ليست المغالطات الإعلامية والأخبار الزائفة التي تبثها إسرائيل منذ بدء عدوانها على قطاع غزة في الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على ألسنة قادة وزعماء الدول الغربية الحليفة في مشروعها الصهيوني وليدة الصدفة، بل هو "القاموس اللغوي السرّي" يعتمده الاحتلال وحلفاؤه منذ سنة 2009 لشيطنة الفلسطينيين وتمرير جرائمه في القطاع..
فالحجج والأدلّة جاهزة والاستراتيجية الإعلامية منظّمة ومدروسة في سبيل تشويش الوقائع وتثبيت السردية الإسرائيلية، حتى يتساوى المجرم بالمحتل ويغيّب بذلك الحق الفلسطيني..
أعدّه صهيوني أمريكي وظلّ سراً حتى تم تسريبه في خريف عام 2009
بالعودة إلى عام 2009، قامت منظمة "مشروع إسرائيل"، وهي منظمة إسرائيلية غير ربحية مقرها الولايات المتحدة، بإنشاء كتاب مكون من 116 صفحة يهدف لتوجيه الرأي العام نحو التعاطف مع إسرائيل، كما يعدّ الكتاب دليلاً خطوة بخطوة يوضح من خلاله أسلوب الحديث الذي يجب أن يستخدم عند التحدث إلى المجتمع والساسة الغربيين.
كانت المنظمة قد طلبت من منظم استطلاعات الرأي الجمهوري الصهيوني، فرانك لونتز وهو مستشار سياسي أمريكي من عائلة يهودية يقدم الاستشارات لسياسيين يمينيين ومرشحين جمهوريين، طلبت منه إعداد دليل إعلامي جديد محدث للقادة الإسرائيليين الذين هم على الخطوط الأمامية لخوض الحرب الإعلامية لصالح إسرائيل بعنوان "قاموس اللغة العالمي لمشروع إسرائيل" أو ما يعرف بالدليل السري للدفاع عن إسرائيل.
وجاء الدليل السري للدفاع عن إسرائيل على خلفية الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة عام 2008، تسميها إسرائيل بعملية "الرصاص المصبوب"، في حين اختارت المقاومة الفلسطينية أن تسميها "معركة الفرقان"، واستمرت نحو 23 يوماً، وأسفرت الحرب عن نحو 1500 شهيد ودمار هائل في البنية التحتية بغزة، وجاءت أيضاً بعد إدانة الرئيس الأمريكي حينها باراك أوباما للمستوطنات الإسرائيلية ومبادراته التقاربية تجاه إيران في ذلك الوقت.
وقد كان الدليل السري للدفاع عن إسرائيل في البداية سرياً ومقتصراً على الاستخدام الداخلي فقط، حتى تم تسريبه من قبل مجلة نيوزويك الأمريكية في خريف عام 2009.
كيف تدافع إسرائيل عن نفسها من خلال "قاموس اللغة"؟
أي شخص يقرأ هذا الكتاب سوف يلاحظ كيف يحاول الدفع باتجاه سرد محدد لترسيخ صورة إسرائيل بشكل معيّن في الأذهان المتلقية للخطاب.
وبحسب موقع THIRD WORLD NETWORK تم اختيار كل كلمة، وكل جملة، وكل قسم في الكتيب بعناية لتوظيفها بدقة في الأيديولوجية الإسرائيلية. إنه يعلم مروّجي الرواية الصهيونية كيفية التحدث والتفكير والمناقشة.
ولا يقتصر الكتاب على وجود صفحات كاملة مليئة بسرد مفصل للكلمات التي يفضل استخدامها من قبل الممثلين والمتحدثين الإسرائيليين، بل يحتوي أيضاً على بيانات وكلمات يعتقدون أنه ينبغي تجنبها..
ولدفاعه عن إسرائيل اعتمد لونتز في كتابه على بعض الأمثلة التي نجح فيها قادة دولة الاحتلال في خداع العالم وقادته، ومن بينها خداع الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز العالم في مؤتمر دافوس سنة 2009، لابتكار استراتيجية قادرة على تحييد منتقدي إسرائيل وتعزيز مكانتها الإعلامية.
