"كانت حواس الجميع تبدو مُتيقظة أكثر مما ينبغي، لكن جيمس بوند شعر أنه مُتعب" المقطع السابق من رواية "كازينو رويال" لإيان فليمنغ، التي نُشرت عام 1953 ستذكرك بقصة الجاسوس دوسان بوبوف
يقول فليمنغ إنه قد استلهم شخصيته الخيالية جيمس بوند من عدد من الجواسيس الذين تعامل معهم بحكم عمله ضابطاً في المُخابرات البريطانية.
وقد استعان بما فعله هؤلاء الجواسيس في الواقع في إحكام حبكة شخصيته الخيالية ومناوراتها المُختلفة.
ولكن إن كان المقطع السابق يدل على شخصية من بينهم فهو يدل على شخصية الجاسوس دوسان بوبوف، فيُمكنك بسهولة أن تستبدل اسم جيمس بوند في المقطع السابق باسم بوبوف.
"قدّمت الحرب العالمية الثانية أمثلة أكثر إثارة في العمل المُخابراتي من أي بطل خيالي في قصص تجسسية" هكذا يقول الأدميرال جون جودفري، رئيس إيان فليمنغ في جهاز الاستخبارات البحرية.
المُصادفة التي جمعت بين فليمنغ وبوبوف
في كازينو إستوريل في البرتغال عام 1941، جمعت المُصادفة وحدها بين وجهي فليمنغ وبوبوف، فقد كان بوبوف على طاولة القمار.
حيث كان يعقد رهاناً مع خصمٍ ثري من ألمانيا النازية، كانت قيمة الرهان نحو 40 ألف دولار من أموال الحكومة البريطانية، وقد قام جهاز المُخابرات البريطاني بتعيين فليمنغ مرافقاً سرياً لبوبوف.
كانت مَهمة فليمنغ هي: حماية المبلغ المالي الكبير، الذي يُعادل 10 أضعاف الأرباح السنوية للمواطنين في أوائل الأربعينيات.
وُضع المبلغ على الطاولة، وواجه بوبوف خصمه، وكانت الطريقة التي اتبعها في إدارة الرهان مُذهلة إلى الدرجة التي جعلت الكازينو بأكمله في حالة صمت.
ثم انسحب خصم بوبوف من اللعبة، وقد كان الموقف كافياً للفت كامل انتباه وتركيز فليمنغ نحو بوبوف، وليتحول كازينو إستوريل إلى كازينو رويال في رواية فليمنغ الشهيرة.
وُلد دوسان بوبوف عام 1912 في صربيا، لعائلةٍ ثرية أتاحت له العديد من الامتيازات.
فقد حصل على تعليمٍ مرموق، وعلى درجة الدكتوراه في القانون في جامعة فرايبورغ الألمانية، كان يتحدث الألمانية بطلاقة.
ولديه عدّة اتصالات رفيعة المستوى في ألمانيا، ثم بدأ بعد ذلك شركته الخاصة، تمتع بوبوف بذكاء شديد وسرعة بديهته وحدس قوي.
عمالة مُزدوجة.. "إيفان الألماني" و"ترايسكل البريطاني"
مع بداية الحرب العالمية الثانية كان بوبوف ضابط مُخابرات يوغوسلافي، وقد كان يرى أن أفضل طريقة للتغلب على العدو هي الإقتراب منه..
لذلك حصل على عمل لدى مُنظمة الاستخبارات الألمانية جاسوساً لحساب النازي، وقد اعتبرت المُخابرات الألمانية بوبوف شخصاً جديراً بالثقة، فضمّه للعمل وللتدريب على التجسس، وأعطته اسمه الحركي "إيفان".
بعدها توجّه إلى لندن وعبّر عن اهتمامه بمُساعدة بريطانيا على هزيمة دول المحور، فقد كان بوبوف يحتقر هتلر حتى قبل أن يغزو الألمان يوغوسلافيا.
