنه سرعان ما عاد الوضع إلى ما كان عليه في حكم الأمويين، وأسوأ من حيث الضرائب العالية والجزية والخراج المبالغ فيه.
كان هذا بالإضافة إلى الغلاء الفاحش الذي عمَّ مصر بكاملها، وقد لقي المصريون ظلماً في جمع الخراج، وخاصةً الأقباط في الإقليم البشموري، مما أدى إلى الثورة، التي اشترك فيها المسلمون والمسيحيون.
وفقاً لكتاب "ثورات المصريين حتى عصر المقريزي" فإن ثورة البشموريين كانت من أكبر الثورات المصرية، وقد حدثت أيام خلافة المأمون العباسي، وسُميت بثورة البشموريين نسبة إلى بشمور في الدلتا، شمالي مصر، أما البشامرة فهم أقباطٌ يقطنون تلك المنطقة، ويعملون في إنتاج ورق البردي.
انتهت هذه الثورة كما سجَّل المقريزي في كتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" بترحيل المأمون لنحو 3000 مصري إلى العراق، مات أغلبهم في الطريق، ومَن بقوا منهم بِيعوا عبيداً.
اتخذت مطالب المصريين حينها سمت الثورة العارمة، فتوقف المصريون حينها عن طاعة السلطان، ولم يعد الثوار يكتفون بطلب تخفيض الضرائب، أو الكفّ عن الاضطهاد الديني، وإنما كان مطلبهم هو التحرر التام من كل ما يعانون منه.
3 أشهر من الثورة انتهت بعزل الوالي التركي
ووفقاً لكتاب "تاريخ الثورات" لسلامة موسى، فإن الشعب المصري استطاع عام 1805م، عزل الوالي خورشيد التركي، وعيّن الوالي محمد علي الألباني، تم عزل الوالي التركي بعد أن حاصره المصريون في قلعته بقيادة عمر مكرم، الزعيم الوطني.
ووفقاً لكتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" لعبدالرحمن الجبرتي، فقد حضر سكان مصر القديمة نساءً ورجالاً إلى الجامع الأزهر يشكون ويستغيثون من الدالاتية، وهم طائفة من العسكر، أحضرهم خورشيد من الدولة العثمانية لتدعيم أركان حكمه.
قامت طائفة العسكر تلك بإخراج بعض المصريين من مساكنهم قهراً، ولم يتركوهم ليأخذوا ثيابَهم ومتاعهم، حاول المصريون الاستعانة بالوالي على الدالاتية، لكنه لم يُحرّك ساكناً، واستمرت أعمال السلب والنهب.
وسط هذه الخلافات بين المصريين والوالي العثماني، ذهب بعض الأعيان والمشايخ إلى محمد علي، القائد الألباني الذي جاء إلى مصر منتمياً للدولة العثمانية، لكنه انحاز لصفوف الشعب المصري، وأخبروه بأنهم يريدون عزل خورشيد وتعيينه بدلاً منه، فامتنع محمد علي أولاً، ثم رضي.
وأثناء حصار المصريين للقلعة، أرسل خورشيد لهم رسولاً يحمل لهم رسالة يتساءل فيها: كيف يثور المصريون على مَن ولَّاه السلطان عليهم؟ ولديهم أمر ديني بإطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منهم.
ردَّ عمر مكرم على رسالة خورشيد بأنّ أولي الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، أما مَن أرسله فهو رجل ظالمٌ خارجٌ على قانون البلاد وشريعتها، وظلَّت مُحاصرةُ المصريين للوالي مستمرةً لمدة ثلاثة أشهر، وكانوا مُسلَّحين بالعصيّ والنبابيت.
ظلَّ خورشيد مُحاصراً حتى جاء الفرمان العثماني بالاستجابة لمطالب الشعب، بإسقاط خورشيد، وتعيين قائد عساكره في مصر، محمد علي، والياً على البلاد؛ استجابة لرغبة الشعب، وانتهت الثورة بالنجاح وحقَّقت أغلب مطالبها.
لكنهم ثاروا أيضاً على محمد علي
بعد وصول محمد علي إلى السلطة لم يفِ بوعوده، وكان قد أسَّس نابليون ديواناً من علماء الأزهر وأعيان الشعب بهدف الاستشارة، إلا أن محمد علي ألغاه، وزاد من جديد الضرائب على الشعب.
