من المنتظر أن تشهد مناطق شمال سوريا حركة عسكرية غير عادية في الأسابيع المقبلة، مع بدء انسحاب القوات الأمريكية من مناطق سيطرتها، مخلفةً وراءها فراغاً تتنافس القوى الإقليمية والدولية على ملئه.
تلك القوى المتسابقة على شغل الفراغ الذي سيتركه الأمريكان، قد تُعد بمثابة حاكمٍ فعلي جديدٍ للمنطقة التي تعاقبت على إدارتها كياناتٌ ودولٌ، بل وإمبراطورياتٌ مختلفة منذ فجر التاريخ.
فيما يلي، نرصد أشهر الدول التي فرضت سيطرتها على محافظات شمال سوريا؛ حلب والرقة ودير الزور وإدلب والحسكة:
المراحل التاريخية التي مرت بها مناطق شمال سوريا
قبل سقوط الدولة العثمانية، كانت جميع مناطق شمال سوريا الحالية تقع ضمن ولاية حلب؛ فكانت مدن دير الزور والرقة وحلب وإدلب السورية وعنتاب ومرعش وأنطاكيا وأضنة وأورفا التركية ضمن ولايةٍ عثمانيةٍ واحدةٍ.
لكن مع قيام الجمهورية التركية وتوقيع معاهدة "سيفر" بين دول المركز (الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية ومملكة بلغاريا) والدولة العثمانية، كان من المفترض أن تذهب مدن ولاية حلب العثمانية إلى سوريا الخاضعة للانتداب الفرنسي، وهو الأمر الذي رفضه الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، وأصر على ضمّ جميع مدن ولاية حلب العثمانية إلى الجمهورية الوليدة.
ففي العام 1920، نجح أتاتورك في استعادة نصف مدن ولاية حلب بموجب معاهدة "أنقرة"، والتي تشمل عنتاب ومرعش وأضنة وأورفا، وترك للجمهورية السورية النصف الآخر.
وفي حقبة الانتداب الفرنسي على سوريا (1923 – 1943)، قُسِّمت البلاد إلى 6 ولايات مستقلة، لكن معظم السوريين رفضوا التقسيم إلى أقاليم مستقلة عن بعضها.
ومع المقاومة السورية لفكرة التقسيم، اقترحت باريس ضمّ 3 ولايات في كيان واحد: حلب ودمشق واللاذقية، على أن تكون حلب هي العاصمة، لكن الانتداب ما لبث أن تراجع عن قراره وجعل دمشق عاصمة لدولةٍ سوريةٍ موحدة.
في العام 1936، تم توقيع معاهدة الاستقلال عن فرنسا وقيام حكومة الملك فيصل بن حسين، ونالت حلب استقلالها كجزء من سوريا مجدداً في العام 1946، بعد أن نقضت حكومة فيشي الفرنسية المعاهدة السابقة، وأعادت احتلال سوريا في العام 1941.
كما فقدت سوريا لواء الإسكندرون لمصلحة تركيا عبر استفتاء شعبي في العام 1939، إذ فضّل سكانها، الذين يشكل غير العرب نسبة 54% منهم، الانضمام إلى الجمهورية التركية مشكّلين محافظة هاطاي.
الانقسام الأول للمحافظات السورية
وعلى الجانب الشرقي من الخريطة، استقلت دير الزور عن ولاية حلب الفرنسية وأصبحت محافظةً من محافظات سوريا في العام 1946. وكانت دير الزور تشمل الرقة حينها أيضاً، لكن الأخيرة أصبحت محافظةً مستقلةً في العام 1960.
وفي العام نفسه، استحدثت الحكومة السورية محافظة إدلب، وتم فصلها إدارياً عن محافظة حلب.
وكذلك الحسكة، التي كانت تُعرف بمحافظة الجزيرة، استقلت في العام 1954 عن بقية مدن شمال سوريا.