وقد كان يُدرك أن مجرد جهد منسَّق من جانب جميع الرجال المحبين للحرية يمكن أن يساعد في وقف خطر النازية.
لم تكن السلطات البريطانية تثق به في البداية، بل كانت مُتشككة فيه إلى مدى بعيد، لكنها قررت في نهاية الأمر أن تأخذه إلى مكتب مُراقبة الجوازات.
وقد كان في ذلك الوقت غطاءً لجهاز المُخابرات البريطانية، وقد أثبتت تحريات الجهاز جدارة بوبوف بالثقة وأعطته الاسم الحركي "ترايسكل" أي دراجة ثلاثية العجلات.
ومن هذه النقطة أصبح بوبوف عميلاً مزدوجاً بين البريطانيين والألمان.
حقيقة العمل ضد الألمان
أثبتت هذه اللعبة المُزدوجة التي قام بها بوبوف أهميتها في هزيمة النازيين، فقد كلفّه الألمان بالحصول على معلومات من البريطانيين.
وهي المعلومات التي أعطاها له البريطانيون بشكلٍ خاطئ ليُبلغها للألمان، كانت المعلومات التي يُزود بها البريطانيون الألمان كافية لجعل الألمان يتخيلون أنهم يُديرون جاسوساً ناجحاً.
ولكنهم كانوا جاهلين تماماً بحقيقة أمر هذا الجاسوس، وحقيقة العمليات التي يقوم بها لصالح الحُلفاء.
وقد كان أكبر إسهامه في الحرب هو إقناع الألمان بأن تحرير الحلفاء للأراضي التي احتلها الرايخ بأوروبا لن يبدأ من نورماندي، ولكن من كاليه.
وهو ما أدى إلى تحويل الكثير من قوات هتلر بعيداً عن الشواطئ التي هبطت فيها القوات الأميركية والبريطانية.
فاستطاعت قوات الحلفاء تحقيق إنزال نورماندي عام 1944 بأقلّ قدر من الخسائر، ووقعت سلسلة من المعارك بين ألمانيا النازية وقوات الحلفاء، وكانت أهمية هذه المعركة مُتمثلة في نزول قوات التحالف إلى أوروبا.
وقد حذّر أميركا أيضاً من هجوم بيرل هاربر
لم يشك الألمان أبداً في جدارة بوبوف بالثقة، على الرغم من أنه كان يتسبب لهم في الخسائر، ويؤدي لتخريب ما يقومون به من أعمالٍ تهدف لانتصارهم في الحرب.
وفي عام 1941 أرسل جهاز المُخابرات الألماني بوبوف إلى أميركا بهدف جمع بعض المعلومات حول دفاعات القواعد البحرية الأميركية، بالإضافة إلى البدء في إنشاء شبكة الجواسيس بأميركا.
حينما وصل لأميركا، كان أول ما قام به هو زيارة لمكتب التحقيقات الفيدرالي، وقام بتحذيرهم من اهتمام العدو بدفاعاتهم.
لكنّ نوايا بوبوف الطيبة تجاه الأميركيين قوبلت بالرفض والتشكيك على عكس توقعه.
فقد رفض جون إدغار هوفر – أول رئيس لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي – الاعتقاد بصحة المعلومات التي أتى بها بوبوف.
والسبب الرئيسي أن هوفر لم يَرُق له نمط حياة اللهو التي يحياها بوبوف فأدى إلى تجاهل ما جاء به بالكامل.
ضمّن المعلومات التي حاول بوبوف إيصالها لمكتب التحقيقات الفيدرالي أن الألمان كانوا يجمعون المعلومات حول هجوم على ميناء "بيرل هاربور" لمساعدة اليابانيين، وهو ما تجاهله هوفر أيضاً.
لو لم يكن فعل ذلك لكانت استطاعت أميركا أن تأخذ احتياطها قبل الهجوم المُفاجئ المُدمر قبل حدوثه بأربعة أشهر كاملة.
بيرل هاربر هو ميناء وقاعدة عسكرية، تُعتبرالمقرّ الرئيسي لأسطول الولايات المتحدة في المحيط الهادئ.
