بدأ البحث عن تابوت العهد وإعادة بناء هيكل سليمان منذ القرن التاسع عشر، وكان السبب في اندلاع العديد من الثورات في فلسطين، آخرها طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ما دفع إسرائيل إلى قصف قطاع غزة؛ ما أدى إلى استشهاد أكثر من 10 آلاف شخص، من بينهم أكثر من 4000 طفل و2000 امرأة.
بدأت إسرائيل البحث عن تابوت العهد استناداً على مزاعم تاريخية لليهود تمهيداً لإصدار "وعد بلفور"، وهو بيان علنيّ أصدرته الحكومة البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى لإعلان دعم تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، التي كانت منطقة عثمانية ذات أقلية يهودية، كما ظهرت كتابات يهودية في كبريات الصحف الغربية تدعو إلى إعادة بناء الهيكل في فلسطين.
كانت أولى الخطوات العملية في هذا الاتجاه يوم 20 مارس سنة 1918، حينما وصلت بعثة يهودية بقيادة حاييم وايزمان إلى القدس، وقدمت طلباً إلى الحاكم العسكري البريطاني آنذاك الجنرال "ستورز" تطالبه بإنشاء جامعة عبرية في القدس وتسلُّم حائط البراق.
حائط البراق هو الجدار الذي يحد الحرم القدسي من الجهة الغربية، كما يشكل قسماً من الحائط الغربي للحرم المحيط بالمسجد الأقصى، يمتد الحائط بين باب المغاربة جنوباً، والمدرسة التنكزية شمالاً، يعتبر اليهود هذا الحائط ملكاً لهم، إضافة إلى مشروع لتملك أراضٍ في المدينة المقدسة.
فما هو تابوت العهد؟ وما هو هيكل سليمان الذي تسعى إسرائيل إلى إعادة بنائه داخل القدس؟
تاريخ تابوت العهد وهيكل سليمان
يعتبر الهيكل عند اليهود هو مكان العبادة المقدس، فخلال الفترة ما بين نبي الله موسى والنبي سليمان -عليهما السلام- لم يكن لليهود مكان عبادة مقدس وثابت، فيما كانت لوحات الوصايا العشر توضع في تابوت أطلق عليه اسم "تابوت العهد".
سمي هذا التابوت باسم تابوت العهد في كل من الديانة اليهودية والمسيحية، فيما سمي في الإسلام بتابوت السكينة كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى بسورة البقرة: (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين).
خصص لتابوت العهد خيمة عرفت حينها بـ"خيمة الاجتماع"، ترحل مع اليهود أينما ذهبوا وارتحلو، فيما مرت قصة الهيكل بعدة أطوار عبر التاريخ منذ أن بناه النبي سليمان -عليه السلام-، والذي امتد حكمه بين عامي 965 و928 قبل الميلاد.
أطلق على البناء في عهد نبي الله سليمان اسم "الهيكل"، وكان مكان وضع تابوت العهد الذي يحتوي على الوصايا العشر، غير أن هذا البناء تعرض للتدمير على يد القائد البابلي نبوخذ نصر أثناء غزوه لأورشليم "القدس حالياً" سنة 586 قبل الميلاد.
وفي سنة 538 قبل الميلاد استولى الفرس على كل من سوريا وفلسطين، فيما سمح الملك قورش لبعض الأسرى اليهود بالرجوع إلى القدس، وأمر بإعادة بناء الهيكل، ظلت فلسطين تحت الحكم الفارسي إلى أن فتحها الإسكندر المقدوني سنة 332 قبل الميلاد.
فيما تأرجحت السيطرة على القدس في عهد خلفائه بين البطالمة والسلوقيين، وقد تأثر السكان في العهد الهيلنستي بالحضارة الإغريقية، وقام الملك السلوقي أنطيخوس الرابع حوالي عام 165 قبل الميلاد بتدمير الهيكل، وأرغم اليهود على اعتناق الديانة الوثنية اليونانية بعدما علم تآمرهم على حكمه، الأمر الذي ترتب عليه اندلاع ثورة المكابيين، والتي نجح اليهود على إثرها في نيل الاستقلال بالقدس تحت حكم الحاسمونيين من سنة 135 إلى 76 قبل الميلاد.
