في حدث تاريخي بارز، شهدت العاصمة الجزائرية افتتاح الجامع الأعظم، أحد المعالم الأثرية البارزة في المدينة وأكبر مساجد الجزائر أبوابه للجمهور يوم 25 فبراير/شباط 2024، هذا المشروع الضخم الذي انطلق في عام 2012، اختتم أخيراً بعد عدة سنوات من العمل المتواصل، على الرغم من المعوقات التقنية العديدة التي واجهتها الشركة الصينية الحكومية CSCEC المكلفة بالتنفيذ.
استطاع المشروع أن يتجاوز الجدل الواسع الذي أثاره، حيث بلغت تكلفته المالية ضعف التقديرات الأولية، وصولاً إلى حوالي ملياريْ دولار بسبب هذه التحديات. الافتتاح، الذي كان مقرراً في الأصل لعام 2020، تأخر بشكل ملحوظ بفعل تداعيات جائحة كورونا وإصابة الرئيس عبد المجيد تبون بفيروس "كوفيد-19".
الجامع الأعظم، الذي يعد الآن الأكبر في أفريقيا والثالث عالمياً بعد المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة، يقف شاهداً على الإنجاز الهندسي والعمراني الذي حققته الجزائر. يمتد على مساحة 30 هكتاراً ويتسع لأكثر من 120 ألف مصلٍّ، ما يجعله معلماً دينياً وثقافياً مهماً. مئذنته، التي تعتبر الأطول عالمياً بارتفاع يصل إلى 267 متراً، تزينها منصة خارجية تقدم لزائريها إطلالة خلابة لا مثيل لها على خليج الجزائر العاصمة وخليج سيدي فرج.
المكانة التاريخية للجامع الكبير تتجاوز مجرد كونه معلماً دينياً؛ إذ يقع في منطقة شهدت، قبل حوالي قرنين، هبوط 37 ألف جندي فرنسي، في حدث يمثل نقطة تحول في تاريخ الجزائر. إن الافتتاح الرسمي للجامع الأعظم لا يمثل فقط إضافة للمشهد الديني في الجزائر، بل يعكس أيضاً الرغبة في الحفاظ على الإرث الثقافي والتاريخي للبلاد، مؤكداً على أهمية الهوية الإسلامية في النسيج الاجتماعي والثقافي الجزائري.
الاستعمار وتغيير ملامح المدينة
حسب موقع Jeune Afrique الفرنسي، ففي الفترة التي سبقت الاحتلال الفرنسي للجزائر، كانت الطبقة الدينية تلعب دوراً محورياً في الإشراف على الشعائر الدينية في الجزائر. علماء الدين، والقضاة، والمفتون، بالإضافة إلى مديري المؤسسات الدينية، كانوا يشكلون جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والديني.
لكن مع وصول القوات الفرنسية، شهدت هذه الديناميكية تحولاً جذرياً. وفقاً لعالم الأعراق جان سيرفييه، الذي نشر مقاله "أبواب السنة. الطقوس والرموز. الجزائر في تقاليد البحر المتوسط" في عام 1962، تمثل تصرفات الفرنسيين بأنهم كانوا ينظرون إلى الجزائر كأرض عذراء، متجاهلين بسذاجة وجود حضارات قديمة وغنية بتاريخها وثقافتها.
لتحقيق أهدافه العسكرية والإدارية، بادر الاستعمار الفرنسي بتحويل الجزائر العاصمة من مدينة عربية تقليدية إلى مدينة أوروبية حديثة في فترة زمنية قصيرة. يسرد الضابط إدموند بيليسييه دي رينو، في مذكراته "سنوات الجزائر"، كيف تمكن الجنرال كلاوزيل من تغيير أسماء جميع الشوارع بكفاءة، ما أدى إلى فقدان السكان المحليين القدرة على التعرف على مدينتهم. كما أدت الأعمال الإنشائية إلى تدمير مقبرتين إسلاميتين، في تجاهل صارخ للتعهدات الفرنسية بالحفاظ على الأماكن الدينية.