باختصار، كانت جميع مدن شمال سوريا كياناً واحداً إبان الحكم العثماني للمنطقة، قبل أن تلتحق عنتاب ومرعش وأضنة وأورفا بالجمهورية التركية بعد الحرب العالمية الأولى، ويتبعها لواء الإسكندرون لاحقاً.
أما الجزء السوري، فقُسِّم إلى محافظة دير الزور التي كانت تشمل الرقة، ومحافظة حلب التي كانت تضمّ إدلب، إلى جانب محافظة الحسكة.
وقبل بسط العثمانيين سيطرتهم على سوريا في 1516، مرت مدن شمال سوريا التي كانت ولايةً واحدةً طوال التاريخ ولم تُقسم إلا بعد سقوط الدولة العثمانية، بالمراحل التالية:
شمال سوريا في العهد الإسلامي
فُتح شمال سوريا مع بقية أرجاء البلاد على يد القائد الإسلامي خالد بن الوليد في العام 637، وشكّلت حلب تحديداً جزءاً مهماً في الدولتين الأموية والعباسية، حتى غدت عاصمة الدولة الحمدانية تحت حكم سيف الدولة الحمداني في العام 944.
والدولة الحمدانية هي إمارة إسلامية شيعية، أسسها أبو محمد الحسن بن أبي الهيجاء الشهير بـ "ناصر الدولة" في مدينة الموصل بِالجزيرة الفراتية، وامتدَّت لاحقاً باتجاه حلب وسائر الشام الشمالية وأقسام من جنوب الأناضول.
قامت هذه الدولة عندما ولَّى الخليفة العباسي أبو الفضل جعفر المُقتدر بِالله، القائد ناصر الدولة على الموصل وأعمالها. وتوزعت أراضيها بين إمارتين كبيرتين: الموصل وحلب.
وبعد الحمدانيين، دخلت حلب في موجة الصراع بين السلاجقة المسلمين والبيزنطيين المسيحيين، لتخضع في العام 1183 لحكم صلاح الدين قائد الدولة الأيوبية، لكن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً، فدخلها المغول بقيادة هولاكو في 1260، وتم قصفها 6 أيام متواصلة، وذُبح سكانها بوحشية.
في العام نفسه، استعاد المماليك زمام حكم حلب بعد انتصارهم في موقعة "عين جالوت"، ثم استقلت المدينة عنهم عندما قام الظاهر بيبرس المملوكي بإعلان الانفصال عن الدولة في العام 1961.
مرت حلب بفترة طويلة من الصراعات بين المماليك والمغول، لم تنتهِ إلا بهجرة قبيلة قايي إلى ريف المدينة بإذنٍ من الوالي السلجوقي علاء الدين كيقبَاد بن كيخسرو، حيث بدأ أبناء قائد القبيلة، سليمان شاه، في توسيع رقعة نفوذهم، حتى أسَّس حفيده عثمان بن أرطغرل الدولة العثمانية.
تاريخ حلب في العصور القديمة
أما قبل العهد الإسلامي، تناقلت العديد من الحضارات حكم حلب، وحافظت المدينة على أهميتها التجارية والسياسية طوال تلك السنوات.
في عصور ما قبل التاريخ، أظهرت الحفريات أن المدينة احتلت هذا الموقع منذ نحو 5 آلاف سنة، وفي عصر البرونز كانت عاصمة مستقلة مرتبطة بإيبلا، ضمن مملكة أرمان.
أما في العصر البرونزي، فقد ظهرت تسمية حلب لأول مرة، وكانت وقتها عاصمة لسلالة العموريين، وقد تم تدميرها على أيدي الحيثيين، الذين اعتبروها مركزاً مقدساً، في القرن الـ 16 قبل الميلاد، ومع ذلك استعادت دورها الريادي في سوريا بسرعة.
انهارت المملكة الحيثية في العصر الحديدي بالقرن الـ 12 قبل الميلاد، فأصبحت حلب جزءاً من مملكة أرفاد الآرامية، ثم تحولت إلى عاصمة مستقلة.