عبر التاريخ، عرف العالم العديد من الرحالة الذين رسخوا كيف كان العالم حينها، والذين كان لهم الفضل في اكتشافات عديدة، من بينهم الرحالة المغربي "ابن بطوطة"، وهو من أشهر الرحالة في العالم، والذي وُلد سنة 1304 ميلادية بمدينة طنجة شمال المغرب من أسرة أمازيغية.
حسب الكتب التاريخية، يعود اسم "ابن بطوطة" إلى اشتقاقه من اسم والدته التي كانت تسمى فطومة، وكانت العادة في ذلك الوقت أن يسمى الأبناء بأسماء أمهاتهم، وتم تحريف هذا الاسم لـ"الدلع" حتى أصبح بطوطة عوض فطومة.
عند العودة إلى كتب الرحالة سنجد وصفه لرحلته إلى فلسطين، والتي عادت إلى الواجهة في الأحداث الأخيرة لغزة، والتي تسبب الاحتلال الإسرائيلي خلالها بتدمير العديد من المعالم التاريخية داخل قطاع غزة، خاصة أن الفترة التي سافر فيها ابن بطوطة لفلسطين كانت مستقرة ولا تشهد حروباً.
إذ يعيدنا الوقت إلى الوراء، محفوراً في ذاكرتنا، ما يثير تساؤلات حول حال فلسطين في فترات سابقة من تاريخها، خاصة في فترات السلام والأمان تحت حكم المسلمين. هل عاشت هذه الأرض أوقات ازدهار ورفاهية؟ وكيف كانت حياة الناس في مدنها؟ وما هي انطباعات المسافرين الذين زاروها عبر العصور؟
من هو الرحالة ابن بطوطة؟
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي، المعروف بابن بطوطة، وُلد في 24 فبراير/شباط سنة 1304 بمدينة طنجة، وتوفي سنة 1377 كان رحالة، مؤرخاً، وقاضياً من قبيلة لواتة بالمغرب الأقصى، وحاز لقب "أمير الرحالين المسلمين".
خرج ابن بطوطة من طنجة سنة 725 للهجرة، وقام برحلة استكشافية شملت المغرب العربي ومصر والحبشة، بالإضافة إلى الشام والحجاز وتهامة ونجد والعراق إلى جانب كل من فارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان، وما وراء النهر، وبعض الهند والصين والجاوة، وبلاد التتار، وأواسط أفريقيا والأندلس. كما تواصل مع ملوك وأمراء تلك البلدان واستخدم هباتهم لتسهيل رحلاته.
بعد رحلته الطويلة، عاد إلى المغرب الأقصى واستقر في بلاده. سجل تجاربه في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" الذي أملى أخبار رحلته على محمد بن جزي الكلبي. انتشرت ترجمات للكتاب باللغات البرتغالية، الفرنسية، والإنجليزية، وكذلك بالألمانية. كما كان يتقن اللغة التركية والفارسية.
استمرت رحلته لمدة 27 سنة، يتواجد ضريحه في المدينة القديمة بطنجة. جامعة كامبريدج اعتبرته "أمير الرحالة المسلمين" في كتبها وأطالسها.
في أول رحلة له، قطع ابن بطوطة العديد من الدول المعاصرة، من الجزائر وتونس إلى مصر والسودان، وصولاً إلى فلسطين وسوريا، ومن ثم إلى مكة؛ إذ كان ابن بطوطة مغرماً بزيارة الأماكن المقدسة ومقامات الأنبياء والأولياء في العالم الإسلامي، وفي القلب منها القدس والخليل وعسقلان وطبرية وغيرها من مدن فلسطين.
إن ابن بطوطة يظل واحداً من أهم الرحالة في التاريخ، حيث قطع أكثر من 75 ألف ميل، وهي مسافة لم يقطعها أي رحالة منفرد قبل ظهور عصر النقل البخاري، بعد مرور 450 سنة.
