كانت الحرب المعمدانية، التي تُسمى أيضاً بـ"انتفاضة الكريسماس"، واحدة من أهم ثورات المقاومة التي قادها الرجل الأسود المُستعبد لاستعادة حريته وتأكيد حقه الإنساني بالعيش والمساواة، في عالمٍ كان مصمّماً على إبادته.
استمرت الحرب المعمدانية 8 أيام فقط، لكنها جمعت أكثر من 60 ألف "عبداً" في جامايكا، وهو الرقم الذي اعتُبر قليلاً، لأنه شكّل أقلّ من نصف "العبيد" الجامايكيين؛ إذ تشير السجلات إلى أن عددهم بلغ نحو 300 ألف ما بين عامَي 1831 و1832.
وما يميز انتفاضة الكريسماس التي اندلعت عام 1831، أن من قادها هو راهبٌ مسيحي من أصولٍ إفريقية، وأنها الوحيدة التي نجحت في إنهاء العبودية ليس فقط في جامايكا؛ وذلك رغم أن تاريخ المستعمرات الأوروبية حافل بتمردات "العبيد" ضدّ الظلم.
لكن أولاً، كيف استعمرت بريطانيا جامايكا؟
تُعتبر جامايكا واحدة من أكبر الجزر الواقعة في البحر الكاريبي، وقد اكتشفها كريستوفر كولومبوس سنة 1494 خلال رحلته الاستكشافية الثانية إلى أمريكا، فأصبحت تابعة مذاك لمملكة قشتالة الإسبانية ثم الإمبراطورية الإسبانية؛ قبل أن تستولي عليها بريطانيا رسمياً عام 1670، بعد حربٍ مع الإسبان بدأت سنة 1655.
لكن قبل ذلك، كان المستعمرون الإسبان قد بدأوا بإحضار عددٍ قليل من العبيد الأفارقة إلى جامايكا سنة 1517، ولكنهم قاموا بتحريرهم عند بداية الحرب مع بريطانيا في العام 1655؛ للمشاركة في مقاومة المُستعمر الجديد (بريطانيا).
ومع قدوم المستعمرين الإنجليز إلى الجزيرة، بعد الاستيلاء عليها رسمياً، قاموا باستقدام العبيد من إفريقيا بشكلٍ واسعٍ؛ من أجل العمل في مزارع قصب السكر الذي سرعان ما أصبح سلعة التصدير الرئيسية للبلاد.
وعام 1660، كان عدد العبيد في جامايكا 500 شخص، ارتفع إلى 10 آلاف مع بداية 1670، ليصل إلى 40 ألفاً سنة 1700، بعدما كثّفت "الشركة المَلِكية لإفريقيا" من عملية "استيراد" العبيد من غرب إفريقيا إلى أمريكا الشمالية ومنطقة الكاريبي.
ووفقاً للإحصاءات، ففي الفترة المُمتدة من عام 1672 إلى 1713، نقلت الشركة نحو 125 ألف "عبد" عبر المحيط الأطلسي، توفي منهم نحو 25 ألفاً خلال الرحلات البحرية القاسية.
وقبل أن تقع الحرب المعمدانية في أواخر العام 1831 وبداية 1832، شهدت جامايكا بعض ثورات العبيد المُتفرقة في أعوام 1673 و1670 و1745. ولكن أبرزها كانت تلك التي جرت عام 1760 وأدّت إلى مقتل المئات، إضافة إلى خسائر مادية كبيرة.
وبالموازاة مع تلك التمردات، كانت بريطانيا تعيش على وقع ظهور حركة مناهضة لنظام العبودية، والتي ازدادت انتشاراً مع نهاية القرن الـ18 وبداية القرن الـ19.
فقد قاد السياسي ويليام ويلبرفورس حملة بالبرلمان البريطاني من أجل إلغاء العبودية، ونجح بمرحلة أولى في إصدار قانون يُلغي تجارة الرقيق؛ على أمل أن يدفع ذلك -مع مرور الوقت- إلى إلغاء العبودية بشكلٍ تلقائي ونهائي.
