استطاعت المقاومة الفلسطينية، بتوظيفها ل الإعلام الحربي منذ السابع من أكتوبر 2023، وذلك باتّصالها بالجماهير بواسطة خطابات ناطقها العسكري "أبو عبيدة"، و بثّ فيديوهات استهدافها لجنود وآليات الاحتلال، جذب الرأي العام العالمي لصفّها والتأثير على تقديرات الدول الغربية التي تقف مع دولة الاحتلال.
حيث كانت ثمة، ومنذ القدم، حاجة من قبل الشعوب لمعرفة أنباء الجيوش والحروب تبعاً لوسائل النشر المتاحة في كل عصر.. يزيد ذلك ثقتها في قوّتها العسكرية، ويعمّق شعورها بالانتماء.. حتى صار في عصرنا أداة لا يمكن الاستغناء عنها من أدوات الحرب.
ظهور الإعلام الحربي في مصر الفرعونية
يحفل التاريخ الفرعوني الممتدّ إلى نحو 3 آلاف عام من 3200 قبل الميلاد حتى دخول الإسكندر الأكبر مصر عام 323 قبل الميلاد، بالكثير من الأحداث المحفورة على الحجر من الجانبين..
تضمّنت بعض مواد هذه الصحف أخباراً عن المعارك وذكريات القادة وبطولات الجنود، كما كانت الصحف الأثرية تحتوي على رموز بطولية على غرار رسم ثور ينطح قلعة، كناية عن انتصار الملك على أعدائه.
انتصارات الفرعون "مينا" على حجر الرشيد
وتعدّ أقدم صحيفة في العصر الفرعوني هي تلك التي نُقشت على حجر رشيد الشهير، والذي كان
الاكتشاف الأوّل لسرّ الكتابة المصرية، حيث وجد من هذا الحجر نسختين، تم أخذ إحداها من قبل
القوات البريطانية، خلال حملة بونابرت، ونقلت إلى المتحف البريطاني، وعثر على النسخة الثانية لاحقاً، وهي الآن المتحف المصري بالقاهرة وفق دراسة بعنوان "تاريخ وتطور الصحافة العسكرية من
الفترة الفرعونية حتى الوقت الحاضر" لصفاء عبد الحي محمد عزام.
أشرف على تحرير الصحيفة الحجريّة من يُدعى "بتاح"، وقد جرى توزيعها على قادة الجيش وعدد من الحكام، وبلغ مجموع نسخها 100 نسخة تقريباً، نُحتت عليها صورة الفرعون العظيم "مينا" المُلقّب بموحّد القطرين، وهو فرعون من الأسرة المصرية الأولى مدينة طيبة (الأقصر حالياً)، وكان حوله مجموعة من الأسرى الذين قُطعت رؤوسهم ووُضعت بين أقدامهم.
الإعلام الحربي في عهد الأسرة الفرعونية السادسة
وفي عهدها كانت الأسرة المصرية السادسة -والتي تُعتبر الأسرة الأخيرة في المملكة المصرية القديمة، حيث حكمت مصر لمدة 164 عاماً (من عام 2345 إلى عام 2181 قبل الميلاد) ومؤسسها هو الملك تتي- كانت تقوم بمهمة المراسل الحربي،حيث كانت تقوم بتسجيل معاركها وانتصاراتها على الحجر.
انطوت هذه الصفحة من تاريخ الصحافة العسكرية في مصر بانتهاء عصر الأسرات، وبدء الاحتلال الأجنبي لمصر.
كيف وثّق الإعلام الحربي لأوّل معارك التاريخ
حملة "بيبي" التي شنّها على فلسطين
كان القائد المصري "ووني" من رجال الفرعون "بيبي الأول" من ملوك الأسرة السادسة، يسجّل أخبار معاركه على الحجر في مجموعة من النقوش علي أشتات من الآثار.
ومن بين الموضوعات التي عالجها هذا المراسل الحربي حملة "بيبي" التي شنّها على فلسطين عام 2340 ق.م والتي تُعد الأولى من نوعها في تاريخ مصر، كما أنّها الحملة الوحيدة التي اشترك فيها الجيش والأسطول ودوّنها لنا التاريخ، وسار على دربها عدد كبير من فراعين مصر وقادتهم.
