ألماني يتحدث العربية بطلاقة، تراه في الخيام مع شيوخ العرب، يرتدي ملابسهم ويتحدث مع أمراء من الدروز، مُتنقلاً بين القبائل العربية تراه مُرتدياً الزي البدوي، يفعل كل هذا من أجل الدعاية الألمانية والحصول على دعم العرب والمسلمين لألمانيا في الحرب العالمية الأولى بإثارة روح الجهاد داخلهم.. هذا هو المستشرق الألماني"أوبنهايم".
اسمه ماكس أدريان سايمون فون أوبنهايم، وهو دبلوماسي ألماني ومستشرق وعالم آثار، وُلد عام 1860، في كولونيا، إحدى المدن الألمانية، وهو سليل أسرة مصرفية يهودية، فوالده شريك في بنك كولونيا الخاص، أما والدته فتنحدر من أسرةٍ أرستقراطية في كولونيا.
فتى مُترف تستهويه دراسات الشرق
في عالمٍ من الترف الماديّ نشأ أوبنهايم، فقد كانت المزرعة التي يملكها والداه تُشبه القلاع الخيالية في الروايات، وبينما لم يحبّ أوبنهايم العمل بالقانون، الذي درسه بجامعة ستراسبورغ، وهي المهنة التي اختارها والده له؛ وجد شغفه في دراسة علم الآثار، وبدأت اهتماماته الحقيقية تتجه نحو دراسة الشرق الأوسط، وقام بتعليم نفسه بنفسه، يصف إخلاصه المُبكر لدراسة الشرق قائلاً:
"لقد قرأت ودرست بحماسة وإخلاص، منذ تلقيت إحدى هدايا عيد الميلاد وهي كتاب "ألف ليلة وليلة"، تيقظت كل حواسي وقتها لفكرة واحدة، وهي أن أصبح مُستكشفاً في الشرق الإسلامي، ومنذ وقتها لم تتركني هذه الفكرة أبداً".
قام بالعديد من الرحلات الاستكشافية المُختلفة في إفريقيا والشرق الأوسط، فسافر إلى المغرب عام 1886، ثم إلى العراق، وارتبط بعددٍ كبيرٍ من الصداقات مع شخصياتٍ سياسية وحزبية وفكرية عربية و إسلامية.
حقق تلك الصداقات خلال رحلاته إلى الشرق وأهمها رحلة عام 1893 من البحر المتوسط إلى الخليج العربي، وفي عام 1896 انتقل للعيش في العاصمة المصرية القاهرة، حيث عاش في فيلا مُحاطة بالنخيل، بصحبة ستة من الخدم وطاهي فرنسي.
وفي عام 1898 أرسل تقريراً لوزارة الخارجية الألمانية حول وضع المُسلمين بهذه المنطقة، وقد أصبح أوبنهايم من المشاهير بين علماء الآثار الهواة الألمان، وقاد بعض الحفريات بين عامي 1910 و1913.
محاولة استغلال من الإمبراطور الألماني
نجح أوبنهايم في كسب ثقة الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني؛ لأنّه امتلك برنامجاً واسعاً لمناهضة دول الحلفاء في مناطق نفوذها، وهو ما لاقاه الإمبراطور بترحيبٍ بالغ بسبب طموحاته الاستعمارية، فقد كان يحتاج إلى زرع أشخاص في الشرق يدعمونه ويساعدونه فيما يريده من هذه المنطقة. كان أوبنهايم هو الرجل المناسب لهذه المُهمة تماماً؛ لذلك طلب منه فيلهلم العمل في القنصلية الألمانية بمصر.
وفي مصر حاول أوبنهايم القيام بواجباته الدبلوماسية في القنصلية، وإلى جانب ذلك قام بجمع 42 ألف كتاب درس من خلالهم تاريخ المشرق وعاداته، وقد ساعدته أموال والده المصرفي في دراساته وتنقلاته هذه وفقاً لما نشرته مجلة "ديرشبيجل" الألمانية.