من هو صامويل شارب، قائد الحرب المعمدانية؟
في ظل تلك الحركة المناهضة لنظام العبودية في بريطانيا أواخر القرن الـ19، ظهر في جامايكا صامويل شارب؛ راهبٌ مسيحي من أصول إفريقية ينشر الوعي لدى رفاقه المُستعبدين، ويبيّن لهم حقوقهم، ويدعوهم سراً إلى الاستعداد لانتفاضة ضد الظلم.
هذه الانتفاضة التي أرادها صامويل شارب سلمية، تحولت رغماً عنه إلى تمردٍ عنيف جداً، لا سيما بعدما جُوبه بقمعٍ وحشي من قِبل المستعمر البريطاني.
وُلد صامويل عام 1801 في مزرعة تابعة لعائلة "شارب"، من المستعمرين البريطانيين، تقع بمدينة "سانت جيمس" شمال غربي جامايكا. وقد وُلد تحت اسم "أرتشر"، لكنه قرر تغييره لاحقاً إلى صامويل.
ورغم أنه كان مُستعبداً طول حياته، فإن صامويل شارب حظي بفرصة التعليم في صغره، كما وسّع ثقافته ووعيه السياسي من خلال قراءة الكتب والجرائد التي كانت تقع بين يديه، قبل أن يصبح شمّاساً ثم راهباً في إحدى الكنائس المعمدانية.
كانت الاجتماعات الدينية نشاطاً مسموحاً به للعبيد في جامايكا والعديد من المستعمرات البريطانية، فكان صامويل شارب قادراً على استغلال تلك الاجتماعات لإيصال أفكاره والتعبير عن موقفه المُناهض للعبودية.
ووفقاً لما جاء في موقع Baptists Together، فقد كان صامويل محبوباً كثيراً، ولطالما أذهل الناس بقوَّته وشغفه وخُابه الداعي إلى الانتفاضة وتغيير الواقع. وعندما بلغ 31 عاماً، كان قد خطّط لمقاومة الظلم عن طريق تنفيذ إضرابٍ عام.
من انتفاضة سلمية إلى تمرد عنيف
كانت خطة صامويل تتمثل في أن يرفض المستعبدون العمل بعد عودتهم من إجازة عيد الميلاد عام 1831، وتنفيذ ما يُعرف بعصيانٍ مدني، أي مواصلة إضرابهم حتى تلقى مطالبهم آذاناً صاغية لدى مُلاك المزارع ومسؤولي البلاد.
وكان شارب يعتقد أن المُلاك قد يستمعون لمطالب المستعبدين، ويستجيبون لمطالبهم، خصوصاً أنه خطط لأن يكون الإضراب خلال موسم حصاد قصب السكر. وفي حال لم يُقطع القصب الناضج، فسوف يتعرض للتلف.
سعى صامويل شارب لأن تكون المقاومة سلمية، ونصح رفاقه بعدم اللجوء إلى المواجهة الجسدية، إلا في حالة رُفضت مطالبهم. ولكنه كان مستعداً أيضاً لكل الاحتمالات، وإمكانية عدم نجاح الاحتجاج السلمي، فاستعدّ عسكرياً للتمرد.
وبحسب موقع History، فإن أكثر من 60 ألف مُستعبد كانوا يعيشون وقتئذٍ في جامايكا شاركوا في الإضراب العام وتعاهدوا -تحت قيادة صامويل شارب- بعدم العودة إلى العمل حتى حصولهم على حريتهم، وعلى أجرٍ يسمح لهم بالعيش الكريم.
ومع انتشار خبر الإضراب عبر كل أرجاء الجزيرة، لم يتفاعل المستعمرون البريطانيون مع مطالب المستعبدين بشكلٍ إيجابي. أُرسلت قوات مسلحة إلى مدينة سانت جيمس، كما رست سفن حربية في ميناء مونتيغو باي والنهر الأسود، مع تصويب فوهات مدافعها نحو المدينة.
وعندما وصلت الأخبار إلى المستعبدين، تحول التمرد إلى انتفاضة فعلية. فأحرق "العبيد" يوم 28 ديسمبر/كانون الأول 1831، البيت الكبير لمزرعة كينسينغتون، معلنين بداية الثورة، فتبعها مزيد من الحرائق.
