كانت إلسا كوديتشيك الناجية من الهولوكوست و صاحبة لوحة شيلي تعيش في واحدٍ من أرقى أحياء فيينا قرب تلال الألب، عندما صادر النازيون -الذين استولوا على النمسا- منزلها عام 1940. وسرعان ما انتقل ضابطٌ ألمانيٌّ، قائد إحدى فرق شوتزشتافل -الجناح العسكري للحزب النازي الألماني- للعيش في المنزل.
وسُمح لإلسا، اليهودية، بالبقاء داخل شقةٍ بالطابق العلوي كمستأجرةٍ في منزلها لمدة عامٍ كامل، حتى وصل مرسومٌ بالترحيل يأمرها بالانتقال إلى مستقبلٍ كئيبٍ وغامضٍ في غيتو بولندي. فهربت بدلاً من ذلك، تاركةً وراءها ممتلكات العمر، بما في ذلك العمل الفني الرئيسي الوحيد الذي اشترته في حياتها: منظرٌ طبيعي من أعمال الرسام إيغون شيلي.
وعلى مدار سنوات، اختبأت داخل منازل أصدقائها غير اليهود، بحسب الرواية التي ذكرتها في عشرات الخطابات المكتوبة إبان الحرب وفي أعقابها. لكنها كانت يائسةً بما فيه الكفاية في نهاية الأمر، لدرجة أنها بحثت عن الملجأ داخل منزلها الذي استولى عليه النازيون، فتسلَّلت لتعيش في سريةٍ وصمت مع مستأجرٍ بالطابق العلوي.
باعت لوحة شيلي لتأكل..
ومن هناك، بدأت التجسُّس على ضابط شوتزشتافل، هربرت غربينج، من خلال مشاهدته من النافذة وهو يجلس مع عائلته في الحديقة. ولم يكن معلوماً بالنسبة لها، وقت اختبائها في الأعلى، أنه كان يُساعد في عمليات ترحيل اليهود عبر أوروبا.
وكتبت في خطابٍ إلى ابنها بول، الذي كان قد انتقل إلى نيويورك قبل ذلك بسنوات: "مَن كان يتخيل أن أتقاسم المسكن مع ضابطٍ في شوتزشتافل؟".
بيعت لوحة شيلي المملوكة لإلسا في نهاية المطاف أثناء الحرب، في الوقت الذي كافحت خلاله من أجل البقاء على قيد الحياة، وأُعيد بيعها عدة مراتٍ منذ ذلك الحين.
لكن خطاباتها، المكتوبة بخط اليد على ورقٍ شفافٍ في حالةٍ جيدةٍ بعد حفظها بعنايةٍ داخل قبو أحد الأقارب، ساعدت عائلة كوديتشيك والباحثين في دار سوذبيز للمزادات على تجميع معلومات حول أصل اللوحة ومصدرها. لذا حين تعرض اللوحة للبيع في نيويورك هذا الخريف في مزادٍ علنيٍ بقيمةٍ تتراوح بين 12-18 مليون دولار أميركي، سيُشارك ورثة السيدة كوديتشيك في عائد البيع مع مُلاك اللوحة الحاليين.
وعلَّق لوسيان سيمونز، المدير الدولي لقسم التعويضات في سوذبيز، قائلاً: "من غير المعتاد أن نقابل ضحيةً لسرقةٍ أو مصادرةٍ نازيةٍ، كتبت كل شيءٍ بخط يدها. نجد أنفسنا عادةً نحاول ربط النقاط ببعضها، لكن النقاط متباعدةٌ جداً".
وجاء ذِكر لوحة شيلي في الخطابات ليدعم ما توصل إليه بحث المنشأ الذي أجراه سيمونز، والذي تواصل مع العائلة عام 2014 بعد أن اكتشف بنفسه دلائل تُشير إلى أنّهم فقدوا لوحةً مهمةً إبان الحرب. وتبع ذلك عدة سنواتٍ من المفاوضات مع المُلَّاك الحاليين للوحة شيلي، الأوربيين الذين اشتروها في خمسينات القرن العشرين، نتج عنها الاتفاق الذي سيُحدد عملية بيع العمل الفني (City in Twilight The Small City II)، الذي رُسم عام 1913، الشهر المقبل.
ووصفها سيمونز: "إنها لوحةٌ مهمةٌ بتكوينٍ تجريديٍّ ثوريٍّ رائع".
من خطاباتها عرفت قصتها
وربما تكون القصة التي ترتبط بها اللوحة أكثر لفتاً للانتباه من اللوحة نفسها: حكاية امرأةٍ شَرَّدها النازيون ونجت بأعجوبة من الهولوكوست وانتهى بها المطاف عائدةً لمنزلها الذي طُردت منه لتعيش فترة الحرب هناك، على بُعد أقدامٍ فقط فوق أحد مضطهديها. نجت إلسا من الحرب، ونقلت حكايتها في خطاباتٍ عديدةٍ إلى ابنها، الذي تُوفي عام 1947. لكنه نادراً ما أتى على ذكر تفاصيل تلك التجارب، لذا لم يتعرَّف الأقارب على تاريخ إلسا حتى وقتٍ قريبٍ، عندما شرعوا في قراءة المراسلات. (قدمت سوذبيز ترجمةً لمقتطفاتٍ من الخطابات).
