على عكس المُعتقد السائد بأن مصطفى كمال أتاتورك أصدر قانوناً ينصّ على منع ارتداء الحجاب في تركيا بعد إعلان قيام الجمهورية في العام 1923، فإن هذا الأمر لم يحدث.
لكن في المقابل، تواضع المجتمع التركي حينها على منع المحجبات من العمل في مؤسسات الدولة ودخول المدارس والجامعات حتى خمسينيات القرن الماضي، قبل أن يتحول الأمر إلى قانون رسمي بعد الانقلاب العسكري في العام 1980.
ويعود رفض الحجاب في السنوات الأولى لقيام الجمهورية، إلى الربط بين الدولة العثمانية المنهارة والتدين، الذي أصبح يعدُّ أحد مظاهر التخلف الذي كانت تركيا تطمح إلى التخلص منها في ذلك الوقت.
الشرارة الأولى لأزمة منع ارتداء الحجاب في تركيا
بين العام 1923 و1950، لم تتعرض المحجبات في تركيا إلى هجومٍ إعلامي أو شعبي مباشر. إلا أن التوجه العلماني منعهنّ من العمل في مؤسسات الدولة، وضيّق عليهن دخول المدارس والجامعات.
في خمسينيات القرن الماضي، استيقظت د. حميراء أوكتان من نومها. وكما تفعل كل صباح، ارتدت حجابها وتوجهت إلى المستشفى الذي تعمل فيه باسطنبول. إلا أن رجال الأمن منعوها من الدخول دون سابق إنذار.
تدخلت الدولة حينها لإخماد الشرارة "العلمانية"، لتعود د. أوكتان إلى عملها كالمعتاد.
وفي صيف العام 1964، كانت الطالبة المحجبة غولسان أتا سافان تتحضر لإلقاء كلمة الدفعة بعد تخرجها من كلية الطب بعلامات مميزة.
وبينما كانت أتا سافان تتوجه إلى المنبر لإلقاء كلمتها، منعتها إدارة كلية "جراح باشا" في اسطنبول من الصعود بحجة حجابها الذي "لا يتناسب مع الحدث".
وبعد نحو سنة، أُعيد طرح قضية حظر الحجاب، بعد أن قرر رئيس الجمهورية آنذاك، جودت صوناي، سجن الكاتبة المحجبة شعلة يوكسال شنلر، التي اشتهرت بمقالاتها في صحيفة Yeni Istiklal.
ورغم إصدار صوناي عفواً عن شنلر بعد شهرين من الحبس، رفضت الكاتبة الخروج قبل انتهاء فترة حكمها. وحين خرجت، بدأت جولةً في المدن التركية المختلفة، لإلقاء محاضرات لتوعية الشعب حول قضية الحجاب.
أول مظاهرة للمحجبات
في العام 1967 نظم نحو 50-60 طالبة من طالبات كلية الشريعة "الإلاهيات" في جامعة أنقرة، أول مظاهرة ضد السياسات القمعية تجاه المحجبات.
جاء ذلك نتيجة قيام أحد الأساتذة بطرد الطالبة خديجة باباجان من المحاضرة قائلًا، "أنت! أنت أيتها المحجبة، لا يمكنك الجلوس في القاعة بهذه الثياب، إما أن تنزعي حجابك أو تخرجي".
وبعد فترة من الإضرابات قام خلالها عميد الكلية بتقديم استقالته، انتهت الأزمة بطرد خديجة باباجان من الجامعة.
الجدير بالذكر أن ابن شقيق خديجة باباجان، علي باباجان، شغل منصب وزير الاقتصاد للحكومتين الـ 58 والـ 59، ثم عين وزيرًا للخارجية في حكومة رجب طيب أردوغان في العام 2007.
بعد هذه الأحداث مرت أزمة الحجاب في تركيا بمنعطفين مهمين:
1- انقلاب 12 سبتمبر 1980
نفّذت القوات المسلحة التركية انقلاباً عسكرياً بقيادة الجنرال كنعان إفران، ويعد هذا الانقلاب نقطة تحول خطيرة في التاريخ التركي، حيث أسفر عن إلغاء البرلمان وإيقاف العمل بالدستور وإغلاق جميع الأحزاب السياسية.
ومع الدستور العسكري الجديد، صدر قرارٌ رسمي بمنع ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية والجامعات والمدارس من خلال مرسوم نشرته وزارة التعليم العالي YÖK.