تساءل باستنكار واترك الجمهور يجِب..
ينصح الدليل السري للدفاع عن إسرائيل المعسكرات المؤيدة لإسرائيل "باستخدام الأسئلة البلاغية للحصول على إذن من الجمهور لتصرفات إسرائيل الشنيعة في حق الفلسطينيين".
فعلى سبيل المثال: يطرح المتحدثون الأسئلة التالية: "ماذا يجب على إسرائيل أن تفعل؟ تخيل لو تم إطلاق آلاف الصواريخ على مجتمعك كل يوم وكل ليلة؟ ماذا ستفعل بلدك؟ ماذا تريد منهم أن يفعلوا؟ أليس من واجبنا حماية مواطنينا؟".
الاعتراف يليه التواضع الزائف.. استراتيجية التملص من الجرائم
تدرك إسرائيل جيّداً أن التظاهر بأنها بلا أخطاء لن يجديها نفعاً أمام الرأي العام، حيث إنه لن يصدقها أحد وإنه لن يؤدي بها إلا إلى جعل الناس يشككون في صحة كل ما تقوله.
وذلك يتم بحسب الكتاب عبر شعارات "حياة الإنسان كلها ثمينة. نحن نفهم أن فقدان حياة فلسطينية بريئة هو أمر مأساوي تماماً مثل فقدان حياة إسرائيلية"، هذه الكلمات لطالما سمعنا مثلها من قبل المتحدثين الإسرائيليين والمتعاطفين معهم.
لذلك فهي تعترف بارتكابها أخطاء، ولكن لا تحددهم، تقوم بتغيير الموضوع في أسرع وقت ممكن لتشير إثر ذلك إلى مدى ذنب الفلسطينيين في جعلها ترتكب هذا الخطأ، وبالتالي تحميلهم مسؤولية أخطائها..
يكون ذلك باستخدام عبارات من قبيل "نحن نعترف بأن إسرائيل لا تنجح دائماً في منع وقوع إصابات في صفوف المدنيين"، وقد جرى بالفعل الاعتراف بعدة عمليات قصف لجيش الاحتلال على غزة منها اعترافها، عقب مذبحة المستشفى المعمداني، حيث سارع حنانيا نفتالي، المساعد الرقمي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في البداية عبر موقع "X" (تويتر سابقاً) بالاعتراف بأن الاحتلال هو من ارتكب المذبحة، قائلاً: "قصفت القوات الجوية الإسرائيلية قاعدة إرهابية لحماس داخل مستشفى في غزة. ولقي عدد كبير من الإرهابيين حتفهم"
ولذا قررت تل أبيب اللجوء لرواية أخرى، إذ غيّر نفتالي روايته ووصف الانفجار بأنه "غامض"، وقال إنه "إما صاروخ فاشل" أو "شيء تم القيام به عمداً للحصول على دعم دولي".
ثم زعمت إسرائيل أن المذبحة وقعت بسبب صاروخ للمقاومة، حيث خرج رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ليلقي بالمسؤولية على "حماس"..
الترويج لأكذوبة إسرائيل تفعل ما بوسعها لحماية المدنيين الفلسطينيين
ينص الكتاب على الترويج لفكرة أن على إسرائيل أن تبذل قصارى جهدها للترويج لأكذوبة أن حماية المدنيين الفلسطينيين أولوية ملحّة بالنسبة لها في حربها على قطاع غزة؛ وذلك باستخدام عبارات من قبيل "نحن ملتزمون ببذل كل ما في وسعنا لمنع سقوط ضحايا من المدنيين" وتصل بها المغالطات إلى الادّعاء بأنها تقوم بـ"تدريب قواتها المسلحة وتكليفها وعملها لضمان بقاء المدنيين الفلسطينيين آمنين".
