في أكبر كارثة من نوعها، تشهدها ليبيا منذ أكثر من 40 عاماً، خلّف "إعصار دانيال" آلاف القتلى والمفقودين جراء السيول التي اجتاحت مدناً عدة في البلاد، أبرزها: درنة، وسوسة، وبنغازي، والبيضاء، والمرج.
وتُعتبر درنة أكثر المدن تضرراً من الإعصار الذي دمّر رُبع المدينة تماماً، وتسبب بوفاة أكثر من 5 آلاف شخص، وسط مخاوف من فقدان نحو 10 آلاف شخص؛ جراء الكارثة التي يُعتقد أن انهيار سدَّي "البلاد" و"سيدي بومنصور" كان سبب تفاقمها.
لكن، ما الذي تعرفه عن تاريخ هذه المدينة العريق التي تمثل عنواناً للجمال والبهاء، في محيطٍ ساحر تملؤه الآثار الضاربة في التاريخ؟
تاريخ مدينة درنة
تأسّست المدينة على يد الإغريق خلال العصر اليوناني القديم، وتحديداً في العصر الهيلينستي، الذي برز في الفترة الممتدة ما بين عامَي 330 و323 قبل الميلاد، بعد فتوحات الإسكندر المقدوني.
حينها، أنشأ الإغريق 4 مدن في شرق ليبيا، كانت "إيراسا" (درنة اليوم) المدينة رقم 5 التي عادت وانضمّت فيما بعد إلى المدن الأربع؛ وبذلك تمّ تأسيس مملكة من 5 مدن مزدهرة، اشتُهرت بجمالها، وفنونها، وعمارتها.
لاحقاً، أصبحت هذه المدن جزءاً من الإمبراطورية الرومانية، وكانت وديانها مركزاً أساسياً لجأ إليها المسيحيون. في تلك الفترة، اعتُبرت المدينة ميناءً مهماً ومركزياً على البحر الأبيض المتوسط.
وقد ظلت درنة مركزاً إدارياً وتجارياً هاماً في تلك الفترة، بفضل مينائها وأراضيها الزراعية الخصبة، إضافة إلى حركة التبادل التجاري والثقافي مع المغرب العربي والشرق الأدنى.
في أواخر القرن الـ15، شكلت المدينة موطناً لشعوبٍ من أصول مختلطة، بعد أن تمّ توطين الأندلسيين المطرودين من إسبانيا، في موقع المستوطنة القديمة بالمدينة.
وخلال العصر العثماني في القرن الـ17، لعبت دوراً حيوياً وكانت مقراً لواحدة من أغنى المناطق في الأقاليم الليبية التابعة للدولة العثمانية، والتي تأسّست مواردها من خلال الهجوم على السفن الأوروبية في البحر المتوسط.
أول ذِكرٍ لاسم درنة جاء على لسان كلوديوس بطليموس، عالم الفلك والجغرافي الإغريقي، حين أشار إلى أن إقليم برقة "ينتهي شرقاً مع حدود مارماريكا على السمت من منفذ درنة". أما سبب تسميتها، فلذلك قصة لم تؤكدها المراجع التاريخية.
يُقال إن البطالمة كانوا يسّمون المدن التي ينشئونها، أو التي يحتلونها، بأسماء ملوكهم وآلهتهم. لكن لم يُعرف أحد من حكام أو ملوك اليونان بهذا الاسم؛ مما يرجح فرضية أن الاسم ليبي الأصل، وقد أبقاه البطالمة على حاله مع إضافة حرف S (درانس)، الذي كان علامة الرفع للاسم المذكر في اللغة اليونانية.
في كتابه "قراءات ليبية"، يخبرنا علي فهمي خشيم معنى كلمة درنة، حين يقول: "أما دارنس، فهي مدينة درنة الحالية، وهي كلمة ليبية أيضاً قد تعني (بين الجبال) أو (وسط الجبال)، كما هو موقع درنة".