ثم عدلت وزارة التعليم العالي المرسوم ليسمح للسيدات بارتداء الحجاب الذي يغطي الشعر فقط ويُظهر الرقبة والأذنين في العام 1984، لكن قائد الانقلاب الجنرال إفران ألغى القانون الأخير في العام 1987، ومُنع ارتداء الحجاب بشكل كامل مرة أخرى.
في نفس العام أُجريت انتخابات فازت فيها حكومة رئيس الوزراء الراحل ذو النفس الإسلامي تورغوت أوزال، فأجرت الحكومة بعض التعديلات على المرسوم الذي أصدارته وزارة التعليم العالي في العام 1989 بحيث يسمح بتغطية الشعر والرقبة لأهداف دينية وعقيدية.
حينها، وقّع كنعان إفران على هذا التعديل، إلا أن المحكمة الدستورية أصرّت على منع الحجاب بحجة الحفاظ على علمانية الدولة.
2- انقلاب 28 فبراير 1997
وهي الحادثة الأهم والأقسى على الإطلاق في تاريخ الحجاب بتركيا؛ يُطلِق عليها الأتراك اسم "مرحلة 28 شباط".
بدأت بانقلاب عسكري للقوات المسلحة التركية ضد حكومة حزب "الرفاه" الإسلامية، ونتج عن الانقلاب إغلاق الحزب وإجبار رئيسه نجم الدين أربكان على الاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء.
وهكذا بدأت المرحلة الأصعب في حياة المحجبات، حيث أغلقت العديد من مدراس الأئمة والخطباء الدينية، وطُردت المحجبات من الجامعات والعمل، وتم الاعتداء بالضرب على العديد منهن في الشوارع والكليات.
كما طُرد الجنود الذين لديهم أخوات أو أمهات محجبات من الجيش التركي.
وتم إنشاء ما عُرف باسم "غرف الإقناع"، وهي غرف كانت المحجبات تدخلن إليها وتتعرضن لأبشع أنواع التعذيب النفسي والعصبي ليتم إقناعهن بنزع الحجاب مقابل السماح لهن بدخول الجامعات، وتم تبرير هذا التعذيب بأنه محاولة لمنح الحرية الحقيقية للفتيات اللواتي يرتدين الحجاب تحت ضغط الأهل والمجتمع.
"خسرت طفلي ومنزلي"
في تلك المرحلة، يستذكر الأتراك العديد من القصص والحوادث والاعتداءات – الوحشية في بعض الأحيان -، التي مورست بحق المحجبات نذكر هنا بعضًا منها:
1- تقول المعلمة التركية زينب يايلا، "في مرحلة 28 فبراير/شباط، طُردت من عملي ولم أستطع الالتحاق بأي عمل جديد بسبب حجابي، تراكمت علي الديون والمشاكل حتى أسقطت جنيني بسبب الحزن والتوتر، ولم أخسر طفلي وحسب، بل خسرت منزلي أيضًا بعد أن عجزت عن تسديد أقساطه".
2- تقول نوراي جانان بزيرغان، "لم يتبق لي سوى امتحان واحد لأتخرج من كليتي، لذلك كان دخولي لهذا الامتحان ضروريًا جدًا. دخلت علينا الشرطة وأخبرونا أن ننزع حجاباتنا أو نغادر القاعة، وبعد جدل طويل نزعت بعض الطالبات حجاباتهن وتركت أخريات القاعة. أما أنا فرفضت تنفيذ الأوامر، فاقتحم القاعة عدد كبير جدًا من العساكر والصحافيين. أخرجوني من القاعة عنوةً واعتقلوني. وهناك عرضوا علي أن أختار تنظيمًا إرهابيًا أعلن انتمائي إليه".
تضيف بزيرغان، "بعد فترة كنت في طريقي إلى الطبيبة لمتابعة حملي فمررت بجانب مظاهرة كبيرة للمحجبات، لاحقتني الشرطة وأنا حامل بتوأم، وتهجم عدد كبير منهم علي وضربوني في الشارع رغم أني لم أكن من المشاركين في المظاهرة. ونتيجة هذا الحادث فارق أحد أطفالي الحياة".
3- الطالبة آرزو بورجو كاراكوش لم تستطع إنهاء دراستها إلا بعد 12 سنة، إذ منعت من دخول الامتحانات عدة مرات، وهي نموذج مكرر لمئات الفتياة اللواتي عشن التجربة ذاتها.