ففي اعتقاد هذا الكيان أن السلام المزعوم الذي تقنع به إسرائيل الغرب على لسان متحدثيها هو ضمانتها الوحيدة لاستمرار كيانها، إذ يشدد الكتيب على أنّه إذا لم يرَ الأمريكيون والغرب أي أمل في السلام واستشعروا أن ما تقوم به إسرائيل لا يعدو أن يكون سوى استمرار لمسلسل دام 2000 عام من "العداء"، فإنهم سيقفون أمام حكومتهم التي تنفق أموال ضرائبهم بشأن مساعدة إسرائيل وسيكون هذا بداية النهاية لإسرائيل.
شعار "لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها" وتكنيك قلب الطاولة..
يحث الدليل المسؤولين الإسرائيليين على استخدام توصيفات تفصيلية توحي بأن معاناة المدنيين الإسرائيليين والفلسطينيين متكافئة وأن إسرائيل تسعى لتحقيق السلام حتى تنتهي معاناة الطرفين، وأنّ كل ما تقوم به من مجازر بشرية ليس إلا تكريساً لحقها في الدفاع عن نفسها لما تقوم حركة المقاومة في غزة والتي تصفها إسرائيل بـ"الجماعة الإرهابية". وفيما يخص الصواريخ التي تطلق من قطاع غزة، يدعو الدليل إلى الإيحاء بأن قدرات الطرفين العسكرية متكافئة؛ بحيث تظهر صورة معاكسة، يبدو فيها المجرم والمحتل بمثابة ضحية، والشعب الذي يخضع للاحتلال بمثابة معتدٍ، كما يساعد شعار الدفاع عن النفس إسرائيل لعقد مساواة، بين طرفين غير متساويين، حيث تبدوا الصواريخ الفلسطينية محلية الصنع، مساوية للصواريخ الإسرائيلية المدمرة..
وهذا ما تقوم بتطبيقه حرفياً في الدعاية الإسرائيلية لحربها الحالية على قطاع غزة، إذ ركزّ الإعلام الغربي بشكلٍ كلّي على معاناة الإسرائيليين، ثم تحوّل إلى تعاطفٍ جزئي مع المدنيين الفلسطينيين مع توجيه الاتهامات للمقاومة باتخاذهم دروعاً بشرياً.
ويؤكد الكتاب على استخدام عبارات من قبيل "نحن جميعاً في هذا معاً" أو "السلام قبل الحدود السياسية" للترويج لفكرة تبني إسرائيل للسلام..
حرب غزة وتحديث آلة الدعاية الصهيونية
ركّز الدليل السريّ للدعاية الإسرائيلية بصورة كبيرة على الحروب التي ستشنها إسرائيل على غزة بعد سنة 2009، والطريقة التي ستبرر فيها إسرائيل اغتصاب حقوق الفلسطينيين واحتلالها لأرضهم، واعتداءاتها الوحشية المستمرة عليهم..
حيث خصّص الفصل السادس من الكتاب المكون من 18 فصلاً والمؤلف من 117 صفحة على الدروس المستفادة من حرب غزة 2009، ويقترح دبلوماسية عامة أكثر فاعلية في الحروب القادمة.
ذكر الكتاب أن إسرائيل "قدّمت تضحيات مؤلمة وخاطرت لإعطاء فرصة للسلام. لقد قاموا بإزالة أكثر من 9000 مستوطن طوعاً من غزة وأجزاء من الضفة الغربية، وتركوا منازلهم ومدارسهم وشركاتهم وأماكن العبادة على أمل تجديد عملية السلام.
وعلى الرغم من تقديم مبادرة للسلام من خلال الانسحاب من غزة، إلا أن إسرائيل لا تزال تواجه الهجمات الإرهابية، بما في ذلك الهجمات الصاروخية وإطلاق النار من سيارات عابرة على الإسرائيليين الأبرياء. وتعلم إسرائيل أنه من أجل تحقيق سلام دائم، يجب أن يتحرروا من الإرهاب وأن يعيشوا ضمن حدود يمكن الدفاع عنها".