توفي الكاتب التشيكوسلوفاكي ميلان كونديرا، مؤلف رواية "كائن لا تُحتمل خفته"، عن عُمر ناهز الـ94 عاماً، وذلك بعد أن عاش قرابة 5 عقود في العاصمة الفرنسية باريس.
قالت آنا مارازوفا، التي تدير مجموعة أعمال ومكتبة كونديرا، إنه توفي في شقته في باريس، يوم الثلاثاء 11 يوليو/تموز، بعد صراع طويل مع المرض.
حصل كونديرا على جوائز تقديرية لطريقة تصويره للموضوعات بشكل سهل ومعقد في آن واحد، ضمن عدد ضخم من القصائد والمسرحيات والمقالات والروايات، وطريقة تركيبه للشخصيات التي تطفو بين الواقع المادي للحياة اليومية وعالم الأفكار والدواخل النفسية والإنسانية العميق.
الروائي المنفي الذي وجد في فرنسا وطناً ثانياً
ولد كونديرا في 1 أبريل/نيسان من العام 1929، في برنو التشيكوسلوفاكية، ودرس الموسيقى مع والده، عازف البيانو وعازف الموسيقى الشهير، لودفيك كونديرا، قبل أن يتحول إلى الكتابة.
ومن هذا التحول أصبح محاضراً في الأدب العالمي في أكاديمية السينما في براغ بحلول العام 1952. ورغم رفضه للمدرسة الواقعية الاشتراكية التي سادت بين الكتاب في تشيكوسلوفاكيا خلال فترة الخمسينيات، نمت سمعة كونديرا الأدبية مع نشر سلسلة من القصائد والمسرحيات، بما في ذلك قصيدة للبطل الشيوعي يوليوس فوتشيك، التي نُشرت في عام 1955.
ورغم نجاحها آنذاك فإنه رفض لاحقاً هذه الأعمال المبكرة، قائلاً: "عملت في العديد من الاتجاهات المختلفة للبحث عن صوتي وأسلوبي ونفسي" معتبراً أنها كانت إرهاصات مرحلة تكوينه ككاتب رصين.
وقد تزوج ميلان كونديرا من فيرا هرابانكوفا، التي كانت تعمل في ذلك الوقت مذيعة إخبارية تلفزيونية، في العام 1963.
كونديرا وصراعه مع الشيوعية
كان كونديرا عضواً متحمساً للحزب الشيوعي في شبابه، وقد طُرد من الحزب مرتين، مرة بعد تورطه في "أنشطة مناهضة للشيوعية" عام 1950، ومرة أخرى في عام 1970، خلال حملة القمع التي أعقبت ربيع براغ عام 1968، والذي كان أحد أفرادها الأبرز.
وكان ربيع براغ هو فترة قصيرة من التحرر عاشها التشيكوسلوفاكيون أثناء تنصيب ألكسندو دوبتشيك سكرتيراً أول للحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا عام 1968، حيث منح حرية أكبر للصحافة لم يكن الحزب الشيوعي يسمح بها، وسعى لإصلاحات اقتصادية وسياسية.
وكانت روايته الأولى "غراميات مضحكة" أو "The Joke" لعام 1967، مستوحاة من تلك الفترة، وحققت نجاحاً كبيراً، قبل أن تصبح مصدراً لغضب السلطة عليه بعد انتهاء فترة ربيع الحريات.
إذ اختفت الرواية من المكتبات بعد وصول الدبابات الروسية إلى ساحات براغ الأشهر، ووجد كونديرا نفسه مدرجاً على القائمة السوداء، وطُرد من وظيفته التعليمية في ذلك الوقت، والتي عمل بها بجانب الكتابة.
بداية من هذه المرحلة أصبح كونديرا أحد أبرز المعارضين التشيكوسلوفاكيين ومنتقدي النظام الشيوعي، إلى أن أصبح هو نفسه هدفاً لأجهزة المخابرات الشيوعية، خاصة عندما عارض الغزو الذي قاده السوفييت لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، واضطر للهجرة إلى فرنسا عام 1975.
الحياة في باريس.. و"كائن لا تُحتمل خفته"
بعد أن فقد الأمل في أن تشيكوسلوفاكيا أو القدرة على الحياة فيها بشكل طبيعي في ظل النظام الشيوعي، انتقل ميلان كونديرا إلى فرنسا في عام 1975 للاستقرار، قبل أن يفقد جنسيته عام 1979، ومن ثم يصبح مواطناً فرنسياً بحلول عام 1981.
وبفضل صديقه فيليب روث، الذي نشر أعمال كونديرا كجزء من مجموعة كُتّابه الأجانب في قائمة "كُتاب من أوروبا الأخرى"، وإصدار روايته الأيقونية "كائن لا تُحتمل خفته" (The Unbearable Lightness Of Being) في عام 1984، تأكدت مكانته كنجم عالمي في عالم الأدب والرواية.
وتدور أحداث الرواية في أجواء براغ العنيفة عام 1968، وتتبع زوجين في صراعهما مع السياسة والخيانة الزوجية، والحياة بين راحتي الحرية والمسؤولية. ومع نجاح الرواية الواسع، وترجمتها لعشرات اللغات حول العالم وبيع الآلاف من النسخ، تم تحويل الرواية لفيلم فرنسي عام 1988، وحمل نفس الاسم، من بطولة دانيال داي لويس وجولييت بينوش، وبذلك ضمن ميلان كونديرا الصعود إلى طبقة النبلاء الأدبية.
إلا أن الكاتب انتقد رؤية المخرج من الفيلم، والتعديلات التي أضفاها لعمق الشخصيات وتركيباتها.
بعد ذلك نُشرت رواية "الخلود" (Immortality)، وهي آخر روايات كونديرا المكتوبة باللغة التشيكوسلوفاكية، في عام 1988. ليبدأ بعدها مرحلة الكتابة باللغة الفرنسية في سلسلة من الروايات التي تناولت التأمل في الحنين والاغتراب عن الذات ولوعة الذاكرة وإمكانية العودة للوطن.
وقد تركزت كتابات ميلان كونديرا بشكل عام على الكوميديا السوداء والنظرة المأساوية للعلاقة الصعبة مع بلده الأصلي، وانتقاداً ضمنياً للسيطرة التي تمارسها موسكو على تشيكوسلوفاكيا وجيرانها.
آخر أعماله: رواية "مهرجان التفاهة"
وقد نشر ميلان كونديرا آخر رواياته القصيرة في العام 2013، بعنوان "مهرجان التفاهة"، (The Festival of Insignificance)، وفي الرواية، يلقي ميلان كونديرا الضوء على أخطر المشاكل الاجتماعية والإنسانية، وفي الوقت نفسه لا يذكر جملة واحدة جدية، مع تسليط الضوء بإعجاب على واقع العالم المعاصر، وفي الوقت نفسه تجنب الواقعية تماماً، ويفرط في استخدام السخرية والفكاهة، وهو ما يُعد نمطاً جديداً من نوعه للكاتب.
لذلك انقسمت آراء النقاد حول رواية مهرجان التفاهة إلى قسمين، فمنهم من أشاد بروح الدعابة الأنيقة للرواية، في حين رأى آخرون أنها تمثل نهاية مخزون الكاتب في الأدب الرفيع.
العلاقة مع الوطن ومحاولات "اغتيال كاتب"
بعد سقوط جدار برلين، نادراً ما عاد كونديرا إلى جمهورية تشيكوسلوفاكيا. وقد تصدى لعدد من المزاعم والاتهامات التي قدمتها بعض وسائل الإعلام التشيكية عام 2008، والتي ادعت أنه كان مخبراً وعميلاً في الخمسينيات من القرن الماضي.
إلى أن كسر كونديرا صمته الإعلامي ليصدر نفياً غاضباً لوكالة الأنباء التشيكية (CTK)، قائلاً إنه "مندهش تماماً" من تلك المزاعم التي وصفها بأنها "اغتيال كاتب".
وبالرغم من زياراته المتقطعة لموطنه الأصلي بعد سقوط الشيوعية، لم يتمكن ميلان كونديرا من استعادة الجنسية التشيكية إلا بحلول عام 2019، وذلك بعد عام من لقائه وزوجته برئيس الوزراء التشيكي أندريه بابيس، الذي وصف الاجتماع بالكاتب التشيكي بأنه " شرف عظيم".
بعد ذلك بعام، قدم بيتر درولاك، سفير جمهورية التشيك في فرنسا، شهادة الجنسية التشيكية لميلان كونديرا، واصفاً إياها بأنها "لفتة مهمة للغاية، وعودة رمزية لأعظم كاتب تشيكي مجدداً إلى جمهورية التشيك".