نجاح بلا طعم، أو البقاء في المنزل
أما بقية المحجبات فجميعهن شربن من كأس "28 شباط"، منهن من تركن الجامعات في العام 1997 وعدن إليها في العام 2010، فيما اختارت أخريات نزع الحجاب عنوةً واختلطت فرحتهن بالتخرج بألم تأنيب الضمير، إذ دخلت بعضهن قاعات الامتحان وهن يرتدين الباروكات، والكثير منهن كن ينزعن الحجاب على باب الجامعة ويرتدينه بعد خروجهن منها.
استمر اضطهاد المحجبات في تركيا حتى العام 2010، حيث قامت حكومة حزب "العدالة والتنمية" بطرح استفتاء شعبي ألغى قانون منع الحجاب، بل ورفع قضايا جنائية ضد الشخصيات التي ارتكبت جرائمًا ضد المحجبات خلال مرحلة "28 شباط".
خلال الفترة الطويلة من العذاب والمعناة، ظهرت شخصيات قاومت الاضطهاد وتمكنت في النهاية من تحقيق ذاتها وإيصال رسالتها للعالم كله.
فكانت الضربة الأولى والأقوى لمن قاموا بانقلاب "28 شباط" ظهور زوجة رئيس الجمهورية التركي عبد الله غول بحجابها.
تبعتها زوجة الرئيس أردوغان، أمينة، والوزيرة فاطمة بتول صايان قايا والعديد من السيدات اللواتي سنتحدث عن بعض منهن:
مروة قاواقجي – أول نائبة محجبة في البرلمان التركي
بعد منع ارتداء الحجاب في الجامعات التركية ذهبت مروة قاواقجي إلى الولايات المتحدة الأميركية لإنهاء دراستها، وتخرجت من كلية هندسة الحاسوب في جامعة تاكساس، ثم عادت إلى تركيا وعُينت رئيسة للعلاقات الخارجية في حزب "الرفاه".
انتُخبت مروة قاواقجي نائبةً عن حزب "الفضيلة" في البرلمان التركي بعد انتخابات العام 1999، لكنها لم تتمكن من أداء وظيفتها بعد أن طُردت من البرلمان ومنعت من ممارسة السياسية 5 سنوات وسُحبت منها الجنسية التركية بسبب حجابها.
عادت قاواقجي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ودرست الماجستير في الإدارة العامة بجامعة هارفارد. وأنهت دراسة الدكتوراه في العلوم السياسية في جامعة هوارد.
وقد اختارتها جامعة جورج تاون ضمن قائمة أكثر 500 شخصية مسلمة مؤثرة في العالم. كما حققت قاواقجي العديد من النجاحات الضخمة وعملت في أكبر الجامعات الأميركية وألفت العديد من الكتب وحازت على أكثر من 10 جوائز في مجالات مختلفة.
أعيدت الجنسية التركية لمروة قاواقجي في العام 2016، علماً بأنها حصلت على الجنسية الأميركية أيضاً.
فاطمة بتول صايان قايا – وزيرة الشؤون العائلية والاجتماعية
ولدت فاطمة بتول صايان قايا في 31 يناير/كانون الثاني 1981 وترعرعت في إسطنبول. تخرجت من كلية الهندسة الكهربائية والإلكترونية.
تقول قايا أنها كانت في المرحلة الثانوية في بداية مرحلة "28 شباط"، وكانت تحلم بدراسة الطب في جامعة اسطنبول وكانت من الطلبة المتفوقين الذين يمكنهم دخول كلية الطب بكل سهولة.
وكان لقايا أختًا تدرس فيها آنذاك، لكن بعد طرد أختها المحجبة من جامعة اسطنبول ومنع تسجيل المحجبات اضطرت إلى دراسة تخصص آخر في جامعة بيلكنت الخاصة.
حصلت قايا على درجة الدكتوراه من جامعة نيويورك بعد أن أجرت دراسات عديدة حول سرطان الثدي، وعادت إلى تركيا في العام 2009 لتحقق حلمها وتدرس الطب في كلية "جراح باشا" بإسطنبول.
في العام 2012، عُينت مستشارة لمؤسس حزب "العدالة والتنمية" رجب طيب أردوغان.
وشغلت قايا منصب وزيرة للشؤون العائلية والاجتماعية، قبل أن تدخل برلمان العام 2015 كنائبة عن "العدالة والتنمية".