تروي جدران المعابد والقلاع في طيبة وممفيس وهليوبوليس وأبيدوس الواقعة في جنوب مصر قصص الانتصار، ولم يغفل المصريون عن التطور، فاستخدموا بعد ذلك الجلد وورق البردي مع الحفاظ على تقليد النحت على الأحجار.
حروب "رمسيس الثالث"
نجد على جدران معبد مدينة "هابو" عاصمة مصر القديمة "طيبة" النقش الخاص بمعارك
"رمسيس الثالث" من عام 1186 إلى عام 1155 قبل الميلاد، كأنه بالأمس حيث كان التسجيل طريقة للملوك.
المطبوعات العسكرية الطينية في العراق القديم
كان المراسلون في ذلك العصر يقومون بتسجيل الأحداث على الطين؛ حيث تم العثور على "مطبوعات عسكرية" في مدينة نينوى، عاصمة دولة آشور، التي يرجع تاريخها لعام 6000 ق. م، توثّق لعصر الملك "آشور-نيبال" وفتح مصر.
صحيفة القصر للمؤرخ هيرودوت
يحدثنا الصحفي محمود الجوهري في مؤلفه "المراسل العسكري" ص 18-19، عن صحيفة القصر التي تعود لعصور الفراعنة، وهي صحيفة هزلية جاء ذكرها على لسان المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي عاش ما بين (نحو 484 ق.م – 425 ق.م) وصف الصحيفة بأنّها كانت تمجّد إنجازات الملوك والفراعنة بغرض الحفاظ على موالاة الناس للفراعنة حتى يسود حكمهم في الدولة.
كيف تطوّر الإعلام الحربي مع اكتشاف الأبجدية؟
حين اكتُشفت الهيروغليفية المصرية، أي منذ 1800 عام ق. م، بدأت أولى خطوات الكتابة
على ورق البردي، وهي ورقة تصنع عن طريق وضع القليل من الغراء في الماء، ومن ثم غليه على النار.
أدرك البشر في تلك العصور أنّ استخدام ورق البردي والجلود أقلّ ثقلاً في حملها من قطع الفخار
والحجر الذي كانوا يستخدمونه من قبل، كما لم يكن من السهل تمزيق ورق البردي ولونه،
كان يشبه اللون الأبيض أو الأصفر الفاتح، لذلك قاموا بإعداد دوريات صحفية من ورق البردي، يعود تاريخها إلى 4000 سنة قبل الميلاد.
تحتوي هذه الدوريات على توجيهات للشعوب ذات أهمية قصوى حول التعامل مع أحداث الحرب، كما تؤرخ لقدرات الجيش وتحركات القادة. ليأتي بعد ذلك الدور للقلم والحبر والورق والحروف التي كان لها الفضل في تسجيل تاريخ الفراعنة العظماء، كما جاء في مؤلف "حقوق الإنسان في مصر الفرعونية" لمحمود سلام الزناتي.
النزاعات المسلّحة وتطوّر الإعلام العسكري
يعتبر محمد الجواهري في مؤلفه "الصحافة والحرب" أنّ أحد أسباب تطوّر الصحافة العسكرية هي اندلاع النزاعات المسلحة، حيث ألزمت هذه الصراعات إرسال الصحفيين إلى مواقع القتال، ومن هنا نشأ مفهوم المراسل الحربي، الذي يسافر لنقل أخبار ساحة المعركة للجمهور من خلال وسائل الإعلام الصحفية والإذاعة أو التلفزيون، سواء كانوا مراسلين مصاحبين للقوات المسلحة أو حاملي الكاميرات لتغطية الحالات الإنسانية التي تحدث أثناء هذه النزاعات..
ومن هنا نشأت العديد من الصحف الرسمية في الوطن العربي، مثل يومية الخديوي المصرية عام 1813م، والجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) سنة 1828م والجريدة العسكرية التي طبعتها الصحافة الجهادية عام 1833م.
وفي أوروبا كانت المتابعة تكون إمّا عن طريق تقارير يصدرها القادة أو من خلال برقيات
وكالات الأنباء التي ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر.