خلال الحرب العالمية الأولى أسَّس أوبنهايم في وزارة الخارجية في برلين مركزاً أطلق عليه "مركز رسائل الشرق"، كما عمل في السفارة الألمانية بإسطنبول، وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى في أكتوبر/تشرين الأول عام 1914، سلّم وزارة الخارجية الألمانية مُذكرة بعنوان "مُذكرة بشأن ثورة الأراضي الإسلامية على أعدائنا"، كتب فيها:
"أولاً وقبل كل شيء علينا أن نفكر في هذه اللحظة بدفاعنا عن أنفسنا، وأن نستخدم الإسلام لمصلحتنا، لنستفيد منه بأقصى حد ممكن لتعزيز قُدراتنا في الحرب، فغدر خصومنا بنا يعطينا الحق في اللجوء إلى أي وسيلة بإمكانها أن تُثير المتاعب في البلدان المُعادية لنا".
جهود أوبنهايم لتزكية روح الجهاد الإسلامي
ما جاء في مُذكرة أوبنهايم هو تحديداً الأمر الذي حاول القيام به خلال الحرب العالمية الأولى، فقد كان الهدف الذي يُحركه هو أن يتحرك مسلمو الشرق الأوسط ضد إنكلترا مما يُثير المتاعب لها ويُضعف من مقدرتها خلال الحرب.
من خلال تقاريره، دعا باستمرار لاستغلال مشاعر المسلمين، وأن يتم تزكية فكرة الجهاد الإسلامي ضد أعداء ألمانيا، وقد نالت تقاريره قدراً كبيراً من الاهتمام لدى الحكومة الألمانية والإمبراطور، وقد أُطلق على أوبنهايم لقب "الأب الروحي للجهاد الإسلامي" أو "عرّاب الجهاد".
وقد وصفته الدوائر البريطانية بـ "جاسوس القيصر" وسببت نشاطاته إرباكاً لدى الدوائر الاستعمارية البريطانية والفرنسية، لذا تم استدعاؤه من قِبل الحكومة الألمانية عند اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ ليتولى مهمة نشر الدعاية الألمانية المؤيدة للتحالف العثماني – الألماني، وإشعال فتيل الثورة ضد دول التحالف في البلاد العربية والإسلامية.
تنقل الصحف الألمانية اليوم الكثير من تحذيرات المُعلِّقين الذين يُعربون فيها عن تخوفهم من الأفكار المتطرفة، لكن الوضع كان مختلفاً قبل مائة عام. فالسلطات الألمانية أسَّست وكالة أنباء الشرق في برلين للإشراف على نشر حملة الدعاية الجهادية لحثّ المسلمين على الجهاد عبر إصدار الصحف وطباعة المنشورات الدعائية، و أشرف على ذلك أوبنهايم نفسه.
وفقاً لورقة بحثية تحت عنوان "دور المستشرق ماكس فون أوبنهايم في الدعاية الألمانية للحرب المقدسة 1915- 1918"، الصادرة عن مجلة الدراسات الاستشراقية فقد بدأ أوبنهايم مُهمته بمُحاولة التأثير على شريف مكة الحسين بن علي للوقوف إلى جانب ألمانيا ضد دول التحالف في الحرب وهي بريطانيا وفرنسا وروسيا، وقد سعى أوبنهايم للقاء الأمير فيصل بن الحسين، حينها قال فيصل في بداية حديثه: "أشكر الله أن مصالح الإسلام متطابقة تماماً مع مصالح ألمانيا".
لم يختلف فيصل مع أوبنهايم حول التأثير الضار للنفوذ البريطاني على الحج وعلى الإسلام بشكلٍ عام، كما أكَّد فيصل لأوبنهايم أن الشريف حسين لم يكن متردداً في الانضمام إلى الجهاد خلال الحرب العالمية الأولى، ومن جهته وعد أوبنهايم الأمير فيصل باعتلاء كرسي الحكم في مصر بعد تحريرها من البريطانيين، وقد عاد الأمير فيصل؛ ليؤكد له دعم والده للحرب المقدسة.