تزداد لهجة الخطابات عمقاً مع تطور الأحداث، وفقاً لسارة وايتس-كوديتشيك حفيدة إلسا، قبل أن تتحول إلى لهجةٍ كئيبةٍ مع وصول مرسوم الترحيل عام 1941. تقول سارة إنها في ذلك الوقت "كانت تكتب متسائلةً حول ما إذا كان بإمكانها أن تجد أي طريقةٍ للهرب".
وقال ستيفين لوكيرت، المؤرخ في متحف الهولوكوست التذكاري الأميركي بواشنطن، إنَّ تجربة إلسا مميزةٌ حتى بين القصص المروعة لليهود الذين عايشوا الحرب مختبئين داخل المدن التي يُسيطر عليها النازيون. وأضاف: "حقيقة أنها كانت تعيش داخل نفس المنزل الذي يقطنه شخصٌ مسؤولٌ عن عمليات الترحيل النازية، هو ما يُضفي على قصتها طابعاً استثنائياً أكبر".
وأرسلت إلسا، أرملة أحد المصرفيين، ابنها وابنتها بعيداً إلى بر الأمان قبل أن تغرق أوروبا في ويلات الحرب والهولوكوست . لكنها قررت البقاء في فيينا، لتعيش في منزلٍ من ثلاثة طوابقٍ بناه زوجها عام 1911. وكانت تسكن في الدور الأول أسفل المستأجرة التي عرفتها منذ زمنٍ طويل، سيلفيا كوزمينسكي، التي عُرفت بـ"الخالة سيلفيا" رغم أنها لم تكن من أقارب العائلة.
كانت ستواجه الهولوكوست لكنها هربت
عندما استولى النازي وعائلته على الطابق الأول، انتقلت إلسا إلى الطابق الثاني لتتشارك السكن مع الخالة سيلفيا، وفي جعبتها، كما يعتقد آل كوديتشيك، لوحة شيلي.
ولا تُظهر الخطابات أيَّ شعورٍ بالخوف لدى إلسا من النازي الذي كانت تعيش معه. واعتاد أن يستدعيها من آن لآخر لتشرح كيفية عمل بعض مرافق المنزل. ووصفت سلوكه بالمتحضّر، حتى وقت تلقّيها "بطاقةً مشؤومةً" تأمرها بالتوجه إلى مدرسةٍ ليتم ترحيلها إلى بولندا المحتلة من ألمانيا.
وكتبت أنه عند سؤالها للضابط عن إمكانية تأجيل الرحلة، أجابها بالنفي، لكنه رسم لها صورةً مشرقة عن شكل الحياة في غيتو، مدينة وودج البولندية، ونصحها بألا تصطحب معها سوى قدرٍ يسير من متعلقاتها الشخصية.
وتابعت إلسا في سطورها: "كان لُطفاً منه أن يقول ذلك؛ لأن معظم أمتعة اليهود تعرَّضت للسرقة قبل وصولهم إلى وجهتهم، ناهيك عن حياتهم بالطبع".
ولا يبدو، بحسب خطاباتها، أن إلسا كانت على علمٍ بدور غربينج الكبير في ترحيل اليهود والهولوكوست . إذ يصفه ياد فاشيم، المركز الإسرائيلي المختص في إحياء ذكرى الهولوكوست، على أنه أحد من لعبوا أدواراً رئيسية في تنفيذ سياسات الترحيل، وزاد على وصفه أنه "شارك في عمليات الاقتحام والاعتقالات، ورُوي عنه أنه كان شديد القسوة، لدرجة أنه تسبَّب مرةً في إصاباتٍ خطيرةٍ للمحتجزين".
بعد هروب إلسا، أقامت مع عائلةٍ تُدعى هاينز، وقضت معظم وقتها تقريباً داخل المنزل، واختبأت عادةً لساعاتٍ خلف خزانةٍ داخل شقتهم. وأمضت ساعات الوحدة في التدريب على اللغة الإنكليزية أو لعب الشطرنج مع نفسها.
لكن حياتها هناك تحطّمت عام 1943، عندما عاد السيد هاينز للمنزل يوماً ما "تحت حراسة بعض الرجال الغرباء" الذين بدأوا في تفتيش المنزل، وفقاً لما روته إلسا. فخرجت من أحد الأبواب المفتوحة وهربت من المنزل.
وأضافت: "لا بد أنني كنت أرتدي قبعة الإخفاء السحرية؛ لأن الرجال في الملابس المدنية لم يلحظوا وجودي". وتابعت أنه أثناء تجولها في الشوارع تلك الليلة "حدَّق الناس في مظهري وكأنني شبحٌ قادمٌ من زمنٍ آخر".
