يمكن القول إن قصة الفرزدق والنوار هي حكاية عن الحب، والخيانة، والحرية أيضاً. ولسنا نتحدث هنا عن حرية الفرزدق وحده، بل عن حرية النوار قبله، التي استردت من خلالها حقها من الفرزدق بعدما غدر بها.
ورغم أن الفرزدق تزوّج بنساءٍ كثيرات، وقال فيهنّ أشعاراً، فإن اسمه لم يقترن بامرأة مثلما اقترن بالنوار. فهي المرأة الوحيدة التي عاندته ووقفت بوجهه، حتى فضحته أمام العرب. ولم تكتفِ بذلك، بل إن بالها لم يهدأ حتى عادت وخدعته بدورها.
هو هَمّام بن غالب، وقد كان والده سيّد بادية تميم، وكان لذلك أثرٌ كبير على نفسيته وشِعره. سُمّي بالفرزدق لضخامة وجهه وشدّة تجهمه، فالفرزدق هو نوع من أرغفة الخبز الكبيرة.
كان يعتدّ بآبائه وعشيرته وقبيلته اعتداداً شديداً، فأخذ عاداتهم وتقاليدهم الجاهلية، حتى قيل إن أخلاقه تشبه أخلاق أهل الجاهلية. فقد عُرف بعصبيته، وفسقه، وشربه الخمر؛ وربما لذلك، كان شعره ينقص من الغزل.
كانت النوار امرأة صالحة وجميلة، لكنها لم تُحب الفرزدق. قصدته طالبةً منه مساعدتها وتزويجها، فخدعها وتزوّجها، معتبراً أنه أولى بها من غيره. فماذا حصل، وكيف استردت النوار حقها من الفرزدق؟ إليكم ما حصل وجعل قصة الفرزدق والنوار على كل لسان.
قصة الفرزدق والنوار.. غدرَ بها ففضحته
يُحكى أن النوار، وهي ابنة عم الفرزدق، أحبَّت رجلاً من بني أُمَيّة أراد أن يتزوج بها. فذهبت لابن عمها الفرزدق، وجعلت أمرها إليه وطلبت أن يكون وليّها ويزوّجها، فقال لها الفرزدق، "وكّليني، وأشهدي لي بذلك على نفسكِ شهوداً".
قبلت النوار عرض ابن عمها، وذهبت معه إلى الجامع، حيث اجتمع الناس، وقالت: "اشهدوا أني قد وكّلتُ ابن عمي همام بن غالب التميمي في أمر زواجي". وسرعان ما ردّ عليها الفرزدق قائلاً: "قد أشهدَتكُم أنها قد جعلت أمرها إليّ، وإني أشهدكم أني قد تزوجتها على 100 ناقة حمراء سوداء الحدق".
شعرت النوار بالغدر، ولم تدرِ ماذا تفعل، لكنها استترت من الفرزدق، وهربت منه من دون أن تدري أن العراقيل ستكون كثيرةً أمامها. فقد لجأت إلى شيوخ القبائل في البصرة، حيث تعيش، لكنهم ردّوها، إما احتراماً للفرزدق أو خوفاً من هجاء شعره وبطش قبيلته.
وكانت كلما استجارت بقبيلةٍ من قبائل العرب في البصرة، ردّوها خوفاً من شاعر العرب وشيخ بني تميم. وبنو تميم كانوا أكثر القبائل العرب عدداً، وأشدّهم بأساً، وأوسعهم أرضاً، وأكثرهم أحلافاً.
فهم من قيل فيهم، عندما وفدوا على النبي بعد الفتح، إنهم "لو غضب شيخهم شُرعت له 100 ألف سيف لا يسألون فيمَ غضب. ووفقاً لكتاب عبد الله الأصفهاني "الأغاني"، فهم من قال عنهم الفرزدق بلسانه:
فإن تغضب قريشٌ ثم تغضب فإن الأرضَ ترعاها تميمُ
هُمُ عددُ النجومِ وكلُّ حَيٍّ سواهم ما تُعدُّ لهم نجومُ
كان الناس يقولون للنوار، إذا ما استجارت بهم على زوجها: "يا ابنة الخير، لا طاقةَ لنا بلسانه، ولا بسيوف قومه". لكنها استطاعت بعد جهدٍ جهيد، وبمساعدة أخوالها، أن تخرج من البصرة.
قررت النوار أن تقصد عبد الله بن الزبير بن العوام في الحجاز، الذي كان قد بويع بالخلافة، وهو على حربٍ مع خلفاء بني أُمَيّة في الشام. فاستجارت بزوجة الزبير، خولة بنت منظور بن زبان، التي أجارتها.
لكن سرعان ما جاء الفرزدق إلى الحجاز، لاجئاً إلى حمزة بن عبد الله بن الزبير، يطلب منه أن يشفع له عند أبيه ليردَّ عليه زوجته النوار.
اختلفت على بن الزبير المشورة؛ فأما ولده، فكانوا ينصحونه بإعادة المرأة إلى زوجها، على اعتبار أنه في حربٍ مع بني أُمَيّة في الشام، وتميم أعزّ العرب، وهم نزولٌ بالعراق، فلا بدّ له منهم، ولا بدّ له من لسان شاعرهم.