ابن بطوطة ووصف غزة والخليل
في شهور عام 1326 للميلاد، وصل ابن بطوطة إلى مصر، حاملاً في ذهنه القيام بفريضة الحج عبر الطريق التقليدي للمغاربة. انطلق من النيل إلى صعيد مصر، ثم اخترق الصحراء الشرقية باتجاه البحر الأحمر.
ومع تقدمه في رحلته، اضطر إلى العودة شمالاً نحو القاهرة بسبب الحروب التي وقعت بين البُجاة والمماليك الحاكمين في مصر آنذاك. من ثم، اتجه إلى بلبيس في الشرقية ونزل فيها في شهر شعبان من ذلك العام.
عبر ابن بطوطة صحراء سيناء باتجاه الشمال نحو العريش، ومنها إلى غزة، التي وصفها قائلاً: "أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة ولا سور عليها".
أعجب ابن بطوطة بأكبر جوامع غزة، وخاصةً جامع الجاولي الذي شيَّده الأمير علم الدين سنجر الجاولي، الذي كان حريصاً على تعمير المدينة وبناء مدارسها ومساجدها. وأشار إلى أن عائلة آل سالم كانت تحتل مكانة ثقافية رفيعة في غزة، وأورد أسماء بعض علمائها.
بعد زيارته لغزة، انتقل ابن بطوطة إلى مدينة الخليل، حيث وصف المسجد الإبراهيمي وغارة الذي يحوي قبور الأنبياء، بما في ذلك قبر يوسف عليه السلام وتربة لوط. كانت رحلته تكشف لنا عن الأماكن الدينية والثقافية المهمة في فلسطين ومصر خلال تلك الفترة.
وصف الرحالة للضفة الغربية
بعد غزة توجه ابن بطوطة إلى الخليل؛ إذ شرع ابن بطوطة في رحلته نحو البحر الميت الذي أطلق عليه اسم "بحيرة لوط". ووصف ملوحته الشديدة، مشيراً إلى وجود مسجد يُدعى "مسجد اليقين" على تلة مرتفعة بالقرب من البحر الميت.
ورغم عدم وجود سكان في هذه المناطق، فإن القائم على المسجد قد بنى داراً صغيرة بجواره. ونقل ابن بطوطة التفاصيل الواردة عن المسجد، حيث يحتوي على مغارة تضم قبراً يزعم أنه لفاطمة بنت الحسين عليهما السلام. وقد كُتب على لوحتين من الرخام في المغارة نصٌّ يعلن عن هذا القبر.
يبدو أن المسجد قد بُني قبل عدة قرون من زيارة ابن بطوطة، حيث يُشير المقدسي البشاري إلى وجوده في "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، حيث يتحدث عن بناء أبي بكر الصباحي للمسجد ووجود مرقد إبراهيم في الموقع. وقد كانت هذه الزيارة تلمح إلى التسامح والاحترام الذي كانت تظهره السلطات المملوكية تجاه المواقع الدينية المسيحية في تلك الفترة.
من خربة ياقين في بني نعيم شرقي الخليل، حيث لا تزال آثار المسجد باقية، انطلق ابن بطوطة صوب القدس. وفي طريقه إليها، زار بيت لحم، حيث يقع موقع ميلاد عيسى عليه السلام. ووثق زيارته للموقع وللنخلة التي يُقال إنها جذع النخلة التي استنارت عندها مريم عند ولادة عيسى. وتحدث عن عمارة كثيرة تحيط بهذا الموقع والاحترام الكبير الذي يظهره النصارى له.
هذا الاحترام يعطي لعبّادها وزائريها حرية التنقل والاستضافة من أبناء ملّتهم على ضريبة معلومة ذكرها ابن بطوطة في زيارته لكنيسة القيامة فيما بعد، رغم الحروب الصليبية الشرسة التي دامت لقرنين في تلك البقاع التي كان المماليك هم مَن أنهوها بصورة كاملة بعد جهود صلاح الدين الأيوبي.