الاستيلاء على المساجد وعدم احترام الاتفاقيات
رغم تعهدات الفرنسيين بالاحترام الكامل للمساجد والأماكن الدينية، فقد شهدت الفترة الاستعمارية استيلاءهم على عدة مساجد لاستخدامها في أغراض إدارية. هذه الخطوة شكلت خرقاً واضحاً لوعودهم التي أكدها لويس أوغست فيكتور دي غيسن، كونت بورمونت، الذي حاول طمأنة السكان بأن حرية العبادة واحترام المساجد سيظلان كما هما.
أما في شبه جزيرة سيدي فروج، حيث كان يقع مسجد بجانب بطارية وتور تشيكا، فقد كانت المنطقة تحت حماية قوات النخبة الانكشارية، الذين كانوا يحرصون على حماية ضريح سيدي فرج. ومع ذلك، بعد معارك عنيفة، استولى الجيش الفرنسي على الموقع، وتم تحويل المسجد إلى غرفة دراسة وتناول طعام لكونت بورمونت، في حين تحولت الكنيسة إلى غرفة نومه. وفي نهاية المطاف، دمر الموقع الديني ليحل محله حصن عسكري، في دليل آخر على التجاهل الفرنسي للإرث الديني والثقافي للجزائر خلال الاستعمار.
تحويل مساجد الجزائر إلى مراكز لوجستية وكنائس
مع تعميق الاحتلال الفرنسي في الجزائر، تم اتخاذ قرارات جذرية أدت إلى تغيير جوهري في البنية الدينية والثقافية للمدينة. نظراً لأن المساجد كانت من بين أكبر الفضاءات المتاحة في المدينة، استغلتها الهيئة العامة للأركان الفرنسية لتنصيب الجنود بها، محولة بيوت العبادة الإسلامية إلى مراكز لوجستية تشمل مهاجع، ومقاصف، ومستودعات للأسلحة والذخائر، وحتى مستشفيات.
يشير المؤرخ آلان روسيو إلى أن أول مسجد تم هدمه كان جامع السيدة، والذي يعود بناؤه إلى القرن الثاني عشر، وبذلك كان معاصراً لفترة بناء كاتدرائية نوتردام في باريس.
تلا ذلك تحويل مسجد كِتشَاوة، الذي بُني في منتصف القرن الخامس عشر، إلى كنيسة، في رمزية واضحة للنية الفرنسية في تحويل أماكن العبادة الإسلامية إلى معابد مسيحية. وقد تم ذلك بدقة متناهية، حيث تم تحويل المئذنة إلى برج أجراس، وتم وضع تمثال للسيدة العذراء في داخل المحراب، وتحول ينبوع الوضوء إلى جرن المعمودية.
سعت السلطات الاستعمارية إلى نيل اعتراف السلطة الباباوية في روما بهذه التحولات، وهو ما حصل عليه البابا غريغوريوس السادس عشر بكل سهولة، حيث أصدر مرسوم "Singulari Divinae" الذي شهد على اعتراف الكنيسة بأسقفية الجزائر العاصمة، والتي كان مقرها مسجد كِتشَاوة.
هذه السياسة لم تقتصر على مسجد كِتشَاوة فحسب، بل شملت أيضاً تحويل مسجد البراني إلى كنيسة الصليب المقدس في عام 1839 بعد تحويله إلى ثكنة عسكرية، وتم تسمية مسجد علي بتشين في القصبة في عام 1842 إلى كنيسة "سيدة الانتصارات".
في غضون عقدين فقط من وصول القوات الفرنسية، من بين تسعة مساجد كبيرة كانت موجودة في عام 1830، لم يبقَ سوى أربعة مخصصة للعبادة الإسلامية.
لكن مع مرور الوقت، بدأت حملة التدمير الفرنسية تتراجع أمام المقاومة الثقافية والمدنية. سياسيون وفنانون بارزون، مثل يوجين ديلاكروا، إرنست فيدو، وتيوفيل غوتييه، عارضوا هذا الدمار والتحولات الثقافية، ما ساهم في الحفاظ على بعض الأماكن الدينية والثقافية من الإبادة التامة.
في هذا السياق، يمكن اعتبار تشييد الجامع الكبير في الجزائر العاصمة كرد فعل وتأكيد على الهوية العربية الإسلامية للجزائر، في مواجهة محاولات التغريب الواسعة النطاق وسياسة الاستعمار السابقة التي سعت إلى محو الهوية الثقافية والدينية للبلاد.