وعادت لمنزلها لتعيش فيه سراً
وتحت جنح الليل، التقت إلسا بالخالة سيلفيا، واتَّجهت عائدة إلى منزلها لتهرع إلى الداخل "عندما زال الخطر"، كما أردفت في خطاباتها. وعلى مدار العامين التاليين، عاشت إلسا حياةً سريةً هناك، تنام على سريرٍ بدائي، وتختبئ كلما قُرع جرس الباب.
وكتبت أن غربينج لم يتواجد في المنزل عادة. ويُشير المؤرخون إلى دوره في عمليات الترحيل التي حدثت بباريس وسلوفاكيا وسالونيك. وأثناء غيابه، لاحظت إلسا عمالاً يهوداً، مَيَّزتهم شاراتٌ يرتدونها، يحملون غنائم الحرب (أثاثاً وبيانو وملابس) إلى منزلها. وأضافت إلسا: "أينما كان يُقيم في اليونان أو فرنسا أو سلوفاكيا، اعتاد على إرسال صناديق كبيرةٍ تحمل بضائع من كل دولةٍ إلى المنزل. وإذا احتاج شيءٌ للإصلاح في المنزل، يعود اليهود من جديد. كما اعتادوا أيضاً على العمل في الحديقة".
ورغم جاذبية هذه الخطابات، فإنها تترك الكثير من الأسئلة دون إجابات. كيف تجنَّبت إلسا افتضاح أمرها تماماً؟ هل كانت الخالة سيلفيا يهودية، ولو كانت كذلك، كيف نجت من الاضطهاد؟
رغم ذلك، قال تيد كوديتشيك، حفيد إلسا وأستاذ التاريخ الفخري في جامعة ميسوري، في إحدى المقابلات إن هذه المراسلات هي موردٌ لا يُقدَّر بثمنٍ بالنسبة للعائلة. وأضاف: "إنها بمثابة حجر رشيد لمجموعةٍ صغيرةٍ من البشر. هناك العديد من الأسئلة التي لا إجابة عنها، وستظل كذلك".
واليوم يستفيد الأحفاد من إعادة بيع لوحة شيلي
ليس من الواضح تحديداً متى بيعت لوحة شيلي، رغم أن سوذبيز ترى احتمالية حدوث ذلك بين عامي 1941 و1943. ويروي واحد من خطابات إلسا كيف جاءت الخالة سيلفيا، التي اعتادت تزويدها بالطعام أثناء اختبائها، في يومٍ من الأيام إلى منزل هاينز، لتقول إنها أيضاً بحاجةٍ إلى المال الآن وترغب في الحصول على إذنٍ لبيع "الصور".
وفي خطابٍ أرسلته في أعقاب الحرب، كتبت إلسا إلى ابنها: "باعت الخالة سيلفيا المجهر الخاص بك، بالإضافة إلى لوحة شيلي ولوحتين لروغينداز. كانت الخالة سيلفيا قد سددت ديونها لي مرتين بالفعل آنذاك".
وتفاوضت سوذبيز، التي ستحصل على عمولةٍ من بيع اللوحة، على العديد من الصفقات المشابهة بين ورثة اليهود الذين فقدوا أعمالهم الفنية إبان أحداث الهولوكوست والمُلَّاك الحاليين للوحات، وتهدف الحلول عادةً لمعالجة القضايا المعقدة المتعلقة بالملكية والأخلاقيات والقانون الدولي. ولم تُحدِّد دار المزادات هوية المُلَّاك الحاليين للوحة شيلي، نظراً لرغبتهم في البقاء مجهولين.
كانت إلسا لا تزال في منزلها عام 1944 عندما قصف الحلفاء فيينا، وعام 1945 عندما سمعت شائعاتٍ تُفيد بمقتل غربينج على يد الجماهير في براغ. لم يعد غربينج من تلك الرحلة، ودخل الجيش الروسي فيينا في وقتٍ لاحقٍ من ذلك العام، لينهبوا منزلها في طريقهم كما أفادت في خطاباتها.
وفي النهاية، وجدت إلسا طريقها إلى بر الأمان من الهولوكوست في مدينة برن السويسرية، حيث تُوفيت عام 1961.
وتقول سارة إن حَدَس إلسا تجاه بولندا ربما تكون السبب في إنقاذ حياتها من الهولوكوست ، إذ تعتقد سارة أن جدتها أدركت بطريقةٍ أو بأخرى ما يحدث لمن يتم ترحيلهم إلى غيتو مدينة وودج. وأضافت: "لا شك أنها سمعت عما يحدث هناك من المجتمع المحيط بها".
وفي الواقع، فإن معظم اليهود الذي عاشوا في مدينة وودج أو تم ترحيلهم إليها، ذهبوا إلى معسكرات الموت قُبيل نهاية الحرب. وبحلول وقت دخول الروس إلى المدينة، كان تعداد السكان اليهود الذي بلغ 250 ألف نسمة قبل الحرب، قد تقلَّص ليصل إلى أقل من 1000 نسمة.