الوصول ابن بطوطة إلى القدس
بعد وصوله إلى بيت المقدس، عبّرالرحالة المغربي ابن بطوطة عن إعجابه الكبير بالمدينة المقدسة ومشهد المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة. قدم مدحاً فائقاً لجمال وروعة المسجد الأقصى، حيث قال: "المسجد المقدس، وهو من المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحسن، يُقال إنه ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه."
لا يجب أن يفاجأ أحد من هذا الوصف، وذلك لسببين رئيسيين؛ أولاً، لأنه لم يكن قد زار المسجد الحرام في مكة المشرفة حتى تلك اللحظة، وثانياً، لأن المسجد الحرام في مكة المشرفة نفسه لم يكن بالمساحة الحالية التي هو عليها اليوم.
ابتهج ابن بطوطة بجمال المدينة المقدسة وأوردها بشكل مفصل، مع التركيز على الأماكن المقدسة مثل المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة. وكانت رحلته تشمل أيضاً التعرف على المغاربة، الذين اختاروا القدس مكاناً للإقامة التي لا يزال حي تحت اسمهم وباب أيضاً في القدس.
وأشار أيضاً إلى بعض الأندلسيين الذين عاشوا في المدينة وأورد ذكر المدرس المالكي وشيخ الخانقات الكريمة، أبو عبد الله محمد بن مثبت الغرناطي، الذي كان نزيلاً في القدس. وذكر أيضاً بعض علماء وأشياخ القدس الآخرين، بما في ذلك بعض آل سالم السادة في غزة.
من بيت المقدس إلى عسقلان
عند وصوله إلى القدس، توجّه ابن بطوطة إلى عسقلان بدلاً من الاتجاه إلى دمشق. كان صلاح الدين الأيوبي قد دمر عسقلان لمنع الصليبيين من استخدامها كقاعدة لمهاجمة غزة وسيناء. استمرت عسقلان في الخراب منذ عصر صلاح الدين حتى وقت وصول ابن بطوطة، وقد رصدت هذه الحالة في كتاب "معجم البلدان" للمؤرخ ياقوت الحموي.
وصف ابن بطوطة آثار عسقلان كرسوم طامسة وأطلال دارسة، ووصف المكان بأنه جمع بين المحاسن في الإتقان والجمال والضياء والأصالة المكانية. كان يرى في عسقلان مكاناً كان يجمع بين مميزات البر والبحر، وأشار إلى المشهد الشهير الذي كان فيه رأس الحسين بن علي قبل نقله إلى القاهرة.
ابن بطوطة استمتع بزيارة عسقلان وتأمل في الأطلال التي كانت تجسد مرور الزمن. كما زار مساجد المدينة، التي باتت أطلالاً باهتة، وتفحص منابرها ومحاريبها وزخارفها التي كانت قد تركتها الأوقاف الساجدة. وفي ختام زيارته للمدينة، توجّه إلى مقبرتها حيث كان هناك "قيم" أو حارس يأخذ راتبه من دواوين المماليك في مصر، ووقف عند قبور الشهداء والأولياء، التي كانت تشهد على تاريخ المكان وكان يديرها القيم المذكور.
الوصف من نابلس إلى الرملة
بعد زيارته لعسقلان، قرر الرحالة المغربي ابن بطوطة استكشاف مدن فلسطين الأخرى، بدءاً أولاً من مدينة الرملة، ثم توجّه إلى نابلس. عند وصوله إلى الرملة، وصفها كمدينة كبيرة وغنية بالخيرات، مع أسواق جميلة وجامع أبيض. وفي هذا السياق، ذكر الناس المحليين يعتقدون أن هناك 300 نبي مدفونين في قبلة الجامع.
ثم انتقل بعدها إلى مدينة نابلس، حيث لاحظ صناعة الحلوى المشهورة في المنطقة، وتحديداً حلواء الخروب. ووصف عملية إعداد هذه الحلوى حيث يُطهى الخروب ثم يُعصر للحصول على الرب، الذي يُستخدم لإعداد الحلوى.