وفي عام 1941 كان الهجوم على بيرل هاربر، بغارة جوية مُباغتة نفذتها بحرية الإمبراطورية اليابانية على الأسطول الأميركي القابع في المحيط الهادئ في قاعدته البحرية بجزر هاواي.
وهو الحدث الذي أرغم أميركا على دخول الحرب العالمية الثانية، ولو كان تم تحاشيه كان كثير من مُجريات التاريخ قد تغيّر.
حاول هوفر أن يتكتَّم على الأمر، لكي لا يصل لأحد تقصيره بشأن أخذ المعلومة التي كانت سُتنقذ بلاده من الكثير بجدّية.
بما في ذلك الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، لكنّ السر لم يبقَ سراً للأبد، ففي عام 1972 أظهرت المُخابرات البريطانية السرية وثيقة كشفت الأمر كاملاً.
حياة الترف جعلت الأميركيين غير مرتاحين له
رغم الجانب الاستخباراتي البوليسي والتشويقي في حياة بوبوف، إلا أن هذا لم يمنعه أيضاً من ممارسة حياته بشكلٍ بالغ الترف، ولم يمنعه هذا أيضاً من الوقوع في الحب.
فقد كان لديه علاقة عاطفية مع الممثلة سيمون سايمون، التي التقى بها في باريس قبل الحرب.
وكان معروفاً أنه يتمتَّع بمعيشة فاخرة، و لديه العديد من العلاقات النسائية.
في أميركا، بعدما أدرك أن مكتب التحقيقات الفيدرالي لن يتعاون معه، لم يمنعه هذا من إنفاق الأموال التي منحها له النازيون على حياة الترف في أميركا، فقد كان يُقيم الحفلات ويدعو إليها المشاهير.
كما كان يذهب للتزلج والإقامة في المُنتجعات العصرية، وهو ما زاد من عدم ثقة هوفر به، فهدده بإلقاء القبض عليه إذا لم يُغادر البلاد في أقرب وقت ممكن.
تكريمه من الحكومتين البريطانية والألمانية!
المُفارقة الكُبرى في حياة بوبوف أنه حصل على وسام الصليب الحديدي الألماني وهو من أعلى الأوسمة في ألمانيا.
ويُمنح للاعتراف بالشجاعة في المعركة أو بالقيادة العسكرية الناجحة خلال الحرب العالمية الثانية.
وبعد انتهاء الحرب تم تكريمه من قبل الحكومة البريطانية وحصل على وسام الإمبراطورية البريطانية، بالإضافة إلى حصوله على الجنسية أيضاً.
حسبما دوّن بوبوف في سيرته الذاتية فقد خاطر بالتعذيب والموت لإثبات الثقة الألمانية به حتى يتمكَّن من العمل على تدمير الرايخ الثالث، وأن مَهمته قد انتهت في زمن الحرب.
وأنه تزوج من امرأة جذابة وأنجب ثلاثة أبناء، وقد عاش بسعادة مع عائلته في فرنسا.
في عام 1981، توفى بوبوف بعد سنواتٍ من التدخين الكثيف والشراب المُتواصل.
وثائقي حول بوبوف
وُثقت قصة حياة بوبوف من خلال الفيلم الوثائقي "بوند الحقيقي"، الذي تم إنتاجه عام 2007، والذي يعرض للشخصيات الحقيقية التي استخدمها إيان فليمنغ لنسج شخصيته الخيالية جيمس بوند.
فيتعرض لقصص العميل المُزدوج دوسكان بوبوف، ويرصد كيف استخدم فليمنغ بوبوف وآخرين في نسج مُغامرات رواية "كازينو رويال".
يتضمن الفيلم الوثائقي مقاطع من أفلام بوند، بالإضافة إلى مُقابلات مع شخصيات من المُخابرات البريطانية، وابن بوبوف، وهاري سالتزمان ابنة مُنتج جيمس بوند.