مع هجوم "حماس" على قواعد ومستوطنات ومدن الاحتلال الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، عاد مصطلح "المكارثية" إلى الواجهة من جديد، وسط حملات الترهيب والتهويل ضدّ كلّ من تسوّل له نفسه إدانة ردة الفعل الإسرائيلية الوحشية تجاه أهالي غزة.
و"المكارثية" (McCarthyism) هي مصطلح أمريكي انتشر قبل أكثر من 70 عاماً، عندما استيقظت الولايات المتحدة فجأة على سؤالٍ مصيري -سيصبح الأكثر رعباً لسنواتٍ لاحقة- صارت تطرحه على كل مواطنٍ أو مقيمٍ فيها: "هل أنتَ شيوعي، أو كنتَ شيوعياً يوماً ما؟".
يتكرر الأمر نفسه اليوم، مع سؤالٍ يبدو أنه سيتربع على قائمة الأكثر رعباً في أمريكا وأوروبا طيلة الفترة المقبلة، وهو: "هل تدين حماس؟"، ليس مهماً أن تقصف إسرائيل غزة بشكلٍ أعمى، وتقتل في ظرف شهرٍ واحد فقط أكثر من 10 آلاف مدني، فالأهم هو "هل تدين حماس؟"
تسيطر السردية الإسرائيلية على الإعلام الغربي المهيمن، الذي لا يكلّف نفسه عناء التحقق من صحتها قبل تداولها. قال الرئيس الأمريكي إنه "لم يكن يعتقد أنه سيرى صوراً لإرهابيين يقطعون رؤوس الأطفال"، فهذه حقيقة غير قابلة للشك.
ينهار الإعلام الأمريكي والأوروبي ويؤكد خبر قطع الرؤوس، وينتقل خلاله كالنار في الهشيم، حتى بعد أن نقلت صحيفة "واشنطن بوست" لاحقاً -عن متحدث باسم البيت الأبيض قوله- إنه "لا الرئيس بايدن ولا أي مسؤول أمريكي رأى أي صورٍ، أو تأكد من صحة تقارير بشأن ذلك".
في المقابل، لا يصدّق الإعلام نفسه الفلسطينيين، حتى لو حملوا جثث أطفالهم أمام الكاميرا. إسرائيل تقتلهم مباشرةً على الهواء، وهو -أي الإعلام ومعه المجتمع الغربي- يشكّ فيهم وفي سرديتهم.
هذا بالضبط ما حصل في الولايات المتحدة قبل أكثر من 70 عاماً، حين انتشر مصطلح "المكارثية" وصار الإعلام يتناقل معلومات مغلوطة بمجرّد أن يتفوه بها عضو في الكونغرس، من دون التحقق من صحتها؛ حتى صارت الشيوعية تهمة تدمّر حياة صاحبها إلى الأبد.
فما هو مفهوم المكارثية؟ ومن أطلقه؟
في عام 1948، نجح شابٌ يُدعى جوزيف مكارثي في انتخابات الكونغرس الأمريكي، عندما كان في الثلاثينيات من عمره؛ فأصبح أصغر أعضاء المجلس سناً. كان مسيحياً ملتزماً بديانته، ومتحمساً لبلاده، فقد خدم في الجيش الأمريكي وبدا أن مفهومه عن الوطنية متطرف نوعاً ما.
في فبراير/شباط 1950، وخلال خطابه أمام إحدى الجمعيات النسائية في ذكرى وفاة الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن، أخرج جوزيف مكارثي أوراقاً بحوزته ولوّح بها عالياً مدعياً أنها تضمّ قائمة بـ205 موظفين يعملون في وزارة الخارجية الأمريكية، ويشتبه بأنهم جواسيس شيوعيون.
انطلقت عقب ذلك حملة مطاردة شاملة وغير مسبوقة في الولايات المتحدة، أدت إلى اعتقال آلاف الشيوعيين -أو الذين يُشتبه بامتلاكهم توجهات شيوعية- ومن ثم محاكمتهم أمام القضاء بتهمة محاولة الانقلاب على الحكم، بالقوة أو العنف.