هيكل سليمان واليهود ما بعد الميلاد إلى الفتح الإسلامي
بعد فترة من الاضطرابات، تمكنت القوات الرومانية من السيطرة على كل من سوريا وفلسطين. خلال سنة 63 قبل الميلاد، دخل القائد الروماني "بومبي" إلى أورشليم "القدس" ومنح اليهود بعضاً من الحكم الذاتي.
أما سنة 37 قبل الميلاد، تم تعيين "هيرودس الأدومي" ملكاً للجليل، كما اعتنق حينها اليهودية. واستمر حكمه تحت اسم الرومان إلى حدود السنة الرابعة للميلاد.
في عهد الإمبراطور نيرون، اندلعت ثورة اليهود ضد الرومان، حيث قاد القائد "تيتوس" سنة 70 للميلاد الاحتلال لمدينة أورشليم، وشهدت حرق الهيكل وفقدان عدد كبير من الأرواح.
أما سنة 135، فاندلعت ثورة يهودية جديدة في عهد الإمبراطور هادريانوس، حيث طالب اليهود بإعادة بناء الهيكل. ومع ذلك، تمت السيطرة على تلك الثورة في السنة نفسها، ما أدى إلى تدمير مدينة أورشليم وتأسيس مستعمرة رومانية محلية، ومنع اليهود من دخولها، وأطلق عليها اسم "إيليا كابيتولينا".
بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين للمسيحية في الفترة بين 330 و683 للميلاد، تمت إعادة اسم أورشليم، وقامت والدته هيلانه ببناء الكنائس في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك، استمر اسم إيلياء في الاستخدام بين الناس حتى فتحها المسلمون، حيث تسلّمها الخليفة عمر بن الخطاب سنة 15هـ/636 للميلاد.
يعتبر فتح القدس جزءاً من الصراع العسكري الذي وقع في 637م الموافق 16 للهجرة بين الخلافة الراشدة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية. وقد بدأ عندما قام جيش المسلمين تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح بمحاصرة القدس في نوفمبر/تشرين الثاني سنة 636.
وبعد 6 أشهر، وافق البطريرك صفرونيوس على الاستسلام، بشرط قدوم الخليفة الراشد. وفي عام 637، سافر الخليفة عمر بن الخطاب إلى القدس لتسلّم مفاتيح المدينة.
الفتح الإسلامي لمدينة القدس أكد توطيد السيطرة الإسلامية على فلسطين التي لم تهدد مرة أخرى حتى الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر وحتى القرن الثالث عشر.
فكرة إحياء الهيكل من نتاج الحركة الصهيونية
حاولت الحركة الصهيونية منذ القرن التاسع عشر استغلال قصة الهيكل وبعثها من طيات التاريخ القديم كحيلة لاحتلال فلسطين، في حين أن الحقائق التاريخية تثبت أن اليهود لم يكن لهم كيان سياسي إلا لمدة 70 سنة، وهي المدة التي تولى فيها نبيَّا الله داود وسليمان -عليهما السلام- الملك في الفترة من سنة 1000 قبل الميلاد حتى سنة 928 قبل الميلاد.
كانت فلسطين عربية إسلامية منذ الفتح الإسلامي لها في القرن السابع الميلادي حتى الآن، والفترة القصيرة التي كوّن فيها اليهود مملكتهم لا تخوّل لهم سنداً تاريخاً للمطالبة بفلسطين.
يؤكد المتطرفون من الحركة الصهيونية على زعمهم بأن مكان الهيكل الذي دمر عام 70 هو نفسه المكان الذي بني فيه المسجد الأقصى. وقد فنّد العديد من المؤرخين والأثريين المسلمين هذه المزاعم، ومن ذلك أن المسجد الأقصى قد بُني قبل ظهور نبي الله سليمان بأكثر من ألف عام، وبقي منذ ذلك التاريخ وصولاً إلى اليوم.
كما استدل معظم العلماء المسلمين على أن الذي بنى المسجد الأقصى هو نبي من أنبياء الله، سواء أكان آدم أم إبراهيم أم يعقوب، وأن الذي بنى الهيكل هو نبي كذلك، وهو سليمان، وليس من المقبول عقلاً أن يأتي نبي ليهدم مكاناً بناه نبي قبله ليشيد على أنقاضه هيكلاً له.