ما الذي يميّز المدينة؟
يشطر المدينة مجرى وادي درنة إلى شطرين، وهو أحد الأودية الكبيرة المعروفة في ليبيا، كما يحفل محيطها الجغرافي بمميزات مبهرة.
فإلى الجنوب منها بحوالي سبع كيلومترات، تتدفق المياه العذبة من شلالٍ يصل ارتفاعه إلى 30 متراً، وفي الشرق منتجع راس هلال الذي تلتقي عنده الغابة مع البحر، ليشكلا منظراً خلاباً في أحضان الطبيعة.
هناك تنتشر أشجار القطلب، المعروفة محلياً باسم "الشماري"، وهي شجرة برية لها ثمار حلوة المذاق تُسمّى العجور، يتسابق السكان المحليون لجني ثمارها. ويعتبر رحيق أزهارها من أفضل ما يمكن أن يتغذى منه النحل لإنتاج عسل "الحنّون".
تمتاز درنة بشواطئها الجميلة على البحر الأبيض المتوسط، لعلّ أشهرها شاطئ رأس التين، وتُعتبر الزراعة من الأنشطة الاقتصادية الهامة في المدينة، ومن أشهر محاصيلها الزراعية من الخضراوات والفواكه، وأبرزها: العنب، والموز.
وفي درنة آثارٌ ضاربة في التاريخ بين كنائس ومساجد، كما تشتهر بوادي الإنجيل -أو وادي مرقس- حيث كان يختبئ القديس مرقس الرسول، ليكتب الإنجيل المعروف باسمه في الإنجيل المقدس.
فقد شهد حوض البحر الأبيض المتوسط في القرن الأول للميلاد أحداثاً دامية، عندما شرع الرومان واليهود في اضطهاد أتباع يسوع المسيح في كافة مستعمرات الإمبرطورية الرومانية.
وقد عُرفت تلك الفترة، التي امتدت حتى بداية القرن الرابع ميلادياً، بـ"فترة اضطهاد المسيحيين"، التي بلغت ذروتها مع تولي الإمبراطور دقلديانوس الحُكم في روما بين عامَي 284 و305.
لم يكن الجبل الأخضر في درنة بعيداً عن تلك الأحداث، كما توحي الآثار داخل أوديته الساحلية، التي تكاد لا تخلو من آثارٍ ترجع إلى تلك الحقبة.
لكن وادي مرقس كان الأكثر تأثراً بالنشاط المسيحي، وحوى آثار كنائس تاريخية بدائية، محفورة في الصخر، إضافةً إلى آثار معموديات قديمة يرجع بعضها إلى القرن الأول.
قندهار ليبيا التي تغلبت على التطرف
كانت درنة من المدن الليبية السباقة في احتضان التطرف، حيث شهدت جبالها وكهوفها معارك بين قوات النظام والجماعات الإرهابية خلال تسعينيات القرن الماضي.
وعندما انطلقت التحركات الاحتجاجية ضد نظام القذافي، سيطرت الجماعات المتشددة منذ الساعات الأولى على مدينة درنة. وبعد أيام، أُعلن عن إقامة تنظيم القاعدة "إمارة إسلامية" في المدينة.
بعد ذلك أُعلن عن مبايعة أبي بكر البغدادي، لتصبح درنة تابعة لتنظيم داعش. وفي العام 2014، تم تشكيل ما يُسمّى "مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها"، وهو تحالف للجماعات الإرهابية ضمّ كلاً من: "أنصار الشريعة"، و"جيش الإسلام"، و"شهداء بوسليم".
وبعد مواجهات عنيفة مع الجماعات الإرهابية، استمرت لأكثر من عامين، أُعلن في يونيو/حزيران 2018 عن تحرير المدينة من الإرهابيين، بعد سبع سنوات كتب خلالها الإرهاب صفحات دموية لن ينساها التاريخ.
اليوم، وبعد سنوات قليلة عرفت خلالها المدينة بعضاً من الهدوء، عادت درنة لتصبح "المدينة المنكوبة" التي شهدت مأساة مروعة، نتيجة السيول الجارفة التي راح ضحيتها الآلاف ودمّرت ربع المدينة.