حدث ذلك خلال ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين بنظامٍ اقتصادي رأسمالي، وبين الاتحاد السوفييتي الذي سيطر على أوروبا بعد انتصاره على ألمانيا النازية، وفرض الشيوعية على الدول الواقعة تحت سيطرتها.
استغل مكارثي حالة الرعب الأمريكية من الانتصارات الشيوعية المتلاحقة في أوروبا وآسيا، بعد وصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في الصين بقيادة الزعيم الشهير ماو تسي تونغ. وقد ترافق ذلك مع وصول الاتحاد السوفييتي إلى سرّ القنبلة الذرية، من خلال الجاسوس يوليوس روزنبرغ وزوجته، اللذين أعدمتهما أمريكا لاحقاً.
هذه الانتصارات الشيوعية كانت أهم ركائز حالة الرعب التي عرف جوزيف مكارثي كيف يستغلها، حتى استطاع أن يفرض تعصّبه على المجتمع الأمريكي الذي صفق له ورحّب به، على اعتبار أنه يدافع عن بلاده.
أما النتيجة، فقد كانت كارثية. سيطرت حالة إرهاب فكري شديدة ضدّ علماء وأكاديميين وشخصيات عامة، وليس فقط ضدّ الموظفين الحكوميين كما بدأت، حتى وصلت إلى هوليوود.
صارت المكارثية دليلاً على الوطنية، وقد نجحت في الوصول إلى داخل الكونغرس بعد إنشاء لجنةٍ خاصة تركزت مهمتها في ملاحقة أي شيوعي داخل الأراضي الأمريكية. وبالطبع، كانت الاتهامات في أغلبيتها الساحقة بلا أي دليل، وتفتقد إلى المنطق، وقد تسببت بفقدان الآلاف من ضحايا المكارثية وظائفهم.
ضحايا المكارثية ونهايتها
بلغت السوريالية ذروتها حين صار جوزيف مكارثي يساعد مكتب التحقيقات الفيدرالية (FBI) في برنامج "مناهضة التجسس"، الذي أنشأه في الخمسينيات وعُرف اختصاراً باسم "كاونتلبرو"، وكانت مهمته مراقبة الشخصيات العامة.
شخصيات كثيرة طالتها الاتهامات، أبرزها الممثل الشهير شارلي شابلن، والكاتب آرثر ميلر، وقبلهما ألبرت أينشتاين، ومارتن لوثر كينغ، وغيرها من الأسماء اللامعة.
وقد وصلت حالة الهوس المكارثية إلى أوبنهايمر، صانع أول قنبلة ذرية في العالم أُلقيت فوق هيروشيما، لارتباطه بصلات مع أعضاء في الحزب الشيوعي -شقيقه كان شيوعياً- لكنه لم ينضمّ يوماً إلى الحزب.
اتُهم أوبنهايمر بتسريبه معلومات عن القنبلة الذرية إلى الاتحاد السوفييتي، واضطرّ إلى الوشاية بأسماء العلماء الشيوعيين الذين كانوا يعملون ضمن فريقه حتى ينقذ نفسه من مسلخ المكارثية؛ وهو ما لم يظهر في فيلم "أوبنهايمر" بنسخته الجديدة في عام 2023.
كانت المكارثية وحشاً حقيقياً كات أن يفتك بالمجتمع الأمريكي، وقد صارت الشيوعية تهمة لكل شخص يرغب مكتب التحقيقات الفيدرالي في أن يزجّ به في السجن، حتى صارت تُعرف بـ"الوباء الأحمر".
أيّدت الأغلبية الأمريكية حملة المكارثية في البداية، وقد سيطر عليهم الخوف من الشيوعية وفقاً للشكل الذي صُوّرت به، لاسيما أن دعاية جوزيف مكارثي لطالما ركزت على فكرة أن الشيوعية "دين يريد القضاء على المسيحية".