بعد لقائه بالأمير فيصل كلفت وزارة الخارجية الألمانية أوبنهايم برحلة الى سوريا استغرقت بضعة أشهر، وكان مُقرراً أن يتخذ من دمشق مقراً له، وكان هدف الرحلة تنظيم مركز للمخابرات والمعلومات في القنصلية الألمانية هناك!
هدية الإمبراطور الألماني لقبر صلاح الدين
أشار أوبنهايم – في محاولة لكسب ودّ المسلمين والعرب – إلى أهمية تقديم هدية من جانب الإمبراطور فيلهلم الثاني إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي في دمشق الذي زاره عام 1898، لأجل أن يُعيد إلى الأذهان ذكرى ذلك القائد، ويدعو أبناء العرب إلى الاقتداء به والمبادرة إلى محاربة دول التحالف أحفاد الصليبيين، الذين جاءوا إلى البلاد لانتزاعها من يد المسلمين.
راقت الفكرة للإمبراطور الألماني الذي أوصى المّهرَة من صُنّاع بلاده بصنع ثريَّا ثمينة، وهي منارة تحتوي على مجموعة مصابيح تُعلَّق في السقف؛ لكي تُعلق في ضريح صلاح الدين الأيوبي، وكُلف أوبنهايم بتوصيل الهدية إلى دمشق نيابة عن الإمبراطور.
رسم أوبنهايم، وطوَّر خططاً من أجل استخدام أبناء القبائل العربية لخدمة الدعاية الألمانية، وقام بالترحال في الريف السوري، مُرتدياً الزي البدوي، وكان يتوقف في المدن والقرى مُبشراً بالرابطة الإسلامية الجامعة، داعياً لكره المسيحيين، وتحديداً البريطانيين منهم.
كما أن نائب القنصل الألماني في حيفا لويتفيد فون هاردج قام بمساعدة أوبنهايم في مهمته جيداً، فعمد إلى توزيع منشورات تحثُّ كل مسلم في فلسطين على قتل اثنين على الأقل من الرعايا البريطانيين والفرنسيين، كما نشر شائعات بأن القيصر فيلهلم الثاني قد تحول إلى الدين الإسلامي.
وفي بداية عام 1916 طرح أوبنهايم فكرة جديدة تقضي بإرسال بعثة ألمانية – عثمانية عن طريق الحجاز إلى اليمن من أجل إقامة مركز للدعاية الإسلامية التي تستهدف إثارة السودان وشرق إفريقيا ضد دول التحالف، وصلت البعثة في 26 مارس/أذار 1916م إلى دمشق، مُكلفة بتوسيع الدعاية الجهادية في الجزيرة العربية وإجراء الاتصالات مع العناصر المعادية لبريطانيا في إثيوبيا.
الفشل الكبير..
لكن جهود أوبنهايم لم تلق قبولاً كبيراً عند العرب، خاصةً أن أوبنهايم معروفٌ بأصوله اليهودية المنبوذة عربياً وإسلامياً، كما أنه كان مُمثلاً لدولة مسيحية، فكانت نشاطاته تخضع لرقابة عثمانيين متوجسين من سلوكه.
في النهاية لم تُحقق الدعاية الألمانية النتائج المرجوة منها، ويُقال أن الحكومة العثمانية وجَّهت الحرب المقدسة إلى الداخل أكثر من الخارج، فقد حصدت أرواح السكان المسيحيين الأصليين في الدولة الذين عدّهم بعض الباحثين ضحايا للدعاية الألمانية.
أدّى كل هذا في النهاية إلى إصدار قرار من وزارة الحرب الألمانية في ديسمبر/كانون الأول 1916 بوضع حد للدعاية للحرب المقدسة في معسكرات المسلمين، فأصدرت بالاتفاق مع القيادة العسكرية العليا مرسوماً يقضي بتوقف الدعاية الألمانية ودعوات الجهاد في صفوف العرب والمسلمين بحسب الدراسة السابق ذكرها.
بعد الحرب العالمية الأولى عاد أوبنهايم للمُشاركة في البعثات الأثرية من جديد، وفي شيخوخته عاد إلى ألمانيا، وتوفي في 15 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1946، تاركاً وراءه العديد من الكتابات والدراسات والمشروعات التي تخص الشرق الأوسط.