حاول الأعيان والعامة الاستغاثة بعمر مكرم، وطلبوا منه التحدث إلى محمد علي بشأن إلغاء الضرائب، فذهب مكرم إلى محمد علي وذكَّره بالوعد، لكنه لم يجد رداً.
كان محمد علي لا يزال يخشى سلطان الدولة العثمانية، ولما طولب بميزانية الدولة احتاج أن يستشهد بعمر مكرم، ودعاه إلى أن يوقِّع على الميزانية التي ستُرسل إلى الأستانة، فرفض مكرم التوقيع، واتَّضح أنه عدو بيِّن لمحمد علي، فحرمه من نقابة الأشراف، وأمر بنفيه إلى دمياط، حيث بقي تسع سنوات، عاد بعدها إلى القاهرة، ولم يَلبَث إلا قليلاً وتم نفيه مرة أخرى إلى طنطا.
بعد قليل توفي عمر مكرم، ليجد محمد علي أن السلطة خلت له، فمعه جيش ولا يوجد في وجهه مماليك يقفون له، فقد كانت الطبقة التي يمكنها أن تتصدى لقراراته، وقد تخلص منهم بمذبحة القلعة، ولا يوجد أيضاً زعيم وطني يقود ثورة الشعب ضده بعد وفاة عمر مكرم.
1919: الثورة التي استمرَّت لشهور حقَّقت أهدافها بعد 3 سنوات
وهي من الثورات الطويلة التي ناضل فيها المصريون للحصول على مطالبهم، ووفقاً لكتاب "ثورة 1919" لعبدالرحمن الرافعي، فقد كانت حالة مصر أثناء الحرب العالمية الأولى التي استمرت من عام 1914 إلى عام 1918 من مُقدمات هذه الثورة.
فقد عانت مصر من نظم مالية واقتصادية سيئة خلال فترة الحرب، بسبب طغيان المصالح الاقتصادية الأجنبية، أمّا الأسباب السياسية للثورة فكانت تذمر الشعب من الاحتلال البريطاني الذي لا يفي بوعوده في الجلاء عن بلاده، والذي يتدخل في كافة شؤونها.
بالإضافة إلى إلغاء الاحتلال للدستور، ومحاولته فصل السودان عن مصر، وإعلان الحماية على مصر عام 1914م.
كتم الشعب مشاعره الغاضبة من هذه الحماية طوال فترة الحرب، التي بقي خلالها الشعب تحت سطوة الأحكام العرفية، وبمجرّد عقد الهدنة وإظهار الحكومة البريطانية إصرارها على تأكيد قرار الحماية واستمراره، يئس الشعب من الحصول على حقوقه بالطرق السلمية فلجأ إلى الثورة.
كان هدف الثورة هو إعلان السخط على الحماية والاحتلال، والرغبة في الحصول على الحرية والاستقلال، خاصةً بعد فشل الوفد المصري عام 1918 برئاسة سعد زغلول في المفاوضة، والإنذار الذي وجهه لهم الجنرال واطسون، قائد القوات البريطانية، بألا يجعلوا قرار الحماية محلاً للمناقشة أو المعارضة، وتوعدهم بالعقوبات العسكرية.
لم يجعل الإنذار سعد وزملاءه يتراجعون، ما أدى لاعتقالهم 8 مارس/آذار، وكان هذا بمثابة الشرارة لاندلاع الثورة.
بدأت الثورة بمظاهراتٍ سلمية تطوف شوارع القاهرة هاتفة بالاستقلال، وسقوط الحماية، وظلت المظاهرات مستمرة في الأيام التالية، ما جعل القوات البريطانية تتصدى لها بالرصاص.
لم يوقف هذا المظاهرات، التي انتقلت إلى سائر الأقاليم المصرية، وقُطعت السكك الحديدية والأسلاك البرق والتليفون، وتعطلت المواصلات في كل النواحي.
استمرت حوادث الثورة من شهر مارس/آذار إلى شهر أغسطس/آب، وتجدّدت مرة أخرى في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 1919، ولم تنقطع وقائعها السياسية وآثارها، وظلت مُستمرة حتى شهر أبريل/نيسان 1921.
نجحت الثورة في مقاومتها لقرار الحماية، واعترفت الحكومة البريطانية في شهر فبراير/شباط 1921، بأن الحماية علاقة غير مُرضية، وأعلنت إلغاءها في فبراير/شباط 1922، كما اعترفت بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.