لكن فيما بعد، بدأ التأييد الشعبي يخفّ تدريجياً، خصوصاً عندما بدأت أكاذيب مكارثي تظهر إلى العلن، وصار يتهم الناس جزافاً ومن دون تقديم أدلة كافية. كما فشل في إثبات وجود "جيشٍ من الشيوعيين والجواسيس" في وزارة الخارجية، كما ادعى مراراً.
وقد ساهم في خفوت نجم المكارثية أكاديميون وصحفيون وسياسيون امتلكوا الشجاعة الكافية لانتقاد جوزيف مكارثي ومواجهته بالأكاذيب، ولو على حساب حريتهم وسمعتهم، لعلّ أبرزهم الإعلامي إدوارد مارو والأديب آرثر ميلر اللذان تصدّيا بشجاعة للإرهاب الفكري الذي مارسته المكارثية على المجتمع الأمريكي والعالمي.
علاقة المكارثية بالحرب على غزة
في ظلّ حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، والمستمرة منذ أكثر من شهر، تسيطر على المجتمع الأمريكي والأوروبي حالة من الرعب بسبب مفهوم "معاداة السامية".
ورغم أن المصطلح مرتبط بمعاداة الأجانب عموماً والعنصرية تجاه المختلفين إثنياً أو عرقياً أو دينياً، فإنه لا يظهر إلى الواجهة إلا عندما يرتبط بالحديث عن حقوق الفلسطينيين وإعلان التضامن معهم.
والهستيريا المكارثية من كل ما هو فلسطيني وصلت إلى أقصاها؛ فقد كانت بارزة قرارات الفصل التي صدرت بحق صحفيين عرب، قُطعت أرزاقهم بسبب تضامنهم مع أهالي غزة. تزامن ذلك مع مطالباتٍ بفصل أساتذة جامعيين من مناصبهم الإدارية، والتشهير بطلاب، على خلفية إدانتهم للحرب الإسرائيلية على أهالي غزة.
حملة المكارثية تحاول اليوم إخفاء الحضور الفلسطيني من المساحات الأكاديمية، والفنية، والأدبية، والإعلامية، ومن كل مكان في أوروبا وأمريكا. يمكنك فقط أن تساند الإسرائيليين، وإلا فأنتَ معادٍ للسامية.
دار كريستيز للمزادات سحبت لوحتَين للرسام اللبناني أيمن بعلبكي بعنوان "الملثم" و"مجهول"، كان مقرراً بيعهما في مزادها لفنون الشرق الأوسط الحديثة والمعاصرة في لندن، إثر سلسلة شكاوى تلقتها الدار "قد تؤثر على عمليات البيع".
يأتي ذلك قبل أن تعلن كنيسة ساوثوارك في لندن تأجيل حفلٍ خيري للاحتفال بالذكرى العاشرة لمهرجان الموسيقى الفلسطينية لـ"أسبابٍ أمنية".
بدوره، ألغى معرض الكتاب في فرانكفورت فعالية تكريم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي وروايتها "تفصيل ثانوي"، بحجة "جعل الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئية بشكل خاص"؛ مع الإشارة إلى أن ألمانيا هي أكثر الدول الأوروبية تقييداً لأي تعبير عن التضامن مع فلسطين.
وقد وصلت المكارثية إلى داخل الكونغرس الأمريكي الذي صوّت على تطبيق "الرقابة" بحقّ النائبة الديمقراطية رشيدة طليب، بعد انتقادها لحكومة إسرائيل ودور الولايات المتحدة في دعم الحرب التي تُشن على غزة.
طليب هي الفلسطينية – الأمريكية الوحيدة في مجلس الشيوخ الأمريكي، وهذه المرة الثانية التي تواجه فيها تصويتاً مماثلاً، واتهاماً بـ"معاداة السامية" و"نشر سرديات خاطئة"، إضافةً إلى "الدعوة إلى زوال دولة إسرائيل".
وقد سبق لطليب أن نشرت فيديو على منصة "إكس" تتهم فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن بـ"دعم الإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني". ورغم أن هذا الإجراء لا قيمة عملية له، لكنه يكشف الانقسام داخل مجلس الشيوخ الأمريكي.