كما أشار إلى أن هذه الحلوى يتم نقلها إلى دمشق وغيرها من المدن. كما شهد في نابلس صناعة زيت الزيتون الصافي، الذي يُصدر إلى العديد من البلدان من بينها مصر ودمشق في سوريا.
يُظهر الوصف الذي قدمه ابن بطوطة عن نابلس أن المدينة كانت تتمتع بغنى من الزيتون والمياه وكثرة الأشجار والمحاصيل، مما سهم في تصدير منتجاتها إلى المدن القريبة.
عكا.. من مدينة إلى خراب
عند دخول ابن بطوطة إلى مدينة عكا وجدها في حالة خراب، حيث كانت قاعدة للإفرنج في بلاد الشام وميناءً لسُفنهم. قد استمتع بزيارتها في ذلك الوقت؛ حيث كانت تحت سيطرة المسلمين، وتحظى بالأمان. ومن ثمَّ، انطلق إلى الأردن ومنه إلى مدينة اللاذقية.
على غير المتوقع، عاد إلى فلسطين ليكتشف مدينة عكا من جديد. كانت عكا قد استعادها الصليبيون من صلاح الدين الأيوبي في حملة ريتشارد قلب الأسد، ملك بريطانيا، وفيليب ملك فرنسا، سنة 587 هـ. بقيت المدينة محل صراع حتى جاء السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون سنة 690 هـ. قرر تدمير المدينة وتخريبها لقطع آمال الصليبيين في العودة واستغلالها كمركز.
عند دخول ابن بطوطة في سنة 726 هـ، وجد المدينة في حالة من الخراب. كانت عكا قاعدة للإفرنج في بلاد الشام وميناءً لسُفنهم. وصف المدينة بأنها تشبه قسطنطينية العظمى، وتحدث عن عين الماء المعروفة بعين البقر.
العودة إلى فلسطين ومدينة طبرية
عندما انطلق ابن بطوطة إلى مدينة صور في الشمال، عاد إلى فلسطين ليستكشف مدينة طبرية. وصف المدينة بأنها كانت في الماضي مدينةً كبيرةً، ولكنها أصبحت أقل شأناً وأضيق مساحةً من قبل. ومع ذلك، كان اهتمام ابن بطوطة يتجه نحو زيارة المساجد ومقامات الأنبياء والأولياء واكتساب المعرفة بتواريخهم.
في طبريا، زار مسجداً يُعرف بمسجد الأنبياء، الذي يضم قبور النبي شعيب عليه السلام وابنته زوجة النبي موسى عليه السلام، وقبر النبي سليمان عليه السلام، وقبر يهودا وروبيل. توجه إلى الجُب الذي ألقي فيه النبي يوسف عليه السلام، ووجد أن الماء ينبع من هذا الجب، حيث شرب من ماء المطر الذي يجتمع فيه، وأخبره قيّم المكان أن الماء أيضاً ينبع من الجب.
أثنى ابن بطوطة على ينابيع المياه في طبرية، وبين أن بعضها كانت مياهاً كبريتية ساخنة يعرفها الرومان منذ العصور القديمة. استغل سكان المدينة هذه النعمة وأقاموا حماماتٍ عجيبة، تنقسم إلى قسمين، أحدهما للرجال، والآخر للنساء، وكانت مياهها ذات حرارة شديدة. كما أشار إلى البحيرة الشهيرة في المدينة التي كانت تتمتع بأبعاد كبيرة.
تعتبر رحلة ابن بطوطة لفلسطين من بين أكثر الرحلات القديمة التي تصف المدن في تلك الفترة، وطرق عيش الناس خلال تلك الفترة الزمنية، ما يبين أن فلسطين كانت بلداً آمناً لولا التدخل الصهيوني واحتلاله للأراضي الفلسطينية أواسط القرن الماضي بسبب الانتداب البريطاني فيها.