شهدت ليبيا في 10 سبتمبر/أيلول الجاري كارثةً مأساوية غير مسبوقة، وذلك نتيجة لإعصار دانيال المدمر، الذي ضرب أجزاءً واسعةً من شمالي وشرقي ليبيا، غير أنّ الحصة الكبيرة من تلك المأساة حدثت في مدينة درنة، التي اختفت أجزاءٌ واسعة منها بفعل الفيضان الكبير الذي ضرب المدينة، والذي تسبب في دمارٍ هائلٍ لعدد من الأماكن التاريخية والأثرية بالمدينة، أهمها مقبرة الصحابة والمسجد المحاذي لها.
هذه المقبرة التاريخية التي يمتد عمرها لمئات السنين، وتضم قبور حوالي 70 صحابياً، كانوا ضمن الجيش الإسلامي الذي نشر الإسلام في شمال أفريقيا وتوقف مدةً في منطقة تعدّ الآن جزءاً ليبيّاً، كانت أبرز ضحايا إعصار دانيال في مدينة درنة، فما قصة هذه المقبرة؟
تأسست في القرن الـ11 الهجري وتضم رفات قادة الفتح الإسلامي للمغرب
تمتلك مدينة درنة تاريخاً طويلاً في العهد الإسلامي، فرغم أنّ اسمها لم يبرز في المرحلة الأولى من الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، الذي استمر 70 عاماً، فإنّها عادت لتبرز انطلاقاً من الثلث الأخير من القرن الهجري الأول، بعد أن تحوّلت إلى قاعدة خلفية للجيش الإسلامي.
كما كان للمدينة شرف احتضان أكثر من 70 صحابياً دفنوا تحت ترابها، أبرزهم قادة الجيش الإسلامي في المغرب، زهير بن قيس البلوي، الملقّب بأمير برقة الشجاع، ومساعداه أبو منصور الفارسي وعبد الله بن بر القيسي، الذين تعرضوا أثناء عودتهم من تونس إلى كمين من قبل الجيش الروماني، أدى إلى استشهادهم بدرنة ودفنهم بها.
في عهد الحكم العثماني لليبيا أنشئت مقبرة لضم جميع رفات الصحابة الذين استشهدوا على أرض درنة، وذلك من خلال بناء أضرحة للقادة الثلاثة، زهير بن قيس البلوي، وأبي منصور الفارسي، وعبد الله بن بر القيسي.
أقيمت الأضرحة الثلاثة على مدخل إحدى المغارات المحاذية لوادي درنة، إضافة إلى رفات سبعين صحابياً، وذلك في القرن الحادي عشر الهجري، وأطلق على المقبرة اسم مقبرة محمد بك، نسبةً إلى الحاكم العثماني بليبيا، قبل أن تشيع بين الليبيين باسم مقبرة الصحابة، وتتحوّل إلى مكان ذي قدسية لدى ساكني مدينة درنة.
بُني مسجدٌ على أجزاء من أنقاضها
في سنة 1970 أقيم مسجد باسم مسجد الصحابة على جزءٍ من مقبرة الصحابة في درنة، وذلك بناءً على فكرة من أهالي درنة، الذين أرادوا بناء صرح تتميّز به مدينتهم، فقاموا برفع جزء من رفات مقبرة الصحابة وتشييد مسجد مكانها، واستمرّ العمل في المسجد حتى سنة 1975، تاريخ افتتاح المسجد الرسمي، وذلك بتمويل من سكان المدينة، وأصبح أكبر مسجد في المدينة، وأحد أكبر مساجد ليبيا.
تحوّل المسجد سريعاً بعد تأسيسه إلى مركز ثقافي وعلمي في مدينة درنة، فقد كان يزوره كلّ وافد إلى المدينة، حتى من المسؤولين والأمراء.
ومنذ افتتاحه وإلى عام 2016، عادت مهمة الإمامة في مسجد الصحابة بدرنة إلى الشيخ الليبي محمد جبريل القبايلي، برفقة الشيخ عبد العزيز حجازي.
ويعتبر مسجد الصحابة بدرنة ملتقى اجتماعياً يجمع كل أطياف المدينة من كل الشرائح، حيث تقام جنائزهم وتعازيهم في صالة المناسبات المخصصة لهذا المسجد، لأنه يتوسط المدينة، وبالقرب من أهم أسواقها، وهو سوق الخضار، أو كما يعرف بسوق الصحابة.
تعرّضت إلى الحرق والتدمير في سنوات الثورة قبل أن يجرفها إعصار دانيال
وبقيت مقبرة الصحابة على شكلها طيلة عقود، مزاراً لليبيين من مختلف الأنحاء، إلى أن سقطت درنة في يد تنظيم الدولة سنة 2014، فتعرضت أضرحة القادة الثلاثة إلى التفجير من قِبل عناصر التنظيم، ثم سرعان ما تعرضت المقبرة إلى حريق سنة 2010، نتج عن انفجار مولد للطاقة الكهربائية، التهم الحريق جزءاً من المقبرة قبل أن يسيطر عليه فريق الدفاع المدني الليبي، ويمنع تمدده إلى مسجد الصحابة المجاور للمقبرة.
وبعد الإعصار العنيف الذي ضرب مدينة درنة، في 10 سبتمبر/أيلول 2023، ألحقت الفيضانات العارمة أضراراً بالغة بمسجد الصحابة في مدينة درنة، في الوقت الذي جرفت فيه مقبرة الصحابة المجاورة للمسجد.