لمدينة بعلبك في لبنان تاريخ عريق، وثقافة غنية تعكس تنوعها الثقافي وتأثيرات الحضارات المتعاقبة التي عاشت على أراضيها عبر العصور، حيث تعد بعلبك واحدة من أقدم المدن المأهولة بالسكان في العالم، وتقع بعلبك في وسط وادي بعلبك الخصب في شمال شرق لبنان، وهي عاصمة محافظة بعلبك الهرمل.
في هذا التقرير، نحدثكم عن تاريخ نشأة هذه المدينة والعصور المتعاقبة عليها ومعالمها التاريخية الضاربة في القدم؛ حيث تشتهر بالآثار الرومانية الرائعة، ومعابدها المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي كواحد من أبرز المعالم الأثرية في المنطقة.
تسمية مدينة بعلبك
تعود تسمية مدينة بعلبك، وفقاً لموقع penn meseum، إلى كلمتي "بعل" و"بك"، حيث يعني "بعل" إله السوريين والكنعانيين، بينما تعني "بك" مدينة، لذا فإن ترجمة اسمها تكون "مدينة بعل".
ويرد ذكر المدينة في القرآن الكريم في سورة الصافات، حيث يُذكر أن النبي إلياس كان ينهى قومه عن عبادة إله غير الله، ويسألهم بالقول: "أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ".
كما تحظى المدينة بموقع استراتيجي مهم على الخريطة اللبنانية، حيث تقع في وسط وادي بعلبك الخصب في شمال شرق لبنان.
نشأة المدينة
المدينة التي تحمل تاريخاً ممتداً لأكثر من خمسة آلاف سنة، وتعتبر واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، حيث شهدت تلاقي حضارات عديدة عبر العصور، تأتي أصولها القديمة من الآشوريين واليونانيين، وتمتد إلى العصور البيزنطية والرومانية، وصولاً إلى الحقبة الإسلامية والعربية بكل تنوعها، بحسب ما أفاد به موقع britannica.
وتعتبر المدينة محطة للعديد من الأساطير حول طريقة بنائها، وذلك يرجع إلى ضخامة الأحجار التي استخدمت في بناء هياكلها، حيث يُعتقد إلى اليوم أن بعلبك كانت أول مدينة تم بناؤها في الكون، حتى إنه يروى أنها شُيدت من قِبَل الشيطان أشموداي لقابيل بن آدم بعد قتله لأخيه.
من بين هذه الأساطير أيضاً قصة "مردة سليمان" التي أشادت بهياكل المدينة، معتبرة أنها لا يمكن أن تكون من صنع البشر وقد ذكرت حوريات الفينيقيين وجود مدينة بعلبك التي أسسها شيثن، ابن الإله الشمس، كرماً لوالده، وقد أقام فيها معبداً للشمس.
وفي تفسيرات أخرى، اقترح العالم الروسي لاجرست أن بناتها كانوا جماعات هبطت من الفضاء الخارجي، حيث علّموا سكان المنطقة كيفية البناء قبل أن يرحلوا إلى كواكبهم.
الحضارات المتعاقبة على المدينة
مدينة الشمس في التاريخ القديم
شيدت مسيرة المدينة على مدى أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، حيث عاشت حضارات متعددة وتعددت عباداتها وأساطيرها، في الفترة الفينيقية، عُرفت بمدينة الشمس؛ نظراً لثقافة العبادة للثالوث الإلهي، وفي العهد الهيلنستي، جذب معبد جوبيتر الحشود بدوره الديني المميز، وهذا الجانب الديني تأثر بعدها بالعصور الرومانية والإمبراطورية.
العصر الروماني
في العصور الرومانية، وتحديداً في القرن الأول الميلادي، أصبحت بعلبك مستعمرة رومانية بأمر من يوليوس قيصر، وأُنشئت بها أكبر الهياكل الرومانية مثل معبد باخوس، استمرت عمليات البناء على مدى قرون، وأصبحت بعلبك محطة تجارية هامة؛ نظراً لموقعها الجغرافي الاستراتيجي.
العصر الإسلامي
بعد فتنة مقتل عثمان شهدت الدولة الإسلامية تقسيمات إدارية تحت سلطة عدة حكام، حيث كانت بعض المناطق تحت سيطرة الخليفة علي بن أبي طالب، في حين كانت مناطق أخرى تابعة لولاية الشام، بقيادة معاوية بن أبي سفيان، كما كانت ولاية مصر تحت سلطة عمرو بن العاص.
ووفق المؤرخين، تعرضت مدينة بعلبك لعدة محاولات فتح من قِبل الجيوش الإسلامية عدة مرات، في سنة 13 هـ، ومرة أخرى في سنة 14 هـ، ومع ذلك، تداخلت الأحداث في بلاد الشام، مما حال دون بسط السيطرة على المدينة، ثم تم فتح بعلبك مرتين في سنة 15 هـ، الأولى قبل معركة اليرموك والثانية بعدها.