أما زوجته، فكانت تقول لابن الزبير: "قد عرفتَه فاسداً غدر بها، فإن عجزتَ عن حماية امرأةٍ استجارت بك، فأيَّ سيدٍ تكون بين العرب"؟
وقع ابن الزبير في حيرةٍ من أمره، ولم يدرِ ماذا يفعل بقصة الفرزدق والنوار. وخلال ذلك الوقت، قال الفرزدق بيتيه الشهيرين:
أما بَنوهُ فلم تنفع شفاعتهم وشُفّعت بنتُ منظور بن زبانا
ليس الشفيعُ الذي يأتيكَ مؤتزراً مثل الشفيعِ الذي يأتيكَ عُريانا
الفرزدق والنوار.. حُب وانتقام
بعدما قلّب الموضوع في رأسه، أرسل عبد الله بن الزبير في طلب النوار، وقال لها: "إن شرَّ هذا (أي الفرزدق) قد بدأ وطالَ لسانه، فإما أن أقتله، أو أن تعودي إليه فيسكت".
خافت النوار ولم يَهُن عليها أن يُقتل ابن عمها، فرجعت إليه كارهة. لكن هروبها بهذه الطريقة كان قد فضح الفرزدق بين العرب، الذين ظلّوا يعيّرونه بما كان منها، فقرر الانتقام منها عندما شعر بالإهانة.
كانت النوار امرأة قوية وصريحة، لا تخاف من الفرزدق، بل تقول كلمتها وتمشي؛ حتى لو أغضبت تلك الكلمة ابن عمها الفرزدق.
ففي كتابه "تاريخ الأدب العربي"، يروي شوقي ضيف كيف أن الفرزدق سأل النوار مرةً: "أنا أشعَر أم جرير؟"، فقالت: "إنك لشاعر وإن جريراً والله لشاعر"، قال لها: "تقسمين على جرير؟!"، فقالت: "إنه والله غلبك على حلوه وشاركك في مُرّه".
بالعودة إلى قصة الفرزدق والنوار، التي صارت على كلّ لسان، غضب الفرزدق من ابنة عمّه وشعر بالإهانة عندما فضحته أمام العرب.
فجعل الفرزدق يخونها، حتى أنه تزوّج عليها، من دون أن يدم الزواج طويلاً. لكن في إحدى المرات التي كان قد واعد فيها إحدى الجاريات أن تأتيه في ساعةٍ متأخرة من الليل إلى خيمته، أخبرت الجارية النوار بمكان الزيارة وزمانها.
فقالت لها النوار: "إذا جاء الليلُ وأُطفئت القناديل، اخرجي من الخيمة وأَدخليني مكانك، فهو شيخٌ كبير ولن يعرف الفرق". وهذا ما حدث بالفعل.
فعلت الجارية ما أمرتها به النوار، وخرجت من خيمة الفرزدق، لتدخل النوار مكانها. فأمضى الفرزدق الليلة مع النوار من دون أن يدري، حتى إذا ما أشرقت الشمس اكتشف أنه تعرّض للخديعة، بعدما رآها نائمة بجواره.
قال لها مستنكراً: "أهذه أنتِ؟" فردّت قائلة: "نعم يا فاسق"، ليقول: "للهِ ما أَلَذَّكِ حَراماً وأقبَحَكِ حَلالاً".. فاشتُهرت مقولته تلك، وصارت تُضرب مثلاً.
في قصة الفرزدق والنوار، كانت تلك الليلة الوحيدة التي تمضيها النوار معه، باختيارها. فمنذ غصبها حريتها حين خدعها أمام الناس في الجامع، ومنذ لاحقتها شجاعته في سخريته من ابن الزبير في عقر داره؛ في كلّ هذا، لم يكن للنوار حيلةٌ في الفرزدق.
لكن في تلك الليلة التي قضتها معه داخل خيمته، لم تكن النوار مخدوعة، ولا مُجبَرة. كانت هي صاحبة الحيلة والقدرة، كما كانت متحررة من سلطة الفرزدق عليها، تماماً كما كان الفرزدق متحرراً من النوار.
فقد كانت بنفورها عنه وهروبها منه، فضحته بين العرب وحاصرته في مكيدته، لأن الفرزدق -ومنذ 14 قرناً- ما زال يُعيّر بأن زوجته كرهته وهربت منه، فلحقها.
حتى أن جرير، العدو الأول للفرزدق، قال فيه بيت الشعر الشهير: "لقد أصبحتْ عرسُ الفرزدق ناشزاً ولو رضيت رمح استِهِ لاستقرت".
لم يعش الزوجان غير مقهورين إلا في تلك الليلة، حين كانا متحررَين من كل القيود، فحَسُنَت ليلتهما كما لم تُحسَن لهما ليلة من قبل أو من بعدها. ويُقال إنها كانت النافذة الوحيدة التي وُلدت فيها قصة الفرزدق والنوار، والنافذة الوحيدة التي وُلد فيها بين الفرزدق والنوار شعورٌ صادقٌ وجميل.
لكن لما عادا إلى حياتهما الطبيعية، لم يطل بهما الزمن حتى افترقا وتطلقا، لكن تلك الليلة كانت قد فعلت فعلها. فأنشد الفرزدق يقول:
ندمتُ ندامةَ الكُسَعي لما غدتْ منّي مُطلَّقةً نوارُ
وكانت جنّتي فخرجتُ منها كآدمَ حين أخرجه الضرار