الإعلام الحربي النفسي سلاح تاريخي ضد العدو
تُعرّف الحرب النفسية على أنها تشمل استخدام الدعاية ضد العدو بالتوازي مع وسائل أخرى ذات طبيعة عسكرية أو اقتصادية مكملة للنشاط الدعائي. أي إنّها تقع ضمن خطة استراتيجية تقوم على أسس نفسية مدروسة.
كان اوّل سلاح استخدمته الدول المتقدّمة في الحرب النفسية ضدّ عدوّها هي محطات الراديو بين عام 1920 و1921م، بدأت موسكو ببثه باللغة الأجنبية في منتصف العشرينيات، وبعد بضع سنوات
وجهت إيطاليا خطابها عن طريق الراديو إلى شمال أفريقيا والشرق الأوسط للتأثير على العالم العربي
وكسب تأييده؛ حيث شكّلت تلك الفترة حقبة من التغييرات الجذرية في المجالات السياسية والاجتماعية التي مهدت الطريق للقرن التالي.. كما جاء في كتاب د. عبد اللطيف حمزة " الإعلام لديه
تاريخه ومذاهبه "
في أوائل عام 1938، بدأت محطة البث البريطانية في الإرسال باللغة العربية لمواجهة الإيطاليين المناهضين لبريطانيا كنوع من الدعاية الحربية في العالم العربي. وفي شهر مارس من العام نفسه، شرعت بريطانيا في بث برامج أخرى على موجات الراديو باللغتين الإسبانية والبرتغالية
موجّهة لأمريكا اللاتينية.
وبعد "أزمة ميونخ" بدأت ألمانيا تبث برامجها مباشرة تجاه أوروبا باللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية، كما زاد اهتمام إنجلترا بعد الحرب بتوفير محطات إذاعية قوية لأوروبا والعالم، شهد الراديو بذلك تقدّماً سريعاً في الخدمات بين عامي 1942 و1943م، وأصبح الراديو سلاحاً خطيراً في
الحرب النفسية من قبل بريطانيا ضد ألمانيا وحلفائها.
الإعلام الحربي في القرن الحادي والعشرين:
عام 1969م رأت وزارة الدفاع الأمريكية أنّها بحاجة إلى شبكة اتصالات تمكّنها من الصمود خلال الحرب، وكان الهدف تصميم شبكة إذا تم تدمير جزء منها بسلاح نووي، يمكنها إرسال الرسالة والعثور على وجهتها، كانت البداية مع 3 أجهزة كمبيوتر في كاليفورنيا، لتمتدّ على أثرها شبكة الإنترنت إلى الولايات الأمريكية بأكملها.
أما بالنسبة للدول العربية، تمّ إطلاق أول قمر صناعي عربي في 9 فبراير عام 1985، تشمل خدماته 24 محطة إذاعية وتلفزيونية.
الثورات العربية موقدة الإعلام الحربي
مثّلت حادثة الانتحار المأساوية للبائع التونسي الجوال محمد البوعزيزي (26 عاماً) الذي أضرم النار في نفسه بعد أن تعرض للإذلال من مسؤولين في الدولة، الشرارة التي أطلقت الربيع العربي.
وإذا كان تصرفه اليائس في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 عبّر عن غضب حقيقي كان يشعر به الملايين، فإن العالم الافتراضي للتواصل عبر الإنترنت هو ما نشر الغضب والأمل في التغيير كالنار في الهشيم.
وتم تسخير السخط الذي كان يُطبَخ على نار هادئة منذ فترة طويلة في الأوساط الشعبية الفقيرة، وعرف الناشطون البارعون في مجال التكنولوجيا والمتحدرون ومعظمهم من الطبقة الوسطى، كيف يضاعفونه لتظهر حركة جماهيرية ما لبثت أن انتشرت من المغرب إلى إيران..
و منذ ذلك الحين تشكّلت صورة جديدة للإعلام الحربي لا تقتصر على أجهزة الراديو أو التلفزيون فقط، بل تتعداها أيضاً إلى الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي كأداة للتوعية والتعبئة الشعبية لتكون معيل الثورات والانتفاضات وحاضنها..