وفي سنة 13 هـ، قام خالد بن الوليد بفتح المدينة، وكانت المدينة محاصرة بالجيش الروماني الذي كان متجهاً إلى نصرة بيسان؛ لكنهم اضطروا لمواجهة المسلمين في مرج الصفر.
بعد ذلك، في عهد الصحابي والقائد المسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري القرشي ، تحرك الجيش الإسلامي نحو بعلبك بعد أن ثبتت قوة المسلمين في حمص، وتصادف وصولها مع وجود قافلة تجارية من الروم تحمل السكر والزيت، فأمر أبو عبيدة جنوده بالاستيلاء عليها كغنيمة من عند الله.
وفي العصر الإسلامي، بدأت بعلبك تتحول إلى قلعة، وطالتها التحصينات والترميمات في العصور الأيوبية والمملوكية كما أُحيطت بجدران دفاعية للمدينة، تبقى آثارها حتى اليوم، وما زالت بعلبك تحتضن العديد من المعالم الأثرية الرومانية والإسلامية.
العصر العثماني
في عام 1516م، دخلت بعلبك ضمن نطاق الحكم العثماني مع بقية بلاد الشام؛ حيث بقيت المدينة تحت حكم ولاة محليين، وخصوصاً من عائلة حرفوش، حتى أنشأ الباب العالي في عام 1850م إدارة منظمة فيها.
وخلال هذا العصر العثماني، تعرضت بعلبك لحادثة السيل في عام 1372 التي أسفرت عن وفاة الآلاف وتدمير المنازل والمحال التجارية، ورغم تعرضها للتخريب عبر القرون، إلا أنها ظلت تجذب الرحالة والأثريين، وتشكل مركزاً للبحث الأثري والتنقيب، حيث كشفت الحفائر الأجزاء الرئيسية للمعابد الرومانية خلال القرن العشرين.
بعلبك حاضنة معابد الزمن القديم
تعتبر المدينة مدينة المعابد، حيث تحتضن ثلاثة معابد قديمة تعد من عجائب الزمن القديم، وتُعتبر هذه المعابد شاهداً على حضارات عريقة عبر العصور.
- معبد جوبيتير
يأتي في المقدمة معبد "جوبيتير"، المعبد الكبير الذي يضم بهواً ذا شكل سداسي، لم يتبقّ منه اليوم سوى ستة أعمدة كورنثية، اعتمد في بنائه على 24 حجراً عملاقاً يزن كل منها 400 طن، بالإضافة إلى ثلاث قطع عملاقة تزن 800 طن، وهي قطع ضخمة جداً نقلوها بعد ابتكارهم طرقاً للنقل المتطور.
- معبد باخوس
أما معبد باخوس، فيتميز ببوابته العملاقة التي يبلغ ارتفاعها 13 متراً، ويأخذ شكلاً مستطيلاً تحيط به أعمدة متصلة بتيجان مزخرفة، ويعتبر هذا المعبد الأكثر حفاظاً على ملامحه الأولية التي تعود إلى القرن الثاني الميلادي.
- معبد فينوس
أما معبد فينوس، فيتميز بتصميمه الاستثنائي، حيث يتكون من هيكل دائري نادر في العمارة الرومانية، مما يجعله جاذباً للزوار، كما توجد في المدينة العديد من الآثار الأخرى مثل كنائس القديسين جاورجيوس وبربارة وتقلا، بالإضافة إلى القباب التاريخية التي تعود إلى العصور الإسلامية.
مساجد المدينة التاريخية
الجامع الكبير: يُعتبر من بنايات العصر الأموي، حيث شيّد في عام 715م ويتميز ببنيته الرائعة من الحجر الكلسي الكبير، يمتد على مساحة تقدر بحوالي 2900 متر مربع، يتكون الجامع من حرم مستطيل وصحن مع محراب وثلاثة أروقة، بالإضافة إلى ميضأة مركزية ومئذنة بارتفاع 20 متراً في الزاوية الشمالية الغربية.
مسجد إبراهيم الخليل: يُعد أقدم أثر إسلامي في لبنان، إذ شيّد عام 635م بعد فتح بعلبك من قِبل المسلمين، ويتألف المسجد من حرم وصحن بركة ميضأة دائرية، وقد تم تجديده في عهد السلطان المملوكي قلاوون عام 1282م.
مسجد الملك الصالح أبي الفداء: يُعتبر من معالم العصور الأيوبية، حيث شيّد في عام 1240م، ويتميز بمئذنته الأيوبية الباقية التي تعود لنفس العصر.
جامع رأس العين: يعد من البنايات المملوكية التي بُنيت في عهد السلطان الظاهر بيبرس، ويتميز بموقعه الاستراتيجي عند مصدر العين، ويتألف من حرم مستطيل ورواق قبلي وشمالي ومدخل زخرفي.
جامع الحنابلة: يتميز ببساطته ويعتبر مشيدة مملوكية، حيث بني من الحجر الكلسي ويتألف من أربعة أروقة ومئذنة ترتفع من زاويته الشمالية الشرقية.