وردت في المصادر المختلفة إشارات إلى بناء الهيكل وهدمه عدة مرات، لكن لم ترد إشارة واحدة إلى هدم المسجد الأقصى، ما يؤكد أن مكان الهيكل ليس محل المسجد الأقصى، إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلية قامت بالحفر في مناطق متعددة أسفل الحرم القدسي منذ سنة 1967 وصولاً إلى اليوم، ما تسبب في قيام طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ورغم ذلك لم تجد إسرائيل أي أثر يدل على أن هذا المكان كان فيه في يوم من الأيام هيكل.
إسرائيل وحلم إعادة بناء الهيكل
في عصرنا الحالي وخلال الانتداب البريطاني في الأراضي الفلسطينية اندلعت ثورة عرفت بثورة البراق سنة 1929، عقب اقتحام مجموعة من اليهود حائط البراق في القدس؛ ما دفع إلى خروج مظاهرات عنيفة اشتبك فيها المسلمون مع مجموعة من الإسرائيليين الذين أرادوا اقتحام المسجد الأقصى وإقامة حفلات دينية في حائط البراق.
أسفرت المظاهرات عن إنشاء جمعية "حراسة المسجد الأقصى" التي انتشرت فروعها في معظم المدن الفلسطينية، واشترك المسيحيون مع قادة الحركة الوطنية في الدفاع عن الأراضي الفلسطينية، فانتخبت في تلك الفترة اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي المسيحي التي قامت بعدة زيارات خارجية للدول العربية وبعض العواصم الأوروبية، لتحذر من الخطر المحدق بالمسجد الأقصى، ومحاولات اليهود بناء هيكل لهم على أنقاضه.
نتيجة للتحركات السياسية والاضطرابات، أسست عصبة الأمم لجنة دولية للتحقيق في ملكية الحائط. أصدرت التقرير الخاص بها في عام 1930، حيث أكدت أن ملكية الحائط وحق التصرف فيه يعود للمسلمين، نظرًا لكونه جزءاً لا يتجزأ من الحرم الشريف. وأشارت إلى أن الرصيف الذي يستخدمه اليهود لصلواتهم هو أيضاً ملك للمسلمين.
في إطار محاولات هدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان محله، قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية في 21 أغسطس 1969 بقطع المياه عن منطقة الحرم، ومنعت المواطنين العرب من الاقتراب منه. في هذا السياق، حاول أحد المتطرفين اليهود إشعال النيران في المسجد الأقصى.
ورغم استماتة المسلمين والمسيحيين في عمليات الإطفاء، اندلعت النيران وكادت تلامس قبة المسجد. تمت جهود الإطفاء رغم عرقلة السلطات الإسرائيلية، ولكن الحريق تسبب في تلف منبر صلاح الدين واشتعال النيران في سطح المسجد الجنوبي وسقف ثلاثة أروقة.
بعد سنة من الحريق نشبت حرب 1967 أو نكسة 67، أو كما يسميها الإسرائيليون بحرب الأيام الستة، والتي كانت بين كل من مصر وسوريا والأردن والعراق ضد الاحتلال الإسرائيلي.
أدت هذه الحرب إلى احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، وتعتبر ثالث حرب ضمن الصراع العربي الإسرائيلي، وقد أدت الحرب إلى مقتل ما بين 15 و25 ألف شخص في الدول العربية مقابل 800 في إسرائيل، وتدمير قرابة 80% من العتاد الحربي في الدول العربية مقابل 5% في إسرائيل.
لم تنته تبعات حرب 1967 حتى اليوم، إذ لا تَزال إسرائيل تحتلّ الضفة الغربية، كما أنها قامت بضم القدس والجولان لحدودها، وكان من تبعاتها أيضاً نشوب حرب أكتوبر عام 1973، وفصل الضفة الغربيّة عن السيادة الأردنيّة، وقبول العرب منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 بمبدأ "الأرض مقابل السلام".
ينصّ المؤتمر على العودة لما قبل حدود الحرب لقاء اعتراف العرب بإسرائيل، والسلام معها، رغم أن دولاً عربيّة عديدة باتت تقيم علاقات منفردة مع إسرائيل، سياسيّة أو اقتصادية.