استمرت الثورة 8 أيام فقط، ولكن خسائرها كانت كبيرة بالنسبة إلى "العبيد" على المدى القصير. فقد أسفرت عن مقتل نحو 300 مستعبد و14 حارساً ومزارعاً من "البيض"، إضافة إلى خسائر مادية قُدّرت بنحو 1.1 مليون دولار.
وإلى جانب ذلك، تمت إدانة ثوار الحرب المعمدانية بشكلٍ سريع ومن دون محاكمة، وقد تمّ تنفيذ حكم الإعدام شنقاً بحق 300 منهم، ثم قُطعت رؤوسهم ووُضعت في محيط المزارع التي كانوا يعملون ويعيشون فيها.
أما أولئك الذين أفلتوا من عقوبة الإعدام، فقد عوملوا بوحشية ولم ينجُ كثير منهم من الموت، بسبب التعذيب الوحشي والبطيء.
وبعدما تم اعتباره الشخصية الرئيسية في اندلاع الحرب المعمدانية، فقد اعتقل صامويل شارب وتم شنقه في ساحة يُطلق اسمه عليها اليوم، مع دفع تعويضٍ لـ"سيده" قُدّر بـ16 جنيهاً إسترلينياً عن "خسارة ملكيته".
فضّل الموت شنقاً على العيش بعبودية
أُعدم صامويل شارب يوم 23 مايو/أيار 1832، فكان آخر شخص يُعدم بسبب المشاركة في الحرب المعمدانية. وقد سرد كتاب Death Struggles of Slavery، لمؤلفه البريطاني الجامايكي هنري بليبي، اللحظات الأخيرة التي سبقت إعدام شارب.
فأشار إلى أنه، ولما تم تذكيره بأنّ الكتب المُقدسة تعلم البشر أن يكونوا راضين عن الوضع الذي خصصته لهم العناية الإلهية، وأنهم مُلزمون بالخضوع بصبر لمصيرهم، فإن صامويل شارب ردّ قائلاً: "إذا كنت قد أخطأت في الأمر، فإني واثق بأن الرب سيغفر لي لأنني ألقيت بنفسي إلى الكفارة. أفضل أن أموت شنقاً، على أن أعيش في عبودية".
ورغم فشل "انتفاضة الكريسماس" في جامايكا، فإنّ صداها تخطى المحيط الأطلسي ووصل إلى بريطانيا، حيث لقيت الوحشية- التي تم من خلالها قمع الانتفاضة- سخط واستهجان كثير من السياسيين والرجال الفاعلين في المجتمع؛ ما زاد من الاقتناع بضرورة وضع حد نهائي للعبودية في بريطانيا، وبكل مستعمراتها البعيدة.
وبعد سنة واحدة من اندلاع الحرب المعمدانية، وفي 26 يوليو/تموز 1833، صادق مجلس العموم في البرلمان البريطاني على قانون إلغاء العبودية بشكلٍ تدريجي، على أن يتم إلغاؤها نهائياً وإلى الأبد سنة 1840.
ولكن تم إنهاء نظام العبودية بشكلٍ رسمي ونهائي مع بداية عام 1838، عندما دفعت الحكومة البريطانية 20 مليون جنيه إسترليني تعويضاً لمُلاك المستعبدين في مختلف مستعمراتها؛ وهو المبلغ الذي كان يمثل في ذلك الوقت، نحو نصف الميزانية السنوية للمملكة المتحدة.
وبعد إلغاء العبودية، بقيت جامايكا مستعمرة تابعة للتاج البريطاني حتى العام 1958، حين انضمت إلى فيدرالية الهند الغربية، التي كانت تضم المستعمرات البريطانية السابقة بجزر الأنتيل. وفي أغسطس/آب 1962، أعلنت استقلالها مع بقائها ضمن اتحاد الكومنولث.
اعترفت السلطات الأمريكية بدور صامويل شارب في النضال من أجل حرية البلاد، فأعلنته بطلاً قومياً في سنة 1975، كما وضعت صورته على ورقة عملة الـ50 